رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أكتوبر.. نصرٌ سيحفظه التاريخ طويلًا

بعد مرور واحد وخمسين عامًا على انتصار السادس من أكتوبر العظيم 1973 الموافق العاشر من رمضان، ربما لا يعرف البعض من الأجيال التى تلت هذا التاريخ، أن الجندى المصرى حطم فى ذلك اليوم، أسطورة الجيش الذى لا يقهر، وعبر خط بارليف المنيع واسترد أرض سيناء الغالية، فى واحدة من أعظم حروب العصر الحديث، أو كما قال الرئيس عبدالفتاح السيسى، إن شهر أكتوبر يأتى فى كل عام، حاملًا معه نسائم الانتصار والمجد.. تلك الأيام التى نستحضر فيها دروس النصر، ونحتفى بالأبطال والشهداء، ونحيى ذكرى انتصارات أكتوبر العظيمة.. ففى مثل هذه الأيام، منذ واحد وخمسين عامًا، حققت مصر نصرًا سيبقى خالدًا فى ذاكرة هذا الوطن، وعلى صفحات تاريخه المجيد انتصار يذكر الجميع دائمًا، بأن هذا الوطن بتلاحم شعبه وقيادته وجيشه قادر على فعل المستحيل مهما عظم، وأن روح أكتوبر، ليست شعارات إنشائية تقال؛ بل هى كامنة فى جوهر هذا الشعب ومعدنه الأصيل.. تظهر جلية عند الشدائد، معبرة عن قوة الحق، وعزة النفس، وصلابة الإرادة.. ويسجل التاريخ بكلمات من نور، أن مصر عزيزة بأبنائها، قوية بمؤسساتها، شامخة بقواتها المسلحة، وفخورة بتضحيات أبنائها.. وما حققته مصر فى حرب أكتوبر المجيدة، سيظل أبد الدهر، شاهدًا على قوة إرادة الشعب المصرى، وكفاءة قواته المسلحة، وقدرة المصريين على التخطيط الدقيق والتنفيذ المحكم.

وتأتى ذكرى نصر أكتوبر هذا العام، فى ظرف بالغ الدقة فى تاريخ منطقتنا، التى تموج بأحداث دامية متصاعدة، تعصف بمقدرات شعوبها وتهدد أمن وسلامة بلدانها.. ويأتى هذا التصعيد الإقليمى، وسط أجواء من الترقب على المستوى الدولى.. تذكرنا بما حققه المصريون بالتماسك وتحمل الصعاب من أجل بناء قواتنا المسلحة، للحفاظ على سلامة هذا الوطن الغالى، وتبديد أى أوهام لدى أى طرف.. هذه اللحظة التاريخية الفارقة، التى تمر بها منطقتنا الآن تدعونا للتأكيد مجددًا، أن السلام العادل هو الحل الوحيد، لضمان التعايش الآمن والمستدام، بين شعوب المنطقة، وأن التصعيد والعنف والدمار، تؤدى إلى دفع المنطقة نحو حافة الهاوية، وزيادة المخاطر، إقليميًا ودوليًا، بما لا يحقق مصالح أى شعب، يرغب فى الأمن والسلام والتنمية.. ومن هذا المنطلق، فإن مصر تؤكد موقفها الثابت، المدعوم بالتوافق الدولى، بضرورة إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، كسبيل وحيد لإرساء السلام والأمن والاستقرار للجميع.

هذه الحرب المجيدة، التى تتناولها العسكرية العالمية، بالفحص والدرس حتى الآن، وربما لأجيال طويلة مقبلة، تذكرنا بالتضحيات التى بذلها رجال هانت عليهم أرواحهم ولم تهن مكانة الوطن فى قلوبهم، بعد أن أثبتت للعالم، قدرة المصريين على الإنجاز الذى يستند إلى شجاعة القرار، ودقة الإعداد والتخطيط، وبسالة الأداء والتنفيذ، وأن الشعب المصرى ضرب أروع صور البطولة، ووقف إلى جوار قواته المسلحة، التى برهنت على استحالة قبول سياسة فرض الأمر الواقع، واستحالة إجبار شعوب المنطقة على ما لا تريده، كما أثبتت أن الأمن الحقيقى لا يضمنه التوسع الجغرافى على حساب الآخرين، وهو درس كان ينبغى للعالم أن يعيه، ويعمل على إيجاد حل للصراع العربى- الإسرائيلى، لأن من أبرز نتائج تلك الحرب، أنها رفعت شعار «المفاوضات»، الوسيلة الأنجع لإحلال الأمن والسلام بين شعوب المنطقة، دون استثناء.

