حل الدولتين لم يعد قابلًا للتطبيق.. ما البديل؟
ليس من المنطقى الحديث دومًا عن الصراع بين حماس وإسرائيل دون أن يكون هناك استشراف للمستقبل، يقدم رؤية للحل الذى يُفضى بهذه المنطقة المشتعلة إلى حالة من الهدوء والاستقرار، وسط تصعيد يُنذر بحرب إقليمية، قد تأكل الأخضر واليابس، بدأت نُذرها تلوح فى الأفق، خصوصًا أن إيران قد قررت الدخول فى مواجهة مباشرة مع إسرائيل، بعد ردها الانتقامى على مقتل إسماعيل هنية فوق أراضيها، واغتيال حسن نصرالله فى الضاحية الجنوبية لبيروت، وأخيرًا يحيى السنوار فى غزة.. وقد بدأ الطرفان فى تبادل التهديدات، إذ قالت إيران إنه لو فكرت إسرائيل فى الرد على ضرب إيران للكيان الصهيونى بأكثر من مائتى صاروخ باليستى، فإنها تتوعد برد أوسع نطاقًا وأكثر خطورة، لأنها سوف تستهدف البنية التحتية لإسرائيل، فى حين قال نتنياهو إن طهران قد ارتكبت خطأً، وعليها أن تدفع الثمن.. وقد دعّمت واشنطن هذا الاتجاه من نتنياهو، وتعهدت بالوقوف خلف إسرائيل لمواجهة تهديدات إيران.. فهل من رجل رشيد يعمل على تهدئة المواقف، ووضع هذه الحرب أوزارها؟.
فى يوليو الماضى التقت نائبة الرئيس الأمريكى، كامالا هاريس، برئيس الوزراء الإسرائيلى، بنيامين نتنياهو، لمناقشة الحرب فى غزة ومستقبل الشرق الأوسط.. وبعد ذلك أكدت هاريس التزامها بحل الدولتين للإسرائيليين والفلسطينيين، على حد تعبيرها، «المسار الوحيد الذى يضمن بقاء إسرائيل دولة يهودية وديمقراطية آمنة، والذى يضمن للفلسطينيين أن يحققوا أخيرًا الحرية والأمن والازدهار الذى يستحقونه بحق».. وهى ليست الوحيدة التى تتبنى هذا الشعور.. ففى مختلف أنحاء العالم يواصل القادة التعهد بدعم حل الدولتين بحجة أنه يوفر التوجيه والزخم للجهود الرامية إلى إنهاء الحرب، وإعادة بناء غزة فى نهاية المطاف.. وفى قرار وقف إطلاق النار الذى طال انتظاره، والذى صدر فى يونيو الماضى، التزم مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، مرة أخرى، «برؤية حل الدولتين، حيث تعيش دولتان، إسرائيل وفلسطين، جنبًا إلى جنب فى سلام داخل حدود آمنة ومُعترف بها».
لكن بالنسبة لأى شخص ينتبه إلى ما يحدث على الأرض، فإن هذه التصريحات تبدو منفصلة عن الواقع.. فقد تعهد نتنياهو وشركاؤه فى الائتلاف اليمينى المتطرف بعدم السماح بإنشاء دولة فلسطينية.. وحتى أبرز معارضى نتنياهو يحذرون من هذه الفكرة، وهم على دراية باستطلاعات الرأى التى تُظهر معارضة الإسرائيليين الساحقة.. ولا تريد إسرائيل التخلى عن السيطرة على الضفة الغربية وقطاع غزة، وهى ليست على استعداد لنقل مئات الآلاف من المستوطنين أو إقامة حدود مادية تُقسم القدس.. ولعل هذا هو السبب فى أن المحللين والدبلوماسيين وصناع السياسات لا يعتقدون حقًا أن حل الدولتين الذى طالما تصورناه قابل للتحقيق.. وكما اعترفت هاريس نفسها بعد اجتماعها فى يوليو الماضى، «فى الوقت الحالى، من الصعب تصور هذا الاحتمال».
