يا حبيبتى يا مصر.. قبلة شادية على جبين الوطن الجريح.. رحلة درة الأغانى الوطنية من بيت الجيزة حتى وجدان الأمة
إذاعة الجمهورية العربية المتحدة
أضواء المدينة تقدم
شادية
لصالح مُهجّرى السويس
الخميس ١٨ يونيو ١٩٧٠ بدار سينما قصر النيل
…
ما سبق كان صيغة الإعلان الأخير عن عودة شادية للغناء بعد سبع سنوات عجاف، حبست فيها صوتها الساحر بإرادتها عن الجماهير المتعطشة لتلك النبرات الحانية الاستثنائية.. نُشر هذا الخبر فى «باب الاجتماعيات» بـ«الأهرام» يوم ١٧ يونيو ١٩٧٠.
.. وكتبت الأقدار على هذا التنويه ضئيل الحجم أن يكون هو النبوءة لحفل سيحوى أغنية ليست ككل الأغنيات.. «غنوة» غرستها الصدفة ورواها الشوق لاسم كان محجوبًا لسنوات وهو «مصر».
بالعودة إلى أيام قليلة قبل نشر هذا الإعلان ندخل معًا بيت شادية على ضفاف نيل الجيزة لنرى ضيفيها العزيزين بليغ حمدى ومحمد حمزة.. الأول يمسك عوده، مدندنًا بالأغنية الجديدة التى كتبها الثانى لصاحبة المنزل العائدة بعد غياب، وهى عاطفية اسمها «عالى»، وبدا أن بليغ يضع الرتوش الأخيرة لتصير جاهزة، لكن لسبب ما غامض جاء اسم «مصر» فى سياق الكلام بين الثلاثة ثم برزت من العدم جملة على لسان أحدهم دون أى ترتيب «يااا حبيبتى يا مصر».. كانت كالطلقة التى خرجت فى الهواء مدوية لتعلن عن حدث جلل.. ويا للعجب مرت لحظات قليلة من الصمت المطبق على المكان بعد أن لمست تلك الجملة الساحرة وترًا موجوعًا داخل الثلاثة فى نفس الوقت.. مسرعًا أمسك محمد حمزة قلمه ليحبس جملته داخل أسوار ورقة ثم سريعًا انسابت الكلمات بغير إرادة منه بعد أن صار الجميع أسيرًا لدفقة وطنية زلزلت كيانهم فور سماع كلمة «مصر».. وكتب حمزة:
يا بلادى
يا أحلى البلاد يا بلادى
فداكى أنا والولاد يا بلادى
بلادى.. يا بلادى
يا حبيبتى يا مصر يا مصر
يـا مصر
فى نفس اللحظة نسى بليغ أغنية «عالى»، وأخذ يدندن بكلمات حمزة المتدفقة كأنه يسابق الزمن لحبسها داخل لحن نادر مولود فى لحظة صدق وتجلٍ استثنائية.
وفورًا تدندن وراءه شادية هى الأخرى بما التقطته أذناها.
ثم يكمل حمزة:
ما شفش الأمل فى عيون الولاد
وصبايا البلد
ولا شاف العمل سهران فى البلاد
والعزم اتولد
ولا شاف النيل فى أحضان الشجر
ولا سمع مواويل
فى ليالى القمر
أصله معداش على مصر
يا حبيبتى يا مصر يا مصر
…
على الفور تتراص الأبيات بجوار بعضها متجسدة أمام بليغ لتكتمل السيمفونية، ويتخلق اللحن دون مجهود أمام شادية المتلهفة، وكأن قوة خفية تدير الأمر برمته بغير إرادة من الثلاثة وتجهز لشىء عظيم كان يحتاجه أبناء هذا الوطن الجريح.
ثم سرعان ما يخرج حمزة دفقته الشاعرية الأخيرة فى الغنوة ليتلقفها بليغ كعادته ويظهر الكوبليه الثالث:
مشفش الرجال السمر الشداد
فوق كل المحن
ولا شاف العناد فى عيون الولاد
وتحدى الزمن
ولا شاف إصرار فى عيون البشر
بيقول أحرار ولازم ننتصر
أصله معداش على مصر
يا حبيبتى يا مصر يا مصر
هنا أعلن حمزة عن اكتمال معجزته لتصير الكرة برمتها فى ملعب بليغ الفسيح الرحب، غزير النغمات، وفى لمح البصر صارت أمام شادية أغنيتها الأهم التى ستصير أيقونة الأجيال القادمة المتلاحقة.
