يا بيوت السويس.. صيحة الأبنودي وحمام.. لهزيمة الهزيمة
إن كان للنكسة من مكارم، فالمَكرُمة الأهم هى تلك الهبّة التى أصابت الشعب المصرى بكل طوائفه، صحيح أن الصدمة كانت قوية، وصحيح أن اليد كانت غادرة، وصحيح أن الانكسار كان مفزعًا، لكن الأهم أنه بقدرة قادر خرجت روح جديدة من بين ركام النفوس المتهدمة، روح مرتوية بالتحدى والرغبة فى الانتصار، وكأن رسالة جماعية وصلت للكل فى وقت واحد مفادها أنه لا وقت لدينا، فالهزيمة ثقيلة والوطن يحتاج أيادى أبنائه.
وصلت الرسالة للشعب كما وصلت إلى المبدعين الذين أشهروا سيوف مواهبهم فى وجه الانكسار، وتزاحم الجميع على استديوهات التليفزيون والإذاعة لتسجيل إنتاجهم.
أحد هؤلاء الذين هبّوا كان ذلك الشاب الصعيدى النحيف الذى أعلن عن لغته الجديدة الساحرة قبل سنوات فى ليالى القاهرة المضيئة، بعد أن حضر غريبًا من أبنود فى الجنوب واسمه عبدالرحمن الأبنودى.
نزلت النكسة على رأس عبدالرحمن كالصاعقة، ورأى أن مكانه الحقيقى فى الصف الأمامى، فكانت السويس هى مبتغاه، ذهب إليها مصطحبًا، بجوار موهبته الفائرة، صوتًا خياليًا نقيًا نقاء الذهب المسبوك به وجه توت عنخ آمون.. صوتًا يحمل بين أوتاره روح مصر الأصلية التى لم تشُبها شائبة، واسمه بسيط ورائق مثل صوته: «محمد حمام» المهندس الأسمر القادم من جنوب الجنوب حيث روح النوبة العذبة.
الأبنودى وحمام ألقيا نفسيهما فى أحضان كابتن غزالى وفرقته التى سماها «أبناء الأرض» استمساكًا منه بأرضه المسلوبة، ومن رحم تلك الحالة ولدت فى ذهن عبدالرحمن فكرة نبيلة لصناعة ٣٠ أغنية وطنية تساعد فى انتشال الروح المنهزمة وإعلاء ثقافة المقاومة والانتصار، وعلى الفور عرض الأبنودى فكرته على ابن السويس «محمد العروق» رئيس إذاعة صوت العرب حينها، وكان الشرط أن أركان الأغنية كلها من مؤلف وملحن ومطرب يعملون بلا مقابل فى هذا المشروع، على أن تتولى الإذاعة أمر الاستديو والعازفين.. وكان الجواب جاهزًا من رئيس الإذاعة وكل قيادتها:
هيا بنا.. سِر على بركة الله.
بدأ الأبنودى مشروعه بصحبة الجنوبى الآخر محمد حمام، وعلى أنغام صاغها مبدع ثالث اسمه إبراهيم رجب، وها نحن نصل سريعًا إلى يوم جمعة ستيناتى ثقيل الوطأة، وأمامنا مشهد الثلاثى عبدالرحمن وحمام ورجب يفترشون استديو صوت العرب لتسجيل باكورة مشروع الـ٣٠ أغنية الملهم، ثم يصدح صوت حمام داخل الاستديو لأول مرة بالمقطع الأول لكلام الأبنودى:
يا بيوت السويس يا بيوت مدينتى
أستشهد تحتك وتعيشى إنتى
وفى تلك اللحظة ينطبع صوت حمام للأبد على أسطوانة، كما سينطبع بعد قليل على قلوب الشعب أيضًا.. وفور أن ينتهى حمام من تسجيل الأغنية كاملة يكون الإرهاق قد استبد بالثلاثى ومعهم الفرقة الموسيقية.. وما إن رأوا الأسطوانة فى يد المهندس معلنًا عن انتهاء التسجيل، حتى قرر الأبنودى اصطحاب رفيقيه حمام ورجب إلى بيته القريب فى باب اللوق لمكافأتهما بوجبة ساخنة تناسب جيوبهما رقيقة الحال وتشعرهما بإنجازهما، وانصرف الثلاثة تاركين لمهندس الإذاعة مهمة التنسيق فيما بعد مع «محمد العروق» لإذاعة الأغنية فى قادم الأيام بعد أن تمر على الموافقات الرسمية المعتادة، آملين ألا تطول فترة الانتظار إلى أسابيع.
