رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الوثائق الإسرائيلية السرية لحرب أكتوبر.. كيف هزم السادات جولدا مائير وموشيه ديان؟

السادات
السادات

على مدار ما يقرب من خمسة عقود ومحاولات تزييف حقائق نصر أكتوبر لم تتوقف. بعد النصر بعام واحد كتبت مجموعة من العسكريين والمراسلين العسكريين الإسرائيليين وثيقة مهمة فى كتاب بعنوان «المحدال» أو «التقصير»، وكان لى شرف عرض محتوياته فى سلسلة مقالات بجريدة «الدستور»، كشفوا فيه عن هزيمة حقيقية لإسرائيل لا تقبل الشك. لكن بعد أن استفاق الكيان الصهيونى، بدأ فى محاولات لملمة هزيمته وإذلاله وكسر غطرسته العسكرية والسياسية على أيدى القوات المسلحة المصرية. 

قرر الكيان أن يقوم بأكبر عملية تعتيم وتضليل معلوماتى على ما حدث. نفخوا فى مشهد عابر اسمه الثغرة، وجعلوا منه فخًا معلوماتيًا دعائيًا كبيرًا سقط به للأسف مصريون كُثر على الجانب الموازى أو المصرى.

أذكر مناقشاتى مع بعض الزملاء الذين كانوا يرون أن مصر لم تنتصر، أو أنها انتصرت فى البداية، ثم انتصرت إسرائيل أو أن الحرب كانت تعادل، وبعضهم حاول التشبث بما كتبه الراحل سعد الدين الشاذلى فى مذكراته ليدلل على وجهة نظره تلك.

قطعًا كان للجماعات التكفيرية دور فى التعتيم على النصر الوطنى، وكلنا نتذكر وقاحة محمد البلتاجى وهو يصف علانية الجيش المصرى، بعد عام ٢٠١١م، بأنه جيش النكسة والقطعان حوله تحتفى بأكاذيبه الوقحة، وتجاهل خطباء المساجد هذا النصر لأربعة عقود كاملة حتى لو صادف يوم الجمعة السادس من أكتوبر، حتى تم أخيرًا تصويب هذا الفكر الضال وأصبحنا نسمع عن نصر أكتوبر فوق منابر مساجدنا.

ورغم أهمية كتاب «التقصير» الذى نوهت إليه، فإنه يبقى رؤية شخصية لمجموعة معينة خاضت معارك بعينها، لكن حين نكون أمام وثائق رسمية إسرائيلية تم الكشف عن سريتها بعد أربعة عقود كاملة من نصر أكتوبر، فهذا يعنى أننا نفتح بوابة تاريخ حقيقية نطلع من خلالها بشكل لا يقبل التشكيك على حقيقة ما حدث يوم السادس من أكتوبر وحتى وقف إطلاق النار. فى حديثى هذا أتناول قصتين مختلفتين، لكنهما تندرجان تحت نفس العنوان وتتمتعان بنفس الأهمية، عن توثيق إسرائيلى رسمى لما حدث فى أكتوبر تم حجبه عمدًا لعدة عقود بعد النصر المصرى.. وقصة ثالثة أخيرة عن مصر المعاصرة بعد مرور أكثر من نصف قرن على نصرها الأكبر.

 

