موسم الخير.. حصاد الياسمين فى «شبرا بلولة»: ورد وعطور و«أكل عيش»
تعتبر قرية «شبرا بلولة» التابعة لمركز «قطور بمحافظة الغربية» واحدة من أبرز المناطق فى العالم لزراعة وصناعة الياسمين، حتى إنها تسهم بما يقارب ٤٠٪ من إنتاج الياسمين عالميًا، ما يجعلها وجهة مميزة لعشاق هذه الزهور العطرة.
وتعتبر زراعة الياسمين فى مصر من الفنون الزراعية العريقة التى تعود جذورها إلى عام ١٩٥١، عندما أدخل أحمد باشا حمزة هذه الزراعة إلى قرية «طحانوب» التابعة لمركز شبين القناطر.
وفى عام ١٩٥٥، تم إدخال زراعة الياسمين بشكل رسمى إلى قرية «شبرا بلولة»، على يد أحمد بك فخرى، نجل محمود باشا فخرى، سفير مصر فى فرنسا آنذاك، الذى دشن شراكة مع سيدة أعمال فرنسية تدعى سيسل كوحيل.
نتجت عن هذه الشراكة زراعة الياسمين فى مزرعة عائلية واسعة تبلغ مساحتها ٥٥ فدانًا، مثلت بداية زراعة الياسمين داخل قرية «شبرا بلولة»، التى تفوقت أراضيها على كل الأراضى الزراعية داخل وخارج مصر، من حيث الكفاءة الإنتاجية ومتوسط إنتاج الفدان.
جمع المحصول بعد «نص الليل».. ومصانع لتحويل المحصول لزيوت عطرية
تمثل زراعة وصناعة الياسمين فى محافظة الغربية تراثًا عريقًا يجمع بين العمل الشاق والإبداع، مع مساهمتها فى دعم الاقتصاد المحلى، وتعزيز مكانة مصر فى السوق العالمية للعطور.
ومع استمرار الجهود لتحسين جودة الإنتاج، تظل آمال أهالى قرية «شبرا بلولة» معلقة على موسم الياسمين المقبل لزيادة الإنتاجية، وتطوير صناعة استخلاص العجينة والزيوت العطرية، ومن ثم النهوض بالزراعة والصناعة العريقة التى توارثوها أبًا عن جد.
وتشتهر قرية «شبرا بلولة» بزراعة الياسمين فى مساحات شاسعة منذ عقود، ما أكسبها شهرة عالمية فى مجال إنتاج العطور والزيوت العطرية، إلى جانب عجينة الياسمين بصفة خاصة، والعجائن العطرية عامة، التى يتم تصديرها إلى الدول الأوروبية، بعد استخلاصها من زهرة الياسمين.
وتضم «شبرا بلولة» عدة مصانع تعمل فى هذا المجال، ما يوفر فرص عمل للعديد من سكان القرية، التى تقع فى منطقة تتميز بمناخ معتدل وتربة خصبة، ما يسهل زراعة الياسمين، ومنح القرية فرصة لتصبح مركزًا تاريخيًا لزراعة النباتات العطرية وعلى رأسها الياسمين، لتسهم هذه الزراعة عبر عدة عقود فى تشكيل هوية المنطقة، وتحويل سكانها إلى منتجين ومُصنعين للياسمين.
وتعتبر زراعة الياسمين النشاط الرئيسى فى القرية، حيث تزرع أنواع متعددة، مثل الياسمين العربى «البلدى»، مع اعتماد المزارعين على تقنيات زراعية متقدمة لضمان جودة المحصول.
وتبدأ مراحل الزراعة باختيار الشتلات، وتحديدًا الشتلات الصحية ذات الجودة العالية، والتى تستمر بعد زراعتها لسنوات داخل الأراضى، إذ إن زراعة الياسمين من الزراعات المعمرة.
بعدها تأتى مرحلة الزراعة، من خلال زراعة الشتلات فى الأرض بعد تجهيزها، تليها مرحلة الرعاية، فى ظل حاجة النباتات إلى عناية دقيقة فى الرى والتسميد، ومن قبلهما التنظيف الدقيق.
أما آخر مراحل زراعة الياسمين فتتمثل فى الحصاد، والذى يتم فى الصباح الباكر للحصول على أفضل جودة، فزهرة الياسمين تحتاج إلى أن تجمع فى عدم وجود أشعة الشمس.
من جهته، قال السيد أبوفدان، مزارع، إن موسم زراعة الياسمين فى قرية «شبرا بلولة» يعتبر تقليدًا متوارثًا منذ القرن الماضى، مع اعتماد معظم الأهالى على هذه الزراعة كمصدر رئيسى للرزق.