كان واضحًا منذ اللحظة الأولى للثلاثى أن تلك الهبة الربانية التى وقعت عليهم من السماء دون ترتيب لن تكون مجرد أغنية ضمن سيل من الأغانى الوطنية التى فرضتها حالة الانكسار القومى بعد نكسة 67، شعروا بأن الناس فى حاجة إلى تلك الصيحة الآسرة «يا حبيبتى يا مصر».
رأوا فيها نداءً سحريًا يستحضر الوطن الغائب خلف جدار الهزيمة.. شعروا بأنها تأكيد لما هو مؤكد بالضرورة لكنه مطلوب.. فمصر تستحق أن ترى «غلاوتها» عندنا فى تلك اللحظة القاسية، علها تنفض غبار الهزيمة وتحوّلها إلى انتصار واجب حدوثه.
ومرت السنوات وجاء الانتصار بالفعل فى أكتوبر ٧٣ وازدادت معه «غلاوة» الأغنية وبريقها ثم توالت العقود واسترددنا سيناء كاملة. ومر الوطن، كما كل الأوطان، بلحظات أفراح وأتراح مختلفة.. ومع هذا وذاك ظلت «يا حبيبتى يا مصر» ملجأ قوميًا لاستخراج أنقى المشاعر الوطنية وأصدقها.
هيا بنا نتتبع رحلة «درة الأغانى الوطنية» من بيت الجيزة حتى أعمق مكان فى وجدان الشعب.
……..
قبل الموقعة
حفلة عائلية وتشجيع صلاح ذوالفقار أعاد شادية لأحضان الجمهور
…..
قبل حفل العودة التاريخية لشادية إلى جمهورها يوم ١٨ يونيو ١٩٧٠.. كان هناك حفل عائلى مجهول غنت فيه، يمكن تصنيفه بأنه بروفة قدرية لهذا الحفل، وكان له فعل السحر عليها وجعلها تستجيب أخيرًا لإلحاح المحيطين بها للعودة إلى الغناء فى الحفلات العامة وتلبية عشرات الدعوات داخل وخارج مصر.. وعلى رأس المحيطين كان صلاح ذوالفقار.. الزوج والحبيب حينها.
أما عن قصة ذلك الحفل المجهول فقد كشفت عنه مجلة «الشبكة» بين ثنايا سطور تغطيتها حفل العودة وجاء ذكره على لسان شادية نفسها لصحفى «الشبكة»، حيث كانت شادية وصلاح فى زيارة عائلية فيها تجمع أسرى كبير العدد نسبيًا وطلبوا منها بإلحاح أن تغنى لهم، وبعد تردد ورفض اضطرت إلى الرضوخ لرغبتهم حتى لا تفسد هذا الجو العائلى، فغنت شادية إلى الجمع الذى فار وزام لها وتصايح حولها طالبًا الاستزادة، وجاءت الجملة المكررة على لسان الجميع: «حرام يا شادية أن تختفى.. متى تعودين؟».
وانتهى الحفل على خير حال وفى طريق العودة نظر لها صلاح بعتاب محب قائلًا: «جالك كلامى»، إشارة إلى إلحاحه المستمر عليها للرجوع لجمهورها.. ولأول مرة تتأثر وتستجيب شادية وتنظر لصلاح قائلة: «سأعود».
قبل هذا الحفل العائلى بساعات كانت شادية بالصدفة تستقبل تليفونًا من الصديق جلال معوض يزف لها خبر عودة حفلات أضواء المدينة ويطلب منها بشكل صريح العودة قائلًا:
«لازم ترجعى يا شادية.. الفراغ اللى سبتيه محدش يملاه غيرك والجمهور مستنيكى».
ثم فى طريق رجوعها من الحفل العائلى كانت قد تكونت لديها قناعة بأن أوان العودة للجمهور قد حان، فأمسكت شادية فور دخولها من باب المنزل، هى وصلاح، بسماعة التليفون وطلبت جلال معوض المنتظر قائلة له كلمتين فقط:
«اتفقنا يا جلال».
تحكى شادية لمحرر «الشبكة» عن حالتها بعد تلك اللحظة الفارقة قائلة بنص ما كُتب فى «الشبكة» عدد ٦ يوليو ١٩٧٠:
«لا أخفى عليك أننى عانيت من شيئين.. خوف وقلق، كان الخوف من مواجهة الجمهور يطغى علىّ فى البداية، والقلق كان يستبد من مصير هذه التجربة، لكننى قلت لنفسى أستعد للامتحان وسوف أنجح».
ولكى تنجح شادية كان لا بد أن تضع خطة عبر مجلس ثلاثى مكون منها وصلاح ذوالفقار وجلال معوض.. بدأوا يتدارسون تفاصيل خطة العودة وما المناسب أن تغنيه فى تلك الحفلة، وكان الرأى الغالب أن يكون هناك مكان للأغنية الوطنية لتتناسب مع جلال الهدف المعلن للحفل وهو عودة المُهجّرين من أبناء السويس وإيرادات هذا الحفل بالكامل لهذا الغرض النبيل.