قبل أن تقرأ 

القصة الأولى هى ما بدأت أحداثها بعد أكثر من خمسة وثلاثين عامًا من نصر أكتوبر، حين بدأت إسرائيل فى الإفراج عن بعض وثائق حكومية بشكل متدرج وصل لذروته فى عام ٢٠١٣م بوصول عدد هذه الوثائق إلى العدد ١١٨ وثيقة فى مجموعتين، الأولى تضم محاضر اجتماعات المجموعة القيادية الوزراية لإدارة الحرب بين يومى ٦ أكتوبر و٩ أكتوبر. يتراوح عدد صفحات وثائق هذه المجموعة بين ثلاث صفحات، وثمانى عشرة صفحة، بينما تضم المجموعة الثانية شهادات المسئولين السياسيين والعسكريين والقادة الميدانيين للحرب أمام لجنة أجرانات التى تم تشكيلها بعد الحرب للتحقيق فى هزيمة إسرائيل، ويتراوح عدد صفحات هذه الوثائق بين ٢٠ صفحة، و١٨٠ صفحة، وغالبيتها يبلغ صفحاته من ٧٠ إلى مائة صفحة، وهذه المجموعة تشمل شهادات جميع القادة العسكريين تقريبًا من وزير الدفاع إلى رؤساء المخابرات ونوابهم وقادة الأسلحة المختلفة من طيران ومشاة ودفاع جوى مرورًا بقادة الألوية والكتائب وضباط ميدانيين، أى أننا أمام صورة كاملة لما حدث عسكريًا على الأرض. تصدت مجموعة مصرية من أساتذة اللغة العبرية للقيام بمهمة ترجمة هذه الوثائق، وبالفعل فقد صدرت الترجمة فى موسوعة مكبرة من أربعة أجزاء بعنوان «انتصار أكتوبر فى الوثائق الإسرائيلية السرية» بدءًا من الجزء الأول الصادر عام ٢٠١٤م، وحتى الجزاء الرابع الصادر عام ٢٠٢١م.
وفى مقدمة الموسوعة تحدث المترجمون عن المصاعب المتعمدة التى واجهوها فى الترجمة، لأن إسرائيل حرصت على حذف بعض الأسماء أو العبارات هنا أو هناك بطلب من المخابرات العسكرية، ولأن بعض الوثائق كانت فى حالة سيئة من الحفظ، إلا أنهم استطاعوا بالفعل إنجاز هذا العمل الوثائقى العظيم.

تفجر مائير فى شهادتها مفاجأة تستحق التوقف.. عن شخصية الشهيد السادات الذى تم اتهامه من مصريين وعرب بالخيانة.. تقدم فى شهادتها اعتذارًا صريحًا للسادات عن سوء تقديرها وتقديرهم لشخصه.. حيث تقول نصًا: «كل ما نعرفه أن السادات يتخذ القرارات وحده تحديدًا.. وإن كل شىء مركز فى يده الآن.. قيل لنا طوال الوقت إنه لا يتشاور مع أحد.. إنه هو من قرر طرد الروس من مصر.. ولم يكن هذا منطقيًا جدًا. لكن ذات صباح يوم صاف قام ولم يسأل أحدًا وقال للمستشارين الروس عودوا إلى بلادكم. يخيل إلىّ أننا مضطرون إلى أن نكون مستعدين لأشياء غير منطقية فى هذه البيئة. فيما يتعلق بخروج المستشارين الروس شعبة المخابرات العسكرية لم تعرف.. لم نعرف ولم يعرف أحد سابقًا، كان قرارًا منفردًا من جانب السادات.
وفى ردها على سؤال آخر: «ربما نوى حقًا شن الحرب وكان هناك سبب دعاه إلى تأجيل ذلك، فنحن لا نعرف لماذا لم يحدث هذا فى مايو؟».
أجابت: «لا. لكننا نعرف أيضًا بضعة أمور، أنه منذ وقف إطلاق النار فى ١٩٧٠، عندما قدم لنا روجرز خطته، وقيل إن وقف النار سيستمر على الأقل ٩٠ يومًا، بعد ذلك كلنا نذكر أنه كانت للسادات تواريخ مختلفة.. نهاية السنة، هذه سنة الحسم. بعد ذلك عندما مُدد وقف إطلاق النار عدة أشهر أخرى قال إن هذا سيحدث فى مارس، كمان شهر واحد. كنا معتادين طوال الوقت على أن السادات رجل غير جاد يلقى بتواريخ ولا يخجل، وبعد ذلك يعتذر، وكان هناك من يتندرون على السادات ويسخرون منه، ويتساءلون كيف يمكن أصلًا أن يستمر، كيف يمكن للشعب أن يتحمله؟ كنا معتادين طوال الوقت أن السادات رجل غير جاد، والآن يمكننى تقريبًا أن أطلب العفو منه وأعتذر».
فى مجمل محاضر اجتماعات جولدا ومناقشاتها المطولة مع رئيس الأركان ووزير الدفاع، أصر ديان على عدم التعبئة العامة وأنه لا يحتاج إلا لاستدعاء احتياطى الطيران، وفرقتين، إحداهما فى سوريا والأخرى فى سيناء، وتشككت جولدا وأمرته بتكليف رئيس الأركان باستدعاء كل احتياطى الطيران، وأربع فرق احتياط والخدمات المعاونة لها ويبلغ إجمالى عدد المستعدين من ١٠٠ إلى ١٢٠ ألفًا، كان هذا فى التاسعة صباح السادس من أكتوبر، وبناء على فكرة أو معلومة أشرف مروان بأن الحرب ستكون فى السادسة من مساء اليوم.
وهنا يتضح بشكل صريح أن أشرف مروان كان جزءًا من خطة مصر. لأنه فى ذات الاجتماع قال ديان حرفيًا إن من يتم استدعاؤهم اليوم يمكنهم أن يشاركوا فى الحرب غدًا، ومن يتم استدعاؤهم الغد فلن يكون متاحًا لهم المشاركة إلا بعد يومين، ومصر كانت تحتاج إلى ساعات المبادرة الأولى، وإلى زرع الارتباك فى الجبهة الإسرائيلية.. فحين تتم التعبئة ويهرول هذا العدد فى شوارع إسرائيل تكون مصر تقوم بالفعل فى بدء الهجوم.
فى جزء آخر من شهادتها كشفت عن تصور رجال المخابرات لشخصية السادات: «طوال كل السنوات الماضية، كانوا جميعًا يقولون لنا إن السادات يعلم أنه سيُهزم لا محالة»، وقال موشيه ديان: «لقد كان شعورى هو أننا سنهزمهم بسهولة، كان تقييمنا يستند إلى الحرب السابقة، ولم يكن ذلك تقييمًا سليمًا، لقد كان لنا وللآخرين تقييم خاطئ لما يحدث وقت محاولة العبور».
ثم إن عبارات وفقرات وصفحات كاملة تتطرق لنفس الفكرة تؤكد عدة أمور:-
نجاح أجهزة مخابرات مصر نجاحًا باهرًا فى تسويق وتمرير ما خططت له شخصية السادات العبقرية، وتمت الإشارة إلى شخصية سياسية غير مصرية عميلة بمسمى «صديق بتسفيكا» والذى يبدو أن السادات قد قام باستغلال عمالته ومرر لإسرائيل من خلاله فكرة انهزاميته وعدم جديته فى الحرب.
فشل الإسرائيليون فى معرفة كيفية اتخاذ السادات قراراته، واعتقدت أنه يتخذ قراره العسكرى بسلطة مطلقة، وهذا قطعًا غير صحيح كما عرفنا فيما بعد من وثائق مصرية. وهذا يعنى نجاح المصريين فى عملية تعتيم قوية وأنهم كشفوا جميع عملاء إسرائيل الذين كان يمكنهم التواجد فى دوائر السلطة ومرروا من خلالهم ما أرادوه. 
إن ما يتم تقديمه دراميًا فى الأعمال المخابراتية عن حرب أكتوبر ليست به أى مبالغة، وربما يكون متواضعًا مقارنة بما ورد فى هذه الوثائق.
هذه الوثائق تنسف تمامًا الرؤية الصهيونية التى حاولت تمريرها فى السنوات السابقة عن أشرف مروان وأنه عميل مزدوج، وتؤكد- بالتصريح بأنه مصدر معلومة شن مصر للحرب الساعة السادسة مساء- أنه كان مصريًا وطنيًا يقوم بدور معقد من خطة التضليل المصرية.