ولكن أتت المفارقة فور دخولهم شقة باب اللوق، حيث فتح أحدهم الراديو ليفاجأ الجميع بصوت حمام ينساب من داخل الراديو بالأغنية التى سجلها منذ أقل من ساعة زمن، كيف ذلك ومتى ومَن أعطى الإذن السريع دون الالتزام ببروتوكولات الإذاعة؟
ليس مهمًا.. المهم فى الأمر أنهم نسوا جوعهم وتركوا وجبتهم الساخنة، وانضموا إلى الملايين الذين يسمعون فى الوقت نفسه صيحة «بيوت السويس» الهادرة التى يقسم فيها حمام فى النهاية على أن «دى بلدنا حالفة ما تعيش غير حرة».
لاحقًا بعد ما يناهز الستين عامًا ستحتاج بيوت أخرى أصابتها نفس اليد الغادرة لصوت حمام ليغنى لها ما غناه لبيوت السويس، بيوت غزة التى استشهد تحتها بالفعل جُل أبنائها وأشرفهم لكى تعيش، والأكيد أنها بالرغم من كل هذا الجنون والعبث ستعيش فعلًا ولو كره الكارهون والمتنطعون، لأن فلسطين هى الأخرى «حالفة ما تعيش غيرة حرة».. ولو طال الأمد.
عن أيقونة حمام والأبنودى ورجب وطعم البيوت الذى صار علقمًا نتحدث:
محمد حمام: صوت الأرض الذى دخل الهندسة والمعتقل.. والقلوب
فى منتصف الثلاثينيات سُمع صوت طفل وليد يخرج من بيت عامل نوبى يُدعى سيد محمد إبراهيم يعيش فى حى بولاق العتيق بالقاهرة. سماه والده محمد، نادته أمه بعد ذلك حمامة، ثم صار الاسم الرسمى له محمد حمام، بعد قليل شد الأب رحاله إلى منبعه فى الجنوب، حيث أسوان والنوبة، وعاش الطفل متنقلًا رفقة أسرته بين الجنوب والشمال حتى استقر به الحال فى القاهرة قبيل دخوله الجامعة.
كان الفتى محمد ينظر بإكبار واحترام فائق لوالده، ويراه أهم رجل على ظهر الأرض، وكان الأب عاملًا فيما يعرف بالترسانة، تستطيع أن تقول عنه إنه كان كبير العمال، ليس له رئيس غير شخص واحد فقط يدعوه الجميع بالمهندس. ساء الفتى- الذى لم يبرح الطفولة بعد- أن يرى أحدًا أكبر وأهم من أبيه، فقرر منذ تلك اللحظة أن يصير مهندسًا، حتى يكسر ذلك الحاجز النفسى، وكأنه بتفكيره الطفولى أراد أن يطبطب على أبيه الذى يضطر أن يأتمر بأمر ذلك المهندس.
نقفز إلى أواخر الخمسينيات حيث كلية الفنون الجميلة قسم العمارة.. كان الطالب النوبى محمد حمام هو نجم الكلية وصوتها الذى يعبر عن أحلام قاطنيها، وهنا نقرأ شهادة مجهولة كتبها زميل له من الدفعة بعد حوالى ٤٥ عامًا فى جريدة الأهالى فى عدد ٢ يونيو ١٩٩٩، هذا الزميل لم يكن غير الفنان التشكيلى الكبير عدلى رزق الله.. قال الرجل عن صديقه حمام بالنص:
«كان محمد حمام هو الصوت الذى يشجى أمسياتنا وليالينا التى كثيرًا ما قضيناها بين جدران الكلية نعمل ونجتهد، ثم نطفئ الأنوار ليغنى الخجول صاحب الصوت الشجى الملىء بكبرياء آتٍ من الجنوب، محمد حمام ابن النوبة الأصيلة صاحب البشرة التى لوّحتها شمس الجنوب، وصاحب ابتسامة رقراقة تتدفق وتنسل من عينين تبرقان بحنان دافئ يتوهج أبدًا ويجرفك معه إن صفا قلبك له وبه».