وبدأت شادية بالفعل بروفات شاقة أحصتها هى بعدد ثلاثين بروفة مع فرقة موسيقية كاملة مكونة من ٤٠ عازفًا، ووصفت شادية تلك البروفات بأن كل بروفة منها كانت تبدد جزءًا من الخوف المتجذر داخل نفسها وتضع مكانه مساحة من الثقة فى إمكاناتها، لذلك لم يكن غريبًا أن تضع مجلة «آخر ساعة» عنوانًا دالًا على لسان شادية فى تغطيتها البروفة الأخيرة قبل الحفل، برفقة بليغ ومحمد حمزة وباقى الفرقة، فى عددها الصادر بتاريخ ١٧ يونيو ١٩٧٠ أى قبل الحفل بيوم.. وكان العنوان كالتالى:
«لم أعد أكره شادية المطربة»
وفى ليلة الحفلة كان الخوف قد تبدد لكن بقى القلق الذى لا مفر منه ولن يذهب إلا بانسدال الستار بعد نهاية الحفل وقراءة صحف اليوم التالى، ومراقبة ردود الأفعال المباشرة من الناس.
…..
يوم الموقعة
عندما قالت شادية لجلال معوض: «والنبى تأجلنى شوية»
…..
«شادية تعيد النجاح لأضواء المدينة» كان هذا العنوان البسيط واضح المعنى الذى خرجت به مجلة «الكواكب» فى عددها التالى بعد الحفل الصادر بتاريخ ٢٣ يونيو ١٩٧٠ هو أصدق تعبير عن الأثر الذى تركته شادية فى هذا اليوم.
الحفل فى تسجيله الصوتى الذى أُذيع مباشرة على راديو جمهورية مصر العربية والتليفزيون، والموجود على شبكة الإنترنت، بدأ فقرة شادية بصوت الإذاعى فايق فهيم الرصين وهو يقول:
«بعد لحظات سيداتى وسادتى تنفرج الستار عن عروس حفل الليلة.. الفنانة شادية».
لكن ما لم يظهر فى الهواء وكشفت عنه شادية نفسها لمحرر «الشبكة» بعد الحفل أنها وقفت فى الكواليس بفستانها الأخضر الساحر وقالت لجلال معوض:
«والنبى يا جلال تأجلنى شوية».
وكان الأمر يبدو فى شكل مداعبة لكن العضو الثالث فى مشهد عودة شادية، وهو صلاح ذوالفقار، يعرف أنها تعنى ما تقول فنظر إليها معاتبًا:
«وبعدين يا شوشو؟».
فدخلت شادية لتنطلق عاصفة رهيبة من الترحيب داخل سينما قصر النيل سجلها ميكروفون الإذاعة.. ولم يُهدئ من ذلك الترحيب الهادر بدخول شادية غير دخول محافظ السويس حامد محمود ليمسك الميكروفون ويقول نصًا:
«باسم أسرة محافظة السويس نحيى الفنانة شادية ونقدم لها علم السويس».
لينطلق هدير الجمهور الفرح بعودة شادية مرة أخرى، وعندما يهدأ تبدأ الفرقة الموسيقية التى أجرت ٣٠ بروفة حية مع شادية قبل تلك الليلة وتغنى شادية أغنيتها الأولى فى «البروجرام»: «قولوا لعين الشمس ما تحماشى» وهى أغنية عمرها حينها ٦ سنوات، لكن مع ذلك انفعل معها الجمهور كأنه يسمعها لأول مرة، على حد وصف محرر «الشبكة».
وما إن انتهت الأغنية الأولى حتى جاء الموعد.. موعد أغنية « يا حبيبتى يا مصر».. بدأت الفرقة الموسيقية تداعب خيال الجمهور بمقدمة بليغ البديعة ثم دخل الكورال بالمقدمة:
يا بلادى
يا أحلى البلاد يا بلادى
فداكى أنا والولاد يا بلادى
بلادى.. يا بلادى
حتى جاءت الجملة المنتظرة «يا حبيبتى يا مصر يا مصر».. ليقاطع الجمهور استرسال الكورال بتصفيق حاد وكأن كل احتياجهم فى تلك اللحظة العصيبة هو سماع اسم «مصر» بهذا الوضوح وذلك الصدق.. وليس هناك ما هو أصدق من صوت شادية الذى صار بالأمر المباشر فى الضمير الجمعى بعد ذلك هو «صوت مصر» حتى لو تنافس المتنافسون.