هناك حوار يستحق القراءة بينها وبين ديان، وهما يرتبان السيناريو، الذى سيتم طرحه على كيسنجر، وذلك بعد عدة أيام من الحرب وقبل بدء الجسر الجوى العسكرى الأمريكى! 
تقول جولدا.. «فليأت رجل عسكرى وجهًا لوجه لتوضيح الأمر له، لا داعى لأن يدمرونا!»
يرد ديان.. «جولدا لن يدمرونا!»
جولدا «لكن هذا سيجلب الكوارث علينا!»
ديان.. «ست سنوات والروس يغدقون عليهم العتاد ويجهزونهم!»
جولدا تحسم الأمر.. «سأسافر متنكرة تمامًا وبشكل سرى ولن يعلموا، وليأت معى شخص عسكرى. لم تنكسر معنوياتنا.. نعم الجنود مصريون، ولكن الخطة العامة روسية، ظلوا يجهزونهم لمدة ست سنوات! إنهم- أى الأمريكيين- لا يعرفون الوضع إنهم يعتقدون أننا خلال يومين أو ثلاثة سننتهى من قصف المواقع العسكرية الأمامية!». 
ففى محضر اجتماع جولدا مع موشيه ديان ورئيس الأركان وتقريبًا كل القادة العسكريين وقادة الموساد يوم ٩ أكتوبر الساعة السابعة صباحًا، يقدم ديان تقريرًا للأوضاع الميدانية فيقول نصًا.. «بحسب تقديرى ليست لدينا فرصة للعبور، ومن الأفضل فى الفترة المقبلة ليس فقط ألا نعبر، بل أيضًا ألا نقترب لنطيح بالمصريين، فسوف تزهق الأرواح- يقصد أرواح جنوده- ولن نغير من الأمر شيئًا. كل النقاط الحصينة واقعة تحت الحصار، لم يتبق حصن واحد غير محاصر باستثناء حصن بودابست، ليس فقط أنهم لا يستطيعون الصمود، بل إن الدبابات لا يمكنها الوصول للنقاط الحصينة، يستحيل الانتقال بالدبابات إلى النقاط الحصينة، لقد حاول بيرن- قائد فرقة- مرتين الوصول إلى القناة، وفى المرتين لم يحالفه التوفيق، حيث فقد خمسين دبابة بكل أطقمها فى منطقة الميدان!».
«يقول بيرن إنهم يأتون بأناس انتحاريين حقًا، بالقرب من منطقة رمانة تصدت مجموعة من ٤٠ إلى ٥٠ فردًا للواء عسكرى، الجميع يذكر أن أفراد سلاح المشاة التابع لهم- يقصد المصريين- متميزون جدًا!» «لقد استُبعد عدد قليل من الدبابات المصرية- يقصد تم تدميرها- فهم أى المصريين لا يحاربون بالدبابات، وإنما بالصواريخ المضادة للدبابات التى يستخدمها أشخاص!».
فشل الإسرائيليون فى معرفة خسائر المصريين، وعبر عن ذلك فى لجنة التحقيق كل من موشيه ديان ورئيس الأركان فى أكثر من موضع، وكان هذا موقفهم حتى الأيام الأخيرة للحرب، وتكررت عبارات «إننا لا نعلم حجم الخسائر عند المصريين، وأنا لا أدرى مدى خطورة الوضع عندهم!» «الجيش النظامى بمفرده لن يستطيع صد الهجوم المصرى!».
وفى يوم السابع من أكتوبر فى نفس محضر الجلسة، يقول ديان «فى الجبهة الجنوبية- أى مصر- أقترح أن نتخلى عن خط القناة ونتثبت عند خط المضايق على بعد ثلاثين كيلومترًا من القناة.. أقترح أن نصدر أمرًا الليلة بالانسحاب من المواقع التى لا أمل فى الوصول إليها، والأماكن التى يستحيل إخلاؤها سيبقى المصابون، وإذا قرروا الاستسلام فليستسلموا.. هناك أربعة أو خمسة مواقع وهناك مئات الدبابات المصرية أصبحت موجودة فى الضفة الشرقية، وأى محاولة للوصول لتلك المواقع تتطلب سحق هذه الدبابات المصرية، لذلك ينبغى التخلى عن هذا الخط دون أمل فى الرجوع إليه، بل الانسحاب! هذا ليس الوقت المناسب لمحاسبة النفس، إننى لم أقدر جيدًا قوة العدو، ولا قدرته القتالية، بينما بالغتُ فى تمجيد قواتنا وقدرتها على الصمود!».
وعن منظومة الصواريخ المصرية وعجز سلاح الطيران الإسرائيلى عن المشاركة الفعالة فى صد العبور المصرى، فقد تكرر السؤال كثيرًا فى محاضر لجنة التحقيق، وظهر أنهم جميعًا- محققون ومستجوبون- يشعرون بمرارة كبرى من هذا العجز، واستفز المحققون موشيه ديان كثيرًا ووصل الأمر إلى أسئلة ساخرة ورد ديان بعصبية.
«ما حدث أن جيش الدفاع قد فوجئ ونتيجة لهذا فقد توازنه!». 
يقول ديان نصًا: «إنها أقوى منظومة صواريخ فى العالم، لا مثيل لها حتى فى موسكو!».
«الصواريخ شكلت مظلة منيعة لم يمكن لسلاحنا الجوى سحقها، ونسبة إصابة تلك الصواريخ بلغت ٧٠٪!». 