وقد دفع عدم جدوى خطة الدولتين المألوفة بعض المثقفين إلى التفكير، بدلًا من ذلك، نحو حل الدولة الواحدة.. وبموجب هذه المقترحات، سوف يكون الفلسطينيون واليهود الإسرائيليون مواطنين متساوين فى دولة تحكمها حكومة واحدة منتخبة ديمقراطيًا.. وربما يكون مثل هذا الحل هدفًا جديرًا بالاهتمام فى الأمد البعيد، ولكنه يظل فى الوقت الحالى مجرد طموح.. فلا اليهود الإسرائيليون ولا الفلسطينيون على استعداد للتضحية بحقهم فى تقرير المصير الوطنى.. ولدى كل منهما أسباب وجيهة للتردد فى هذا الصدد.. فلا توجد هوية إسرائيلية فلسطينية مشتركة، ورغم إمكانية تطوير هوية مشتركة، فإن الأمر سوف يستغرق أجيالًا.. ما الحل إذن؟.
الحل المقترح، اتجاه ثالث، بعيدًا عن حل الدولتين، أو الدولة الواحدة، يقترحه عمر دجانى، أستاذ القانون الدولى فى كلية ماك جورج للقانون بجامعة المحيط الهادئ، والذى عمل مستشارًا قانونيًا لفريق التفاوض الفلسطينى فى محادثات السلام مع إسرائيل.. وكذلك ليمور يهودا، الزميل البحثى الأول، وقائد مشروع الشراكة للسلام الإسرائيلى الفلسطينى فى معهد فان لير فى القدس، والمحاضر فى كلية الحقوق فى الجامعة العبرية، ومؤلف كتاب «المساواة الجماعية: الديمقراطية وحقوق الإنسان فى الصراعات الإثنية القومية»، وهما الرئيسان المشاركان للمجلس المشترك لحركة «أرض للجميع»، وهى حركة إسرائيلية- فلسطينية، تدعو إلى رؤية كونفيدرالية تقوم على «دولتين ووطن واحد».
يقول الرجلان، فى مقال لهما بصحيفة Foreign Affairs، يوم التاسع عشر من سبتمبر الماضى، إن لم ينجح حل الدولتين أو حل الدولة الواحدة هنا، فإن احتمالات السلام بين الشعبين قد تبدو قاتمة للغاية.. ولكن هناك بديلًا: اتحاد كونفيدرالى إسرائيلى فلسطينى، مبنى على مبادئ المساواة والشراكة.. وفى هذا الاتحاد يحصل كل من الإسرائيليين والفلسطينيين على دولتين منفصلتين.. وسوف تكون لكل منهما حدود واضحة والحق فى إقرار قوانينهما الخاصة.. وبعد فترة انتقالية، سوف تكون الحدود مفتوحة، وسوف يتمتع كلا الشعبين فى نهاية المطاف بالحق فى العيش على طول الأراضى الواقعة بين الأردن والبحر الأبيض المتوسط، والتى يعتبرها كل منهما وطنه التاريخى.. وسوف تحكم هيئات إسرائيلية- فلسطينية مشتركة قضايا تتجاوز حدود كل دولة، مثل الطاقة والأمن الخارجى.. وسوف تكون هناك مؤسسات قضائية مشتركة لحماية حريات الجميع.. ومن خلال القيام بكل هذا، فإن الكونفيدرالية من شأنها أن تحل القضايا الشائكة الناشئة عن التناقض بين المواطنة والقومية والدولة، وكذلك بين الديموجرافيا والجنسية والسيادة.. ومن شأنها أن تضمن المساواة بين الإسرائيليين والفلسطينيين، فرديًا وجماعيًا.. ومن شأنها أن تساعد المجموعتين على التعاون على أساس مُنصف، بعد عقود من الاحتلال والصراع.
●●●
منذ تسعينيات القرن العشرين ارتبط تقسيم الأرض الواقعة بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط إلى دولتين بنموذج «الانفصال» أو «الهافرادا» بالعبرية.. ويفترض هذا النموذج أن إسرائيل لا يمكن أن تكون يهودية وديمقراطية إلا إذا انفصلت فعليًا عن ملايين الفلسطينيين فى الضفة الغربية وقطاع غزة.. وفى حملته الانتخابية عام 1999، قال رئيس الوزراء الإسرائيلى الأسبق، إيهود باراك، إنه سيسعى إلى «السلام من خلال الانفصال»، وكان أحد شعاراته «نحن هنا؛ وهم هنا».. لقد شكل هذا النموذج الخطوط العريضة لاتفاقية السلام التى سعت إسرائيل إلى التوصل إليها فى نهاية المطاف.. فبموجب شروط المقترحات التى طرحها باراك، وخليفته إيهود أولمرت، سوف يتم ضم أكبر الكتل الاستيطانية الإسرائيلية فى الضفة الغربية، وإجلاء كل المستوطنين الذين يعيشون خارجها.. وسوف يتم إنشاء حدود مادية داخل القدس، لتقسيم المدينة على أسس عرقية.. وسوف يتم حرمان اللاجئين الفلسطينيين إلى حد كبير من العودة إلى مواطنهم الأصلية داخل إسرائيل.