وأضاف «أبوفدان»: «زهرة الياسمين تتطلب طرق زراعة محددة وحساسة، ما يجعلها تختلف عن الزراعات الأخرى»، مشيرًا إلى أن موسم الحصاد لزهرة الياسمين يبدأ فى ساعة متأخرة من الليل، بتوجه الفلاحين إلى الحقول بداية من الواحدة بعد منتصف الليل، حاملين كشافات الرأس المضيئة لجمع المحصول.
الفدان ينتج 8 أطنان.. وفرنسا أكثر المستوردين
أكد بكرى حسن، أحد جامعى زهور الياسمين فى «شبرا بلولة»، أن حرارة الجو فى شهور الصيف، خاصة يونيو، تؤثر على زهرة الياسمين، لذا تُقطف قبل شروق الشمس لحمايتها من الجفاف.
وأضاف «حسن»: «تعرُّض الزهور لحرارة الشمس قد يحرقها ويقلل من نسبة الإنتاج، فالحرارة تجعل الزهرة تعيش فى حالة هشاشة، والجزء المخفى من الورق يتعرض للجفاف، بينما يحترق الجزء الآخر، ما يؤثر سلبًا على جودة الزيت المستخرج».
وحسب جامع الياسمين، تورث القرية بمختلف عائلاتها هذه الزراعة عبر الأجيال، من خلال مشاركة الشباب والأطفال والنساء فى زراعة وجمع الزهور، مضيفًا: «عملية جمع الزهور تتزامن مع الإجازة الصيفية للمدارس، ما يزيد من مشاركة كل الأعمار فى هذا النشاط الرئيسى بالقرية».
وواصل: «عملية الجمع لا تتعارض مع عمل الموظفين، فى ظل جمع محصول الياسمين عادة بين الواحدة والسادسة صباحًا، فى ظل الحاجة إلى حصاده قبل سطوع الشمس لحماية الزهور الحساسة، ما يجعل العمل فى الجمع متاحًا للجميع».
أما رضا المنشاوى، أحد أصحاب مجمعات الياسمين، فقال إنه «بعد قطف الزهور، توضع فى أماكن جيدة التهوية، على طاولات مصنوعة من الجريد للحفاظ على نضارتها».
وأفاد «المنشاوى» بأن زيت الياسمين يعتبر من المواد الأساسية فى صناعة العطور، على ضوء استخدام أزهاره لمدى يصل إلى ٣٠ عامًا.
وأوضح أن «الموسم يسهم فى توفير فرص عمل، وتعزيز الاقتصاد المحلى. ومع اقتراب موسم الحصاد، يبقى الأمل معقودًا على تحقيق إنتاج وفير يعود بالنفع على الأهالى، ويعزز من مكانة القرية فى الأسواق العالمية».
وقال عمرو محمود، أحد ملاك مصانع النباتات العطرية، إن القرية تشهد انتعاشًا كبيرًا مع بدء موسم قطف الياسمين، الذى يتضمن إنتاج الزيت العطرى من هذه الزهور، وتصديرها إلى دول مثل فرنسا والولايات المتحدة، ما يُعزز من مكانة القرية فى سوق العطور العالمية.
وواصل: «المصانع الموجودة فى القرية تعتبر جزءًا أساسيًا من صناعة الياسمين»، مشيرًا إلى أنه يتم تسلم الزهور من الفلاحين وتوريدها إلى هذه المصانع، علمًا بأن الفدان الواحد ينتج بين ٦ و٨ أطنان من الزهور، ويُستخلص من كل طن نحو ٣ كيلوجرامات من العجينة، التى تُستخدم لإنتاج نحو كيلو و٤٠٠ جرام من الزيت العطرى، وهو الذى يتم تصديره بشكل رئيسى إلى دول أوروبا، خاصة فرنسا.
«العجينة» تتطلب خطوات دقيقة وإقبال عالمى نظرًا لجودتها
أوضح المهندس حسن على، مدير أحد المصانع الكبرى المتخصصة فى تصنيع عجينة الياسمين، أن تصنيع العجينة يعد من العمليات الدقيقة التى تتطلب خبرة كبيرة، إذ يبدأ بغسل الزهور جيدًا بعد جمعها من الحقول وتوريدها للمصانع، ووزنها لمعرفة توريد كل مجمع للزهور، ومن ثم تبدأ العمليات المختلفة فى المصنع لصناعة عجينة الياسمين على البارد.
وقال: «بعد غسل الزهور، تُوضع فى أوانٍ كبيرة ويُضاف إليها غاز الهيكسان، الذى يُساعد على عزل الزهور عن الزيت المطلوب فى عملية التصنيع، ثم يتم تمريرها على أجهزة متخصصة لاستخلاص الزيت بشكل أكثر نقاءً، ما يضمن جودة المنتج النهائى».