الحديث عن الأسلحة والتكتيكات العسكرية تكتظ به الموسوعة. لكن ما يلفت النظر هو أن مصر التى واجهتها إسرائيل عام ١٩٦٧م من الناحية العسكرية تختلف كليًا عن مصر عام ١٩٧٣م! وهذا الفارق الشاسع الذى صدم إسرائيل وقادتها، والذى لم يستغرق سوى سنوات معدودة جدًا، هذا الفارق يستحق أن نشير إليه من عدة جوانب، العقلية العسكرية المتزنة التى استطاعت توفير ما تحتاجه عسكريًا من معدات وأسلحة، والجانب التدريبى الذى استوعب هذه الأسلحة فى مدى زمنى قياسى، والتخطيط العسكرى الميدانى، الذى كان يواكب أحدث الخطط العسكرية وقتها، بالإضافة إلى الابتكار فى حل معضلات عسكرية بأفكار لم تخطر على بال المخطط العسكرى الصهيونى. 
تنبه الجانب الصهيونى لهذه الحقائق، وحاولت جولدا استغلالها لابتزاز الشريك الأمريكى، وحاولت تصوير الأمر، وكأن روسيا قد فتحت مخازن أسلحتها على مصراعيها أمام مصر مقابل تعنت أمريكى فى منح إسرائيل ما تحتاجه، هذا رغم الصعوبات التى واجهتها مصر فى الحصول على متطلباتها العسكرية وحالة التلكؤ التى تميز بها المورد الروسى!
ففى محاضر اجتماعاتها الأولى حتى سفرها لواشنطن سرًا لمقابلة كيسنجر هناك عبارات كثيرة تصب فى هذا السياق.. «هناك مشكلات فى العتاد يجب علينا أن نلجأ للأمريكيين.. ينبغى شراء ٣٠٠ دبابة، كما نحتاج المزيد من الطائرات، لديهم عتاد فى أوروبا!».
جولدا سألت فى اجتماع السابع من أكتوبر وزير دفاعها سؤالًا مباشرًا.. «هناك أمر لا أفهمه.. لماذا لم نبدأ فى إيقاع الإصابات بهم حينما كانوا يعبرون القناة؟!».
فرد عليها.. «توقف دور دباباتنا.. كانت هناك تغطية من المدفعية الثقيلة. دباباتنا دُمرت. الطائرات لم تتمكن من الاقتراب بسبب الصواريخ! ألف ماسورة مدفع مكنت دباباتهم من العبور وحالوا دون اقترابنا!».