ولكن الجانبين لم يتفقا على كيفية تحويل هذا المفهوم إلى واقع.. وخلال محادثات السلام التى ترأستها ثلاث إدارات أمريكية، تجادل الإسرائيليون والفلسطينيون حول أى من المستوطنات- التى بُنيت جميعها فى انتهاك للقانون الدولى- سوف تبقى وأى منها سوف تزول.. كما اختلفوا حول كيفية تقسيم مدينة القدس على وجه التحديد.. لذا، فقد أصبح هذا النموذج اليوم،- ميتًا تقريبًا.. فقد تجاوز عدد المستوطنين فى الضفة الغربية والقدس الشرقية سبعمائة ألف نسمة، وهو ضعف العدد الذى كان عليه عام 2000.. ويقيم أكثر من مائة وخمسة عشر ألفًا من هؤلاء المستوطنين خارج الكتل التى طالبت إسرائيل فى السابق بضمها.. وفى الوقت نفسه، يتمتع اليمين المتطرف بنفوذ غير مسبوق فى الحكومة.. ونتيجة لهذا، أصبحت التكاليف السياسية والاقتصادية والأمنية، المترتبة على إخلاء المستوطنين بالقوة، باهظة.
المشاكل التى تواجه حل الدولتين القائم على الفصل ليست عملية فحسب، بل إنها أخلاقية أيضًا.. والحقيقة أن هذا النموذج بُنى على فرضيات مشكوك فيها.. فهو يعزز مفهوم الدول القومية المتجانسة عرقيًا، والتى تعود بنا إلى عمليات نقل السكان الكارثية التى شهدها القرن العشرون، بل وتهدد بتكرارها.. وهو يهمِّش حقوق اللاجئين الفلسطينيين، ومن شأنه أن يُقيم حدودًا صارمة تفصل الفلسطينيين واليهود عن الأماكن التى تحتل أهمية مركزية فى تاريخهم وذاكرتهم.. وأخيرًا، فهو يقدم إطارًا مؤسسيًا محدودًا لإدارة الترابط المتبادل، الذى لا مفر منه بين الإسرائيليين والفلسطينيين، الذين يتعين عليهم- سواء كانوا منفصلين أم لا- أن يعيشوا معًا فى قطعة من الأرض أكبر قليلًا من ولاية فيرمونت «فى شمال شرق الولايات المتحدة، وهى سادس أصغر الولايات الأمريكية مساحةً، ويتخطى عدد سكانها الستمائة ألف نسمة بقليل».. ونتيجة لهذه الجغرافيا الحميمة، فإنهم يواجهون مخاطر قد تتجاوز أى حدود.. وهناك سبب وجيه وراء تحذير الخبراء الطبيين من أن شلل الأطفال الناجم عن نظام المياه المدمر فى غزة، قد ينتشر إلى إسرائيل.
وعلى الرغم من هذه العيوب، يزعم المحللون فى كثير من الأحيان أن الفصل المادى بين الفلسطينيين واليهود الإسرائيليين ضرورى من أجل أمن الأخيرين.. ويشيرون إلى أنه من الممكن أن يساعد فى منع الهجمات والحد من التوترات العرقية.. ولكن هذه الحجة تدحضها التجربة.. ففى داخل إسرائيل، حيث يعيش اليهود جنبًا إلى جنب مع نحو مليونى مواطن فلسطينى فى إسرائيل، كانت أعمال العنف العرقية نادرة.. وعلى النقيض من ذلك، فإن العزلة القسرية لقطاع غزة عن إسرائيل والضفة الغربية لم تفشل فقط فى منع الحروب المتكررة والهجمات عبر الحدود، بل ساهمت أيضًا فى نشوبها.. وحتى لو أمكن إقامة حواجز تفصل اليهود الإسرائيليين بشكل كامل عن جيرانهم الفلسطينيين فى الضفة الغربية وقطاع غزة، فإن المراكز السكانية الرئيسية فى إسرائيل سوف تظل عُرضة لتبادل العنف.. فالجميع قريبون من بعضهم البعض إلى حد كبير.