الحقيقة أن حمام لم يكن يدور فى خلده أن يصير صوته مطلبًا جماهيريًا للطلاب، بل على العكس كان خجله يمنعه من الانغماس فى ذلك الدور، لكن الأصدقاء لم يتركوا له فرصة الهروب بموهبته وصوته الآسر المختلف عن السائد، شعروا بأن الصدق الذى يغلف نبرات صوته يجب ألا يُحبس، لكنه للأسف فى عام ١٩٥٩ حُبس الصوت مع صاحبه، وظل فى المعتقل حتى تخرجت دفعته، لكنه عاد واقتنص شهادته وصار مهندسًا فعلًا كما أراد هو وأبوه.
بعد خروج حمام من المعتقل عام ٦٤ سمع الشاب بهذا الجنوبى الآخر الموهوب الذى بدأ يشق طريقه فى القاهرة عبر شعر جديد حماسى مُتشرب من حرارة الصعيد القاسية والحانية فى الوقت نفسه.. وبالفعل فوجئ عبدالرحمن الأبنودى كما يحكى هو بنفسه فى يوم من أيام ٦٤ بشخص يطرق عليه بابه، وكان طرق الأبواب فى تلك الأيام يثير الخوف والترقب، خاصة لو كان القاطن شاعرًا شابًا متحمسًا لا يزن كلماته بميزان السياسة والتوازنات، وعندما سأل الأبنودى عن الطارق، قال له: أنا محمد حمام، وهنا كانت لحظة اللقاء الأول بين الجنوبيين الأبنودى وحمام.
الشاعر الكبير ذكر هذا اللقاء بكثير من الإكبار والتقدير عندما اجترّ حكايته بعد عقود، حيث قال إنه عندما رأى حمام لأول مرة لم يكن يعرفه، لكن لم يكن لديه خيار إلا أن يحبه ويضعه فى موضع قريب من قلبه دون أى مجهود منه، وصارت بينهما علاقة صداقة وصفها الأبنودى بأنها علاقة حية حوت كل آيات الصداقة الحقيقية من حب وحضن و«ضرب ورَزْع وخناق».. وصار صوت حمام هو شغل الأبنودى الشاغل.. يريد أن يوصل هذا الصوت العذب إلى كل من يعرفه، حيث كانت علاقات ابن أبنود داخل الوسط الفنى قد أخذت فى الامتداد وصار اسمًا معروفًا لدى كبار الطرب بعد أن اقترن اسمه بأغانى عبدالحليم حافظ الجديدة، ثم قنابله الفنية مع المطرب الريفى الجديد الذى أقلق مقام العندليب نفسه، وهو محمد رشدى، بأغنيتى «عدوية» و«تحت الشجر يا وهيبة».
لم يكن الأبنودى فقط هو من آمن بصوت حمام، حيث هام محمد الموجى به وصارا صديقين بعيدًا عن الأبنودى، كما أنه كان سنده فى مشكلته مع الإذاعة التى كانت اختباراتها تتطلب جهدًا نظريًا لم يكن حمام مهتمًا به، هو يغنى بصدق وكفى، لن يتأقلم مع أسئلة لجان الاستماع اللوذعية للراغبين فى دخول جنتها.. فكان من الطبيعى أن يفشل فى اجتياز اختبارات تلك اللجان.
