فقر الفكر وفكر الفقر
العنوان بعاليه خطّه قلم الأديب الكبير الراحل «يوسف إدريس»، عنوان إذا جرى إسقاطه على واقعنا المؤلم، فإننا أمام أزمة كبيرة، مستوى دخل الفرد فى مصر لا يقارن بمستوى دخل نظيره الأمريكى، ومع ذلك نحن هنا فى مصر لدينا إنفاقات سفيهة، لن أحدثك عن أثاث العروسة وغرفة نوم الأطفال والمعيشة والنيش والكرانيش، وكراتين الصينى الحبيسة أسفل الأسرّة وفوق الدواليب، فضلًا عن الشبكة وما ثقل منها، لأن بنت عمها قيّموها بربع كيلو ذهب، وهى لا تقدر بثمن أو مثقال من ذهب، بينما الأمريكى يبدأ حياته فى استديو، ملحق به مطبخ مفتوح على الصالة، وقليل من أثاث بسيط، وأوانٍ لزوم المطبخ بغير إسراف.
فى مصر، الناس تبحث عن السجن كما تبحث عن أخبار الفنانين ولاعبى كرة القدم على «جوجل»، ما ينتج عنه غارمات وغارمون، وسجون وشجون ومجتمع مطحون، وهنا تنشط شركات الإقراض متناهى الصغر، لتقرض الآباء والأمهات قروضًا بعشرات الآلاف بفوائد فوق الربوية، بزعم تنمية مزرعة دواجن لا يتعدى القطيع فيها عشر دجاجات وديك شركسى يتيم، وربما ورشة ميكانيكى مغلقة، وغير معلوم عنوانها، مجتمع يسعى إلى سجن الأب والأم بالقروض، وسجن الزوجين الجديدين فى معتقل الهَم والغم والندم، وهو ما يؤكد نظرية عمنا «يوسف إدريس» عن «فقر الفكر» الذى ينتهى بنا إلى «فقر مدقع».
الأزمة أننا بلد غير منتج، يستورد بأكثر مما يصدر أو حتى ينتج للسوق الداخلية لتقليل الفجوة الدولارية التى تفاقمت واتسعت فى السنوات الأخيرة.
فقط سوف أحيلك لتصريحات رئيس الجمهورية قبل أيام حتى تدرك حجم المأساة...
يقول الرئيس السيسى: مصر تستورد عطورًا ومزيلات عرق وماء تواليت بـ٤٤٠ مليون دولار.
وأضاف الرئيس السيسى: نستورد مستحضرات تجميل تقريبًا بـ٥٠٠ مليون، وحقائب يد بـ٢٠٠ مليون.
والحق أقول: هذه معلومات صادمة فى بلد فقير.
٧٠٠ مليون دولار مستحضرات تجميل وحقائب يد، وكأن نساء مصر منعدمات الجمال، إننا لننعى ذلك الزمن الذى كانت أمهاتنا يقابلن آباءنا بجلابية الخبيز والرماد يغطى وجوههن حتى لتبدو المرأة كما العفريتة وأم عصفور فى فيلم «طاقية الإخفاء» حينما انفجر المعمل فى وجهها، وكان الآباء يرضون دون امتعاض، وكان «الزواق والتجميل» مانيوال دون كوافير، فقط قرصتين على الخدين بديلًا عن أحمر الخدود، وكان جمالهن فيه بركة كما أيامهن الجميلة، كارثة الكوارث أن نستورد بـ٢٠٠ مليون دولار حقائب يد، رغم أننا بلد منتج ومصدر للجلود، ولكن الجميلات مستهلكات المساحيق لا يرضيهن غير البراندات العالمية، رافضات الحقائب اللوكال.
إنه نداء للحكومة: أوقفوا استيراد هذه المنتجات السفيهة، سيدات مصر جميلات، ولا يحتجن لهذه المساحيق التى تسحق جمالهن وبديع مناظرهن، خاصة حينما يستيقظن بكل البراءة صباحًا، قبل الحديث الصامت مع المرآة، وما يسبقه من دعاء الرجال بأن «تتلبنن زوجاتهم» أو يفتحوا فى مصر فرعًا للحبيبة «لبنان».
ويمكن منح تسهيلات بجد من خلال شباك واحد ليس له أشقاء من الشبابيك، وذلك لإنشاء مصانع لمستحضرات التجميل، باستثمارات مصرية لتوطينها فى مصر، ويمكن الاستعانة بخيرات الشركات المصدرة لمصر التى تملك التكنولوجيا فى صناعة مستحضرات، يترتب على أى خلل فيها ربما تحويل المرأة ذات الشعر الكثيف إلى قرعاء، لا شعر يعلو رأسها ولا قليل من ذكاء، وربما يؤثر على صحة البشرة، ونشاهد الملايين من «أمنا الغولة» تمشين فى الشوارع.
لن أسهب فى الحديث عن الشيكولاتة التى تقدر تكلفة استيرادها تقريبًا بـ٤٠٠ مليون، حسب ما قاله الرئيس، فرغم أننا بلد منتج للسيراميك والخزف والفخار، فإننا نستورد «سيراميك» بـ٢٣٥ مليونًا، حتى ورق الفويل يجرى استيراده بـ٥٠٠ مليون، علمًا بأن صناعة ورق الفويل لا تستعصى علينا، وقد كنا زمان نستخدم الطواجن فى بيوتنا، وكان مذاق الطعام المطهى فيها لا يقارن.. يا سادة أوقفوا السفه والاستيراد السفهى المستفز، وتسلحوا بفكر الأغنياء وتجنبوا ضحالة فكر الأغبياء.