بالنسبة لمعظم أنصار الانفصال، كان الحل لهذه المعضلة هو الحفاظ على سيطرة إسرائيل الشاملة على كامل الأراضى.. وقد تم تفصيل هذا الموقف فى مارس الماضى، من قبل يائير لابيد، وهو السياسى الإسرائيلى الوسطى، الذى دعا إلى حل الدولتين، «الذى يتألف من ميزة القوة لصالحنا، والتى تخلق كيانين سياسيين ليسا متساويين فى القوة، أو فى القيمة.. أحدهما دولة فلسطينية منزوعة السلاح، صغيرة وتعتمد علينا، والآخر هو إسرائيل القوية التى استعادت ثقتها بنفسها»، كما قال لابيد.. لكن هذا ليس حل الدولتين على الإطلاق.. بدلًا من ذلك، فإن من شأنه أن يترك حياة الفلسطينيين وسبل عيشهم فى أيدى المؤسسات الإسرائيلية، التى أظهرت باستمرار تجاهلًا صارخًا لهم.. إنها رؤية للهيمنة والصراع الدائمين، عكس تقرير المصير المتبادل والتعايش السلمى.
●●●
إذا لم ينجح الانفصال، وإذا كان حل الدولة الواحدة غير قابل للتحقيق فى المستقبل المنظور، فقد يبدو الأمر وكأن الخيار الجيد غير موجود ببساطة.. ووفقًا لاستطلاعات الرأى الأخيرة، فإن هذا هو الرأى الذى يتبناه عدد كبير من الإسرائيليين والفلسطينيين.. لكن مجموعة متزايدة من المراقبين، بمن فى ذلك عمر دجانى وليمور يهودا، يعتقدون أن الكونفيدرالية المكونة من دولتين تقدم أرضية وسطى قابلة للتطبيق.. فمن شأنها أن توفر لكلا الشعبين تقرير المصير الوطنى، فى حين توفر أيضًا إطارًا عادلًا لإدارة ارتباطهما بأرضهما المشترك والاعتماد المتبادل فيها.
الكونفيدرالية الإسرائيلية- الفلسطينية لن تكون أول ترتيب من هذا القبيل.. فقد كانت الكونفيدراليات موجودة منذ قرون، ويشير المصطلح إلى رابطة أو اتحاد تتفق فيه دولتان أو أكثر ذات سيادة على التنازل عن بعض سلطاتها السيادية لمؤسسات مشتركة، لغرض تحقيق أهداف مشتركة، مثل الأمن المتبادل أو التكامل الاقتصادى.. وعادة ما تمتلك الدول الأعضاء فى الكونفيدرالية شخصيات دولية مستقلة.. ولكن الكونفيدراليات غالبًا ما تُسهل أيضًا حرية حركة الأشخاص والسلع داخلها.. لقد استُخدِمَت الكونفدراليات، مثلها كمثل ترتيبات تقاسم السلطة الأخرى، منذ أمد بعيد، لمعالجة التوترات العرقية فى المساحات المشتركة.. وفى بعض الأحيان، لعبت الكونفيدراليات دورًا انتقاليًا.. على سبيل المثال، سهّل اتحاد صربيا والجبل الأسود الانتقال السلمى إلى استقلال الجبل الأسود، فى منطقة كانت تعانى من الحروب العرقية.. وكانت سويسرا ذات يوم اتحادًا بين كانتونات ناطقة بالألمانية والفرنسية والإيطالية.. ولكن فى دستورها لعام 1848، تحولت إلى اتحاد فيدرالى أكثر تماسكًا.