مجدى نجيب الصحفى فى الكواكب والشاعر الكبير بعد ذلك كتب عن موهبة حمام فى عدد الكواكب عدد ٢٣ سبتمبر ١٩٦٩ انتقد فيه إحجام الإذاعة عن أغانى حمام الذى كان حينها قد صار صوتًا معروفًا؛ بحجة أنه لم يتقدم للامتحان أمام لجان الاستماع، وقال نجيب بالنص:
«الحقيقة أن هناك أصواتًا جديدة استطاعت فرض وجودها واعتُمدت فى التليفزيون، ومع ذلك فهى لا تزال خارج الإذاعة، وأقصد بالتحديد صوت محمد حمام، الصوت الرجالى الوحيد الذى يستطيع إقناعنا بما يغنيه، صوت صادق بعيد عن الأكاذيب والفن المفتعل، إنه حقق شهرة لا بأس بها من خلال التليفزيون والحفلات العامة ومسلسله الفلاح، وقال كبار الملحنين رأيهم فيه فأجمعوا على أنه صوت نادر، ومع ذلك فالإذاعة لم تزل غير ملتزمة بإذاعة أغانيه؛ بحجة أنه لم يتقدم للامتحان أمام لجنة الاستماع. والحقيقة أن حمام لن يقف أمام هذه اللجنة لتقول رأيها لأنه تخطى تلك المرحلة وأن الجماهير، وهى أهم من لجنة الاستماع، قالت رأيها الطيب فيه، وضمن هذه الجماهير عدد كبير من المسئولين فى أجهزة الإعلام، وأن الإذاعة فى احتياج إلى صوته ليدعم إمكاناتها، لأنه سيضيف شيئًا جديدًا، فالمستمعون يطلبون سماع أغانيه بإلحاح، وسوف تخضع الإذاعة لرأى المستمعين.. وكذلك جلال معوض سيقدم محمد حمام فى حفل أضواء المدينة المقبل، وسيقدمه وهو مقتنع به». وقد كان صدق ما قاله نجيب، حيث ظهر حمام فى حفل أضواء المدينة أهم حفلات مصر حينها، وتحدث حمام عن هذا الحفل تحديدًا أنه كان متوترًا وعديم الخبرة فى التعامل مع جمهور مباشر بهذا الحجم، فظهر وهو يضع يده فى جيبه لإخفاء توتره، فبدا وكأنه يتعالى على الجمهور، لكن الغريب أن الجمهور أحبه وتفاعل معه بالفعل خلال الحفل وصارت واقعة وضع يده فى جيبه عند الغناء وسيلة للتندر والحكى بين حمام وأصدقائه.
هل شعر عبدالحليم باستحقاقه لإنتاج الأبنودى الشعرى بعد النكسة عقب
الأبنودي: الأغنية بصوت «حمام ولو كره «العندليب»
صدر عدد الكواكب بتاريخ ٤ يوليو ١٩٦٧ بعد أقل من شهر على النكسة الرهيبة، وداخله صفحة كاملة بعنوان «٣ أغنيات جديدة للأبنودى يغنيها عبدالحليم» مع صورة كبيرة للعندليب وأسفلها صورة للشاعر الشاب.. ثم استعراض لكلمات الثلاث أغنيات الأولى «المسيح» والثانية «موال النهار» وهما لبليغ حمدى، والثالثة «شجع» لكمال الطويل.
علاقة الأبنودى بعبدالحليم لم تكن جديدة، بل على العكس كانت الصداقة وطيدة بينهما قبل النكسة، خاصة بعد النجاح الساحق لأغنيتهما «أنا كل ما أقول التوبة يا بوى ترمينى المقادير».
والحق أن حليم كان معجبًا بلغة الأبنودى الجديدة على الأسماع حينها ومصطلحاته الطازجة العذبة التى ظهرت فى أغانى محمد رشدى، الذى أنقذه الأبنودى بكلماته من عزلة كادت تقضى عليه.. والكاتب محمد توفيق فى كتابه البديع «الخال» رصد بعض الملامح لتلك العلاقة بين الأبنودى والعندليب سنقرأ منها ما يوصلنا إلى أيقونة «يا بيوت السويس».
ما حدث أن الأبنودى خرج من المعتقل فى أبريل ١٩٦٧، أى قبل النكسة بأيام، وكان بيت حليم هو ملجأه فى تلك الأيام العصيبة؛ حتى إنه سمع خطاب التنحى فى بيته، وطبقًا لما حكاه الأبنودى لتوفيق، كان معهما أحمد رجب وكمال الطويل وبليغ حمدى ومجدى العمروسى فى تلك اللحظة القاسية التى أصابتهم جميعًا بنفس الصدمة التى أصابت المجتمع المصرى كله، وهرولوا إلى الشارع منضمين إلى الملايين التى خرجت تطالب عبدالناصر بالتراجع عن قرار التنحى.
عبدالحليم بعد أن هدأت الأنفاس اللاهثة بفعل الصدمة، مال على الأبنودى قائلًا له: «إحنا هنقعد كده من غير أغانى».
فردّ الخال: «لو عملنا أغنية مافيهاش إننا دخلنا حرب وانهزمنا، هننضرب بالجزم».
فقال حليم ساخرًا: «طيب ما تعمل، أنت مش عاملّى ثورى وبتدخل السجن، ولما ييجى أوان الثورية تطلع مش ثورى»!!