هناك فى هذه الوثائق المئات من الحقائق، التى يمكن تصنيف كثير منها على أنها مفاجآت كاملة، وتصنيف البعض الآخر أنه وثائق لا تنتهى قيمتها بانتهاء الحدث، بل يمكن وضعها نصب الأعين دائمًا على طبيعة التفكير الصهيونى.. وهناك تعليق لجولدا مائير يمكن وصفه بأنه كوميدى بامتياز، وتكمن كوميديته فى جديتها التامة، وهى تتفوه بهذا التعليق. أما التعليق الكوميدى فقد جاء فى اجتماع السادس من أكتوبر صباحًا فى مكتبها.. فبينما تدور مناقشات تقييم الوضع مع موشيه ديان ورئيس الأركان.. وهم محتارون فى اتخاذ القرار باستدعاء الاحتياط أم لا، وتقدير موشيه ديان أن السوريين يحشدون خوفًا من مهاجمة إسرائيل لهم.. وأن مصر تحشد لمناورات أو خوفًا من مبادرة إسرائيل بالهجوم.. تقول جولدا متعجبة.. «ولماذا يحشدون أو يفكرون فى مهاجمتنا؟!» لا تعتقد أن مجرد وجود قواتهم فى سيناء هو مبرر كافٍ تمامًا للمصريين لشن هجوم فى أى وقت!
من الحقائق التى يمكن تصنيفها أنها مفاجآت كاملة هو رد ديان رسميًا عن مصادر معلوماته التى استند إليها لتكوين قراره بأنه لا يتوقع هجومًا مصريًا.. جاءت أقواله هذه أمام لجنة التحقيق الرسمية.. حيث يقول نصًا.. «فى مسألة ما إذا كانت ستنشب حرب، كان لى تقديرى الخاص للموقف، وفى هذا فقد وافقت وأيدت التقدير الاستخباراتى، والذى كان فى هذا التوقيت من ثلاثة مصادر، الاستخبارات العسكرية، والموساد، والاستخبارات الأمريكية!». 
«اعتقدت الموساد والاستخبارات العسكرية حتى اليوم الأخير أن المصريين لا يتجهون لشن حرب!» «المخابرات الأمريكية فى فترة معينة فقط من ١٣ سبتمبر حتى ٦أكتوبر اعتقدت أن المصريين يتأهبون لشن حرب، وبعد ذلك إما أنهم قبلوا برأى شعبة الاستخبارات العسكرية أو توصلوا لنتيجة أن ما يحدث فى مصر تدريب عسكرى وليس استعدادًا لحرب حقيقية!».
هذا يعنى بوضوح أن مصر نجحت فى خداع كل من أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية والأمريكية حتى يوم السادس من أكتوبر.. اعتراف واضح صريح من رأس الجيش الصهيونى!
مفاجأة أخرى.. كان الإسرائيليون يدرسون مقترحًا عسكريًا قبل الحرب وهو- فى حال شن المصريين حربًا على نطاق واسع- أن يقوم الإسرائيليون بعبور قناة السويس أو عبور مضاد.. لكن الاقتراح تم رفضه لسبب ذكر صراحة وهو الخوف من الوجود على الضفة الغربية من القناة! يقول ديان فى التحقيق معه «فى الوقت الحالى وزير الدفاع ليس رئيس الوزراء، أى إجراء عسكرى مثل عبور القناة فى هذه الحرب يتطلب قرارًا من الحكومة، وكان وزير شئون الأديان يعارض هذا بشدة، وقال إن قواتنا ستتعرض لخسائر إذا عبرنا للجانب الآخر.. إن المشكلة فى تنفيذ عملية اقتحام أثناء حرب الاستنزاف إلى الضفة الغربية للقناة لم تكن فى الانعكاس السياسى الناجم عن هذا، بل فيما إذا كان هذا الاقتحام سينجح أم لا.. أوصى رئيس الأركان بهذا الاقتراح وجرى تصويت على الاقتراح.. قال بعض الورزاء إن هذا سيكبدنا خسائر فادحة وصوتوا ضد الاقتراح!».