لكن الكونفيدراليات لا تحتاج إلى أن تكون مؤقتة.. فالاتحاد الأوروبى، على سبيل المثال، هو كونفيدرالية أثبتت أنها دائمة إلى حد كبير.. فقد تأسس لضمان عدم تحول أوروبا إلى مصدر لحرب عالمية ثالثة، وقد نجح إلى حد كبير فى هذه المهمة.. بل إنه نال جائزة نوبل للسلام عام 2012.. كما نجح التكتل فى نواحٍ أخرى أيضًا.. فقد أنتج التعاون الاقتصادى والعلمى، ومكّن من حرية التنقل، وعزز حقوق الإنسان والديمقراطية وسيادة القانون.. وقد طالبت الدول الخارجية بالسماح لها بالانضمام، ولم يغادر الاتحاد سوى عضو واحد، هو بريطانيا.. وعلى الرغم من أن الاتحاد الأوروبى قد أسس سياسة تجارية مشتركة، وقواعد بيئية، والعديد من أنواع التنظيمات الأخرى، فإن كل دولة فى الكتلة تظل ذات سيادة، بقوانينها الخاصة، وشخصيتها الدولية المتميزة، وهويتها الوطنية الخاصة.
ومثل الاتحاد الأوروبى، فإن الكونفيدرالية الإسرائيلية- الفلسطينية سوف تتألف من دولتين منفصلتين.. وسوف تنشأ فلسطين إلى جانب إسرائيل، مع وجود حدود دولية مُعترف بها بينهما.. وسوف تتمتع كل دولة بالسيادة، وتتمتع بنظام دستورى منفصل، وعضوية فى المنظمات الدولية، وسلطة مستقلة على مجموعة واسعة من المجالات، مثل التعليم، والشئون الخارجية، وإنفاذ القانون، والرعاية الاجتماعية، والضرائب.. وفى هذه النواحى، فإن الكونفيدرالية هى فى جوهرها حل الدولتين.. ولكن هذا الإطار سوف يختلف عن حل الدولتين المألوف فى جوانب مهمة.. فعلى سبيل المثال سوف تكون هناك حدود منظمة ولكن مفتوحة بين الدولتين.. وعلى مدى فترة انتقالية، سوف يكتسب مواطنو الدولتين الحق فى التنقل فى جميع أنحاء البلاد، مع مراعاة التدابير الأمنية المتبادلة والمنسقة.. وفى نهاية المطاف، سوف يتمتع الإسرائيليون والفلسطينيون أيضًا بحرية الإقامة فى جميع أنحاء وطنهم المشترك، «على الرغم من أن حقوق الإقامة سوف يتم تنفيذها تدريجيًا، مع الاهتمام الدقيق بالاستقرار السياسى والاقتصادى».. وهذا يعنى أن المواطنين الإسرائيليين، بمن فى ذلك المستوطنون فى الضفة الغربية، يمكنهم الإقامة فى فلسطين، شريطة التزامهم بقوانينها، فى حين يمكن للمواطنين الفلسطينيين، بمن فى ذلك اللاجئون، الإقامة فى إسرائيل على نفس الأساس.. وسوف يحتفظ المواطنون الفلسطينيون فى إسرائيل بمواطنتهم الإسرائيلية وحقوق الإقامة.
وكما هى الحال فى الاتحاد الأوروبى، فإن حقوق التصويت فى الانتخابات الوطنية سوف تستند إلى الجنسية، فى حين أن حقوق التصويت فى الانتخابات المحلية سوف تستند إلى الإقامة.. وعلى هذا، فإن اللاجئ الفلسطينى العائد الذى يختار العيش فى يافا، سوف يصوت لصالح الجمعية الوطنية الفلسطينية، وليس الكنيست، ولكنه سيكون قادرًا على التصويت لصالح مجلس مدينة يافا- تل أبيب.. وعلى العكس من ذلك، فإن الإسرائيلى المقيم فى مستوطنة سابقة سوف يصوت فى الكنيست، وليس الجمعية الوطنية الفلسطينية، ولكنه سوف يشارك فى اختيار الممثلين فى الحكومة البلدية المتكاملة.
هذا النظام الحدودى يعالج العديد من القضايا التى أعاقت اتفاقيات السلام فى الماضى.. فهو يقدم حلًا للمستوطنات لا يستلزم الإخلاء القسرى الجماعى للمستوطنين الإسرائيليين، ولا يقوض السيادة الفلسطينية.. وهو يوفر للاجئين الفلسطينيين الفرصة للعودة للعيش فى أماكنهم الأصلية، مع ضمان بقاء إسرائيل الوطن القومى للشعب اليهودى.. وهو يتجنب بناء حاجز مادى يُقسم القدس، مما يسمح لعاصمة الدولتين بأن تكون مدينة مفتوحة، تديرها إما بلدية واحدة مشتركة أو حكومتان بلديتان منسقتان ينتخبهما سكان جانبى المدينة.. فضلًا عن ذلك، ولأن هذا الإطار لا يتطلب من الإسرائيليين أو الفلسطينيين التخلى عن ارتباطهم بأى جزء من البلاد، فإنه يُخفض من مخاطر تحديد مكان الحدود بين الدولتين.