وأكملت شادية حفلتها بثلاث أغانٍ أخرى بالترتيب «خدنى معاك» و«عالى» لبليغ حمدى، ثم «غاب القمر» لمحمد الموجى.
وانتهى الظهور التاريخى بعد ٥٠ دقيقة وقفت فيها شادية على مسرح سينما قصر النيل.. ولا حديث للناس يعلو على تلك الأغنية الجديدة التى غاصت بها شادية فى وجدانهم لتبدأ مرحلة جديدة فى تحول أغنية «يا حبيبتى يا مصر» إلى أسطورة عبر الأجيال التالية.
….
بعد الموقعة
كيف تحوّلت الأغنية إلى ملاذ آمن للحنين وملجأ كل مشتاق لوطنه؟
«المغتربون يطلبون: يا حبيبتى يا مصر فى ١٥ حفلة بأمريكا»
كان هذا عنوان خبر قصير فى عدد «المصور» فى ٣٠ مارس ١٩٧٣، أى بعد حفلة العودة بحوالى ٣ سنوات وقبل حرب أكتوبر بشهور قليلة.. وأهمية هذا الخبر فى رأيى أنه مرآة لأثر تلك الأغنية فى النفوس، حيث صارت فى يوم وليلة هى الأغنية الأكثر طلبًا من شادية فى كل الحفلات التالية.. وقد رصد تلك الحالة الاستثنائية الدكتور هانى الديب فى موسوعته الفنية البديعة عن شادية الذى صدر الجزء الأول منها عن دار «المحرر» باسم «رحلة العمر.. شادية بين السينما والأغنية».
وبقليل من التأمل لما تم توثيقه من الحفلات التى شاركت فيها شادية بعد ذلك ستجد أن أغنية «يا حبيبتى يا مصر» كانت عاملًا مشتركًا فى الغالبية العظمى من تلك الحفلات خلال أكثر من عقد كامل بعد حفل عودتها فى ١٨ يونيو ٧٠.. كانت دائمًا مطلبًا جماهيريًا، وقد تنبه لهذا الأمر مبكرًا الكاتب الكبير أحمد بهجت فى مقاله بـ«الأهرام» عدد ٧ أغسطس ١٩٧٠، أى بعد أقل من شهرين على الحفل الأول حيث عنوّن بهجت مقاله بنفس اسم الأغنية الجديدة حينها «يا حبيبتى يا مصر» وقال فيه بالنص:
«أكثر الأغانى طلبًا هذه الأيام أغنية شادية الجديدة (يا حبيبتى يا مصر) يطلبها المئات كل يوم، لحنها بليغ حمدى لحنًا جميلًا بسيطًا يستطيع كل واحد منا أن يغنيه، وأهم من ذلك أن يغنيه بالطريقة التى تحلو له، بمعنى أن كلمات الأغنية ولحنها يسمحان لكل واحد منا أن يلحن الأغنية داخله لحنًا جديدًا على قدر حظه من معرفة التراب المصرى وحبه له.. ونتمنى أن تحتوى الأغنية المصرية هذه الأيام على التراب المصرى أكثر.. لا تكتفى بإطلاق آهة الحب وإنما تحاول أن تقول لنا كيف نحب مصر وكيف نتعامل مع من نحب».
الأمر لم يقتصر على ذلك، فقد نشرت «الأهرام» خبرًا آخر دالًا على ما أحدثته الأغنية من أثر فى عدد ٩ يونيو ١٩٧١ وكان عنوانه «شادية تغنى لمصر فى فيلم للتليفزيون اليابانى»، وتفاصيل الخبر أن بعثة من تليفزيون طوكيو وصلت إلى القاهرة لتصوير فيلم يستغرق ٢٠ دقيقة عن مصر تتبع فيه الكاميرات المطربة المصرية بين الأهرامات وهى تغنى «يا حبيبتى يا مصر»، ونشرت الصحف والمجلات بعد ذلك صورًا لشادية بالفعل أثناء تصوير الفيلم.
ترسخت قيمة تلك الأغنية الأيقونية أكثر وأكثر مع الوقت وازدادت لمعانًا وبريقًا مع كل حادث تمر به سفينة الوطن سعيدًا كان أو حزينًا.. حتى عندما اعتزلت شادية أواخر الثمانينيات واختارت الابتعاد عن الأضواء واللجوء إلى طريق أكثر سكينة وأقل صخبًا.. ثم وفاتها قبل سنوات قليلة فقد ظلت أغانى شادية تصدح فى أرجاء الوطن فى كل اتجاه وظلت صيحتها السحرية «يا حبيبتى يا مصر» ملاذًا آمنًا لكل شخص ينتمى لتلك الأرض المقدسة.