من نماذج الحقائق الكاشفة عن الفكر العسكرى الصهيونى الذى تغلب عليه الخسة فى هذه الوثائق هو ما ورد فى محضر اجتماع رئيسة الوزراء يوم ٧ أكتوبر صباحًا، وبعد إقرار ديان بالهزيمة قائلًا: «لقد كان شعورى أننا سنهزمهم بسهولة، كان تقييمنا يستند إلى الحرب السابقة، ولم يكن تقييمًا سليمًا، لقد كان لنا وللآخرين تقييم خاطئ لما سوف يحدث وقت محاولة العبور!».
بعد هذا يقترح الوزير بجال ألون أن تتم محاولة انتقاء منشأة مصرية لتدميرها داخل العمق المصرى.. «ما المنشأة المصرية الموجودة فى وادى النيل التى يمكن أن تُحدث كارثة إذا أمكن الوصول إليها واستهدافها جوًا؟ سد أسوان يحظى بحماية جيدة؟»، فيرد عليه ديان: «حتى هذا ما كان ليحدث كارثة. أنا لا أعرف هدفًا حيويًا يمكن أن يكون له تأثير. محطة كهرباء القاهرة محمية للغاية!».
سيطرت حالة من الذعر على جولدا ووزير دفاعها، حيث تقول «ليس هناك سبب يمنعهم من الاستمرار، ليس الآن، إنهم ذاقوا طعم هذه الدماء»، ويرد عليها موشيه «أن يحتلوا إسرائيل ويقضوا على اليهود! ينبغى إبلاغ كيسنجر بكل شىء بالحقيقة كاملة!».
حجبت الرقابة العسكرية عن هذه الوثائق كلمات كثيرة فيما يتعلق ببعض الأسماء أو أرقام الضحايا، لكن وردت عبارات، مثل مئات الجرحى وعشرات القتلى فى اليوم التالى للحرب صباحًا. وردت عبارات متناثرة، مثل فقد ٥٠ دبابة من فرقة واحدة بجميع أطقمها! «أرسل المصريون أسرانا حاملين الرايات لإقناع أحد مواقعنا بالاستسلام، تكبدنا مئات الخسائر فى الأوراح وهناك الكثير من الأسرى، سيسقط كثير من الأفراد!»
بقيت نقطة مهمة، هى ورود فقرات كثيرة عن «الفساد والرشوة فى جيش إسرائيل».. فقرات عن عمليات رشوة أثناء بناء النقاط الحصينة لخط بارليف، وأن المقاولين وبعض رجال الجيش أثروا من هذه الرشاوى، وقاموا ببناء فيلات فخمة، وأن الفساد انتشر بين رجال الجيش الذين كانوا يستخدمون سيارات حربية للذهاب بزوجاتهم لمحال تصفيف الشعر!