●●●
وتختلف الكونفيدرالية عن حل الدولتين المألوف بطريقة مهمة أخرى.. فهى ستوفر للإسرائيليين والفلسطينيين إطارًا مؤسسيًا قويًا ومرنًا بما يكفى لإدارة التحديات المشتركة التى يواجهانها.. فى محادثات السلام السابقة، أدرك الجانبان أن المساحة الضئيلة التى يتقاسمانها تتطلب التعاون بين إسرائيل وفلسطين منفصلتين.. وفى بعض المجالات- مثل الزراعة، والخدمات المصرفية، والعدالة الجنائية، وتخطيط التنمية، والتعليم، والشئون الخارجية، والضرائب، والسياحة- من المرجح أن يكون مثل هذا التعاون كافيًا.. ولكن الكونفيدرالية من شأنها أن تجعل من الأسهل على الدول معالجة مواضيع أكثر صعوبة بشكل مشترك.. على سبيل المثال، يمكن لإسرائيل وفلسطين إنشاء مؤسسات مشتركة لمعالجة المسائل التى تتعلق بالبنية الأساسية أو الموارد، مثل الطيران المدنى، والجمارك، والطاقة، وحماية البيئة، والهجرة، والصحة العامة، والنقل.. وسوف تتمتع كل دولة بسلطة على أمنها الداخلى، ولكن المؤسسات الكونفيدرالية سوف تعمل على تسهيل التعاون الوثيق وتبادل المعلومات الاستخباراتية بين أجهزة الشرطة فى كل جانب.. ومن ناحية أخرى، قد تتم إدارة الأمن الخارجى من خلال مؤسسات مشتركة مرتبطة بإطار أمنى إقليمى.
ولضمان حل النزاعات بين الدولتين سلميًا، وحماية حقوق الإنسان فى مختلف أنحاء الوطن المشترك، سوف تحتاج الكونفيدرالية إلى مجموعة من المؤسسات القضائية المشتركة، كـ«مكمل للمحاكم الوطنية».. ومن المرجح أن تتطلب هذه المحاكم وغيرها من الهيئات الكونفيدرالية مشاركة طرف ثالث منذ البداية، من أجل بناء الثقة المتبادلة وتجنب الجمود.. وسوف تحتاج جميعها إلى البناء على مبدأ المساواة الجماعية: فكرة أن الطرفين متساويان، وألا أحد منهما يهيمن على الآخر.. وهذا المبدأ ضرورى بعد تجربة اتفاقيات أوسلو، التى ساعدت فى إنشاء لجان مشتركة للتعاون فى مجالات مثل الأمن وإدارة المياه والاتصالات، والتى كثيرًا ما اعتبرها الفلسطينيون قسرية.. ولا يعنى هيكلة الترتيبات الكونفيدرالية حول المساواة الجماعية أن الأطراف لا بد وأن تتوصل إلى المفاوضات بقدرات متطابقة.. ففى العديد من المجالات، مثل القدرة الاقتصادية، والرعاية الاجتماعية، والرعاية الصحية، والدفاع، سوف تكون هناك فجوات هائلة بين الإسرائيليين والفلسطينيين، الأمر الذى قد يتطلب من كل دولة أن تتولى أدوارًا مختلفة، أو تتلقى فوائد مختلفة لبعض الوقت.. ولكن المطلوب هو الالتزام المعيارى بالمساواة الفردية والجماعية، والإطار الذى يضمن ترجمة هذا الالتزام إلى واقع.