وأضاف: «تأتى المرحلة الأخيرة فى عملية التصنيع، بعد أن يتم الحصول على الزيت وتحويله إلى عجينة، تخزن فى أوانٍ من الألومنيوم، ثم يُصدّر هذا المنتج كمادة خام إلى أوروبا، حيث يستخدم فى صناعة العطور ومستحضرات التجميل الراقية».
واستطرد: «بالإضافة إلى عجينة الياسمين، تعمل المصانع على استخلاص العطور والزيوت من أزهار البنفسج والقرنفل والزعتر والنارنج والليمون بنفس الطريقة، ورغم ذلك، تبقى زهور الياسمين رائد الصناعة فى قرية شبرا بلولة، بفضل جودتها العالية والطلب المتزايد عليها فى الأسواق العالمية».
الحصاد يمتد لـ4 أشهر.. والأطفال يعملون به قبل الذهاب للمدرسة
قال السيد محمود، أحد العاملين فى جمع الياسمين، إن جميع سكان شبرا بلولة، من الكبار إلى الأطفال، يعملون فى قطف زهور الياسمين، نظرًا لتوارث مهارات العمل اللازمة داخل الأسر فى القرية.
وأضاف: «يستيقظ الأطفال، بدءًا من سن السابعة، قبيل الفجر بعدة ساعات، ويقطفون الياسمين لبضع ساعات فى الصباح قبل أن يتوجهوا إلى المدرسة، خاصة أن موسم الحصاد يمتد لنحو ٤ أشهر».
وأشار إلى أن حصاد الياسمين يعد عملية رائعة وفريدة، مضيفًا: «قبل غروب الشمس، تبدو حقول الياسمين كأى منطقة خضراء أخرى، لكن بعد ساعات قليلة تتفتح البراعم وينتشر عبيرها، والحصاد الأفضل يتم فى الظلام، ويبدأ أهالى القرية فى قطف الزهور من الساعة الواحدة صباحًا وحتى شروق الشمس، لأن الأزهار بعدها تفقد رائحتها المميزة».
واستطرد: «العمل فى الياسمين لا يتوقف عند جمع الأزهار من الحقول فقط، بل يمتد بعد ذلك إلى تقليم وتهذيب الأشجار استعدادًا للموسم الجديد، وهو أمر شاق لكن جميع أهالى القرية معتادون عليه».
زيادة كبيرة فى التصدير أنهت البطالة فى القرية
أوضح حمادة الشرقاوى، عضو لجنة تطوير زراعة الياسمين، أن قرية شبرا بلولة تعد مركزًا رئيسيًا للياسمين على مستوى العالم، موضحًا أن محافظة الغربية تزرع ٦٧٤ فدانًا من الياسمين، ما يمثل ٧٠٪ من إنتاج سوق الياسمين على مستوى العالم، ويتركز أكثر من نصف المساحة المزروعة فى القرية التى يتمسك أبناؤها بتراثهم الزراعى الذى ورثوه عن آبائهم، رغم التحديات المناخية، مشيرًا إلى أن هذه الزراعة انتشرت بشكل كبير فى القرية بعد إقامة أول مصنع لزيت الياسمين بها.
وقال: «يبدأ موسم الحصاد عادة فى نهاية شهر مايو، ويستمر حتى نهاية نوفمبر، ما يعنى أن متوسط فترة الجمع يصل إلى ١٢٠ يومًا، ويتراوح متوسط إنتاج الفدان من الياسمين بين ٧ و٨ أطنان، ويبلغ سعر الطن نحو ١٠٠ ألف جنيه، وقد تأثرت زراعة الياسمين بالتغيرات المناخية، ومن المتوقع أن ينخفض الإنتاج بأكثر من ٢٠٪ هذا العام».
وأضاف: «قرية شبرا بلولة ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بموسم حصاد الياسمين، الذى أصبح يشبه موسم حصاد القطن فى السابق، لأنه يشهد زيادة فى دخل الأسر، وموسمًا لزواج الفتيات وتنفيذ المشروعات، ويؤثر فى كل نواحى الحياة فى القرية».
ونوه إلى أن زراعة الياسمين تعد واحدة من الزراعات كثيفة العمالة، إذ يحتاج الفدان الواحد إلى ٢٤ عاملًا يوميًا، ولمدة ٦ أشهر، لذا يعمل سكان القرية والقرى المجاورة فى زراعة الياسمين، ثم استخلاص الزيت بعد انتهاء موسم الحصاد، ما يضمن عدم وجود بطالة فى المنطقة».