فأعطى الأبنودى لحليم ورقة فيها قصيدة قد كتبها قبل النكسة، كانت هى ذاتها «موال النهار» إحدى الأغانى الثلاث التى كتبت عنها الكواكب فى ٤ يوليو ٦٧.
هنا قد يكون حليم قد شعر بما يشبه الاستحقاق لإنتاج الأبنودى الشعرى فى تلك الفترة، لكن الشاعر الصعيدى لم يكن ليكبح جموح موهبته وشخصيته الثائرة التى فرضت عليه الذهاب بمحاذاة شاطئ القناة ناظرًا إلى الأرض المسلوبة على الضفة الأخرى لشحذ منابع الشعر داخله، وألقى نفسه كما قلنا فى أحضان فرقة أبناء الأرض بقيادة بلدياته «الكابتن غزالى»، وطرح مشروعه النبيل لإنتاج ثلاثين أغنية وطنية بلا مقابل، وتبناه محمد العروق رئيس إذاعة صوت العرب كما قلنا فى المقدمة.
إذن انشغل الأبنودى عن حليم بالسويس وأهل السويس وكان برفقته صديقاه المقربان محمد حمام والرجل الذى استضافه بعد نزوحه إلى القاهرة سنة ٦٢ وأواه فى بيته وهو إبراهيم رجب الضلع الثالث فى الأغنية الأيقونة، وفى خضم تلك الخلطة الإنسانية المدهشة ظهرت «يا بيوت السويس» التى انسابت كلماتها كالماء الرائق الصافى من نبع موهبة الأبنودى عندما رأى الدمار الذى خلّفته قذائف العدو الرهيبة على بيوت السويس، وشعر رغم الدمار الظاهر عليها بأنها ما زالت سامقة أبية ترفض الانهيار بشكل كامل.
وسريعًا نصل إلى المشهد الأول الذى بدأنا به الكلام داخل استديو صوت العرب، لتنزل الأغنية على وجدان السوايسة المُهجّرين والرابطين فى أماكنهم كالمهدئ القوى لآلام النفس المنكسرة بالتهجير.. ومن السوايسة إلى كل المصريين صارت سريعًا أغنية «يا بيوت السويس» أكبر من كونها أغنية موجهة لمدينة واحدة مهما بلغت عظمة تلك المدينة، بل هى أغنية للوطن الذى يتمنى كل مصرى أن يستشهد تحته ليعيش هو.
ثم فى عز نجاح الأغنية الساحق تأتى مكالمة للجنوبى الثائر عبدالرحمن الأبنودى فيها عتاب من الصديق عبدالحليم حافظ:
إنت إزاى مخلتنيش أشوف الأغنية دى يا عبدالرحمن؟
كان الرد الصعيدى غير المجامل قاطعًا، حيث قال عبدالرحمن للعندليب طبقًا لحكايته هو: «هذه الأغنية تحتاج صوتًا مختلفًا يا عبدالحليم، لو كنت غنيتها أنت لم تكن لتصدق، الناس كانت تحتاج صوتًا جديدًا يشعرون بأنه صادر من داخلهم»، ولكى يلطف الأبنودى كلامه قال له: أنت تغنى للأمة العربية والقومية ومصر لكن لو قلت «يا بيوت السويس يا بيوت مدينتى» لن يقتنع الناس بأن السويس هى مدينتك، وستفقد الأغنية نصف قيمتها بعد أن طغت شخصيتك على معنى الأغنية وهدفها.
والحق أن رؤية الأبنودى كانت ثاقبة، حيث إن الأغنية فور صدورها صارت رقم واحد فى مصر كلها طبقًا لوصف الأبنودى نفسه.. الأمر الذى بالضرورة قد أصاب العندليب على ما يبدو ببعض الغيرة.
وتمر الأيام ويصير صوت حمام الدافئ أيقونة للأمل فى «بكرة» أفضل خاصة وهو يقول:
والله بكرة يا عم أبورية.. لهتضحك وإحنا ماشيين سويا
والله بكرة يا عم أبورية.. لهتضحك وإحنا ماشيين سويا
ع المينا وللا السكة ديّا.. وهتاخد بنتك وابنك ومراتك
وتعدى على نفس المعدية.. وتقول يا دنيا والله صدقتى
يا بيوت السويس.. يا بيوت السويس.