●●●
من الواضح أن إنشاء كونفيدرالية إسرائيلية- فلسطينية سيكون صعبًا.. والواقع أن البعض قد يتصور أن السيناريو الذى يتم فيه بناء دولة فلسطينية من أنقاض غزة والضفة الغربية المجزأة، ثم الدخول فى تعاون وثيق مع إسرائيل، قد يبدو مستحيلًا تقريبًا.. ذلك أن العداوة بين الطرفين، وعدم التوازن الشديد فى القوة، والتجاهل الصارخ للقانون الدولى، تشكل عقبات هائلة أمام السلام.. ولكن هذه الحواجز تعوق أى حل، والكونفيدرالية أكثر جدوى من النهج المبنى على الفصل والهيمنة.. والأمر الحاسم هنا، هو أن الكونفيدرالية مصممة أيضًا لإرساء السلام المُستدام، وليست نظامًا لإدارة الصراعات الدائمة.. ولكن التغلب على هذه الحواجز يتطلب مساعدة خارجية من جانب الإسرائيليين والفلسطينيين.. بل وربما تكون هناك حاجة إلى إدارة انتقالية دولية، تتمتع بالسلطة على الضفة الغربية وقطاع غزة، وتيسير نقل السلطة من الجيش الإسرائيلى إلى المؤسسات الحكومية الفلسطينية.. وفى الأمد القريب، سوف تكون هذه الإدارة ضرورية لإحلال الأمن والنظام العام والإغاثة الإنسانية فى المنطقتين.. وفى الأمد المتوسط، سوف تركز هذه الإدارة على إنهاء الاحتلال الإسرائيلى، والمساعدة فى بناء دولة فلسطينية قابلة للحياة، وتأسيس المؤسسات المشتركة للاتحاد.. وسوف تعمل الإدارة أيضًا على تقليص الفوارق الاجتماعية والاقتصادية بين الفلسطينيين واليهود الإسرائيليين.. ولا بد وأن تحظى هذه الإدارة بتفويض من مجلس الأمن، وأن تعمل بالتعاون مع الحكومتين الإسرائيلية والفلسطينية، وأن تضع أحكامًا واضحة تحدد مواعيد انتهاء هذه الفترة.
ولكن، فى الوقت الحالى، قد يبدو الحديث عن مثل هذه الإدارة سابقًا لأوانه.. فمن المفهوم أن يظل اهتمام العالم منصبًا على تحقيق وقف إطلاق النار، الذى من شأنه أن ينهى القتل والدمار فى غزة، ويعيد الرهائن الإسرائيليين والسجناء الفلسطينيين إلى ديارهم، ويقلل من احتمالات اندلاع حرب إقليمية أكبر.. ولكى تنجح كل هذه الأهداف، فلا بد وأن تسترشد الدول المعنية برؤية واضحة وموثوقة وعادلة للمستقبل.. ولا بد وأن تدرك هذه الدول أن شعبين، كل منهما يضم أكثر من سبعة ملايين نسمة، سوف يستمران فى العيش معًا فى وطنهما المشترك.. والواقع أن الكونفيدرالية المبنية على قيم الشراكة المتساوية وحرية الحركة، تشكل هذه الرؤية على وجه التحديد، وهى توفر بديلًا مقنعًا للتطلعات الخطيرة التى يتبناها القوميون المتطرفون.. ولا بد وأن تعمل هذه الكونفيدرالية كبوصلة تساعد المسئولين على رسم مسار عبر القرارات الصعبة التى تنتظرهم.. إلا أن هناك عقبة كؤود، تعترض طريق أى حل لمشكلة الأرض بين إسرائيل وفلسطين، اسمها، بنيامين نتنياهو، الذى يرفض «حل الدولتين»، أو غيره من الحلول.. لماذا؟.
●●●
يستند إصرار نتنياهو فى رفضه إقامة دولة فلسطينية إلى دوافع عقائدية وتاريخية قديمة، بجانب أسباب سياسية وانتخابية وشخصية، وفق ما يُوضّح خبيران داخل إسرائيل.. يربطان بين هذا الواقع والأسباب التى ترسم سياسة نتنياهو، وبين ما يرونه تمددًا للفكر الصهيونى والتلمودى فى المجتمع الإسرائيلى خلال السنوات الأخيرة.. فرفض حل الدولتين مبدأ مُترسّخ فى مسيرة نتنياهو، سواء حين كان زعيمًا للمعارضة أو خلال توليه منصب رئيس الوزراء، وظهر ذلك فى موقفه من اتفاق «أوسلو» للسلام مع الفلسطينيين عام 1993.. وجاء فى تقرير لصحيفة «نيويورك تايمز» أن نتنياهو ضاعف معارضته لوجود حكومة مؤقتة، تشرف عليها السلطة الفلسطينية، وتؤدى لدولة فلسطينية فى نهاية المطاف، وذلك فى مواجهة ما يتلقاه من ضغوط أمريكية وبريطانية وألمانية تؤيد حل الدولتين.. وقال نتنياهو: «أنا فخور لأننى منعت إنشاء دولة فلسطينية؛ لأن الجميع اليوم يفهمون ما كان يمكن أن تكون عليه تلك الدولة الفلسطينية.. والآن بعد أن رأينا الدولة الفلسطينية الصغيرة فى غزة، يفهم الجميع ما كان سيحدث لو استسلمنا للضغوط الدولية، وقمنا بتمكين دولة كهذه فى الضفة الغربية».
الجانب الدينى حاضر فى دوافع نتنياهو لرفض الدولة الفلسطينية، وفى ذلك يقول سهيل دياب، نائب رئيس بلدية الناصرة السابق فى الداخل الإسرائيلى، إنه حين أحضر رئيس الوزراء الراحل، إسحق رابين، أوراق اتفاق أوسلو إلى الكنيست لإقراره، فى سبتمبر 1993، تصدى له زعيم المعارضة آنذاك، بنيامين نتنياهو، متحدّثًا عن «الجذور التاريخية والتلمودية للشعب اليهودى مع مناطق الضفة الغربية والقدس وبيت لحم والخليل»، مؤكدًا أن أهمية هذه المناطق لليهود تفوق تل أبيب وحيفا وبئر السبع.. وحينها، اتهم نتنياهو كل من «يتنازل» عن القدس والضفة بالخيانة، وأنه «لن نغفر له مدى العمر»، ورغم أن الاتفاق تم تمريره بأغلبية، لكن أقوال نتنياهو تمت ترجمتها لاحقًا باغتيال رئيس الوزراء الأسبق، إسحاق رابين، عام 1995، على يد أحد غلاة اليمين التلمودى، ثم تولى نتنياهو رئاسة الحكومة، لأول مرة، عام 1996.. هناك سبب آخر، وهو سياسى انتخابى شخصى؛ فمنذ 2018 حتى الانتخابات الأخيرة، لم ينجح نتنياهو خلال خمس جولات انتخابية فى كسب الأغلبية، ولم يبقَ أمامه سوى الهروب للأمام عبر التيار اليمينى؛ لأن الأمر الأساسى الذى يمكن أن يجمع به جمهور العلمانيين اليمينى والجمهور التلمودى، هو العداء لحق الفلسطينيين فى تقرير المصير.. يساعد نتنياهو على تمسكه بموقفه وإعلانه أن «المجتمع الإسرائيلى بدأ يتغير تغييرًا بنيويًا عميقًا، فلم يعد هو الذى كان وقت إقامة إسرائيل 1948».. كيف؟.
لم يعد المجتمع الإسرائيلى مُنقسمًا بين صهيونيين ليبراليين وعلمانيين، مقابل متدينين تلموديين غير صهيونيين، لكن يتغير من ناحيتين: الأولى، تديّن متدحرج للعلمانيين والليبراليين، والأخرى، صهينة المتدينين اللاهوتيين.. وبناءً على هذا، أصبحت المواقف اليمينية المتطرفة مندمجة بعمق مع اليمين اللاهوتى والتلمودى؛ مما يسمح بـ«تجييش شعور الاستكبار، وتوسيع الاستيطان فى الضفة، من عشرات آلاف المستوطنين بعد أوسلو، إلى سبعمائة وخمسين ألفًا اليوم».. كل ذلك تجلّى بعد «صدمة» هجوم السابع من أكتوبر، ونتنياهو يعلن: «لا لدولة فلسطينية، لا للتعامل مع السلطة الفلسطينية، ولا لدولة حماستان أو دولة فتحستان».
لذلك، يتهم المعارضون نتنياهو بتعمّد إطالة أمد الحرب فى قطاع غزة «تشبثًا بالكرسى»، وتجنبًا لسقوط الحكومة عقب الحرب.. بل إن نتنياهو، بتجديده رفض حل الدولتين، يبحث عن زيادة شعبيته داخل أوساط «اليمين المتطرف والمستوطنين»، وأن الحكومة فى عهده «تُفضّل مدنيين مقصوفين ومدفونين تحت الأنقاض، بدلًا من نهاية الحرب»، مع أن «التخلى عن المختطفين وقتلى جيشه وجرحاه لتأخير نهاية الحكومة، جريمة لا تُغتفر».
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.