دفع انتصار أكتوبر إلى واجهة الصدارة، العديد من الدروس والعبر، الذى كان علينا أن نتمسك بها دومًا، لأن فيها شيوع السلام وحلول الأمن على الجميع.. كان التضامن العربى، الذى ظهر بوضوح فى هذه الحرب، دليلًا قاطعًا، على بداية شعور العرب، ولأول مرّة فى تاريخهم المعاصر، بالخطر على أمنهم القومى والاستراتيجى، وعندما تُوِج هذا التضامن بنصر عسكرى كبير، افتخر به الجميع.. ذلك، لأن نتائج الحرب السياسية، كانت لها أهمية بعيدة المدى، فى فهم إسرائيل بشكل عام وعملية السلام بشكل خاص.. أدركت إسرائيل حدود القوة وانعدام مقدرتها على فرض واقع على جيرانها، تُحدد هى أبعاده.. بعد أن حطمت هذه الحرب، كل الأساطير التى نشأ عليها الإسرائيليون، ونجح الانتصار فيها فى تحريك قضايا المنطقة، والاتجاه بها نحو الحل السلمى رغم بدايته العسكرية.. كانت تجربة التضامن السياسى العربى، إحدى أهم نتائج الحرب، كتجربة رائدة يمكن الاقتداء بها فى المستقبل.. كما مثَّل نصر أكتوبر، نقطة تحول حاسمة فى تاريخ العلاقات الدولية، بل مثَّل أعظم درس تاريخى على امتداد القرن الماضى، بعد أن أثبت سلاح النفط واستخدامه كأداة استراتيجية، أن النظام الدولى انعكاس لواقع موازين القوى الحقيقية.

لقد أهدرت حرب أكتوبر أسس الاستراتيجية العسكرية لإسرائيل، التى فشلت فى تقديرها لقوة الدول العربية، بقيادة مصر، وإمكاناتها العسكرية، وفشلت فى تحليل ما بين يدى قادتها من المعلومات، ولم تستطع التوصل إلى نوايا المصريين فى بدء الحرب ضدها، وذلك هو الأساس الأول لاستراتيجيتها العسكرية.. كذلك، أفقدت حرب أكتوبر إسرائيل قدرتها على الاحتفاظ بقوة الردع، التى كانت تتيه بها، وبذلك، كان الجيش المصرى، هو أول من أسقط نظرية الردع الإسرائيلية، بعد أن أثبت أن خط بارليف، ما هو إلا حائط دفاعى يمكن اختراقه بالتخطيط الجيد والعزم والتدريب العالى المستوى.. وعندما استطاعت قواتنا تحقيق أهداف خطتها الهجومية، بتدمير عدد كبير من القوات الإسرائيلية، وإلحاق خسائر عالية بأفرادها، حدث التحول النسبى فى اتجاهات الرأى العام الإسرائيلى، الذى بدأ يميل إلى تحقيق سلام دائم مع العرب المجاورين لهم، بدلًا من غزوهم، وتوتر العلاقات بينهم.

الأهم فى نتائج حرب أكتوبر، أن القيادتين، السياسية والعسكرية، نجحتا فى إعداد الدولة المصرية للحرب، على أسس علمية، ما ساعد فى تنفيذ الحشد والفتح الاستراتيجى للقوات، طبقًا للخطة بدر، من خلال خطة خداع استراتيجى معقدة، دون مشاكل تقريبًا، ودون أن تفطن القيادة الإسرائيلية.. لقد كان للإعداد الجيد سياسيًا، أثره فى دعم الموقف العسكرى عند بدء القتال بنجاح، ونقصد بذلك، خطة الإعداد السياسى لعزل إسرائيل عالميًا.. وكذلك نجحت خطة إعداد الشعب للحرب، فتجاوبت الأجهزة الشعبية لتوعية الشعب، ووضح ذلك فى الدفاع عن مدن القنال الرئيسية.. ثم كانت القدرة على الاستفادة بالطاقات العربية، بقدر محدود نسبيًا، سواء بالدعم المالى، أو شراء الأسلحة اللازمة أحيانًا، أو الدعم بالقوات المحدودة أحيانًا أخرى.. وقد نجح ذلك فى تجنب كثير من المواقف الصعبة، خصوصًا فى الأيام الأخيرة للحرب.

●●●
كانت رؤى العالم الخارجى لهذه الحرب المجيدة، حتى ردود الأفعال الإسرائيلية عليها، تُعلى فى نفوسنا روح العزة، وتبث بداخلنا الفخر والاعتزاز بقواتنا المسلحة، التى حققت النصر، فردت الاعتبار، وأعادت لنا الأرض، وجعلت مصر حديث العالم، حتى من أعدائها.. وتحتفظ الذاكرة بالعديد مما قيل فى ذلك النصر العظيم، على لسان الأصدقاء والأعداء.. وهو ما أرى أن أمتع به نظر القارئ، حتى يقرأ ما فاته أن يشاهده ويسمعه، من شهادات المؤرخين وكبار القادة العسكريين من مختلف دول العالم، وتعليقات الصحافة والعديد من الكتب التى أرّخت لحرب أكتوبر العظيمة.

لقد كانت الصحف البريطانية، الأكثر تعليقًا على نتائج الحرب، والأغزر نشرًا عنها.. فقد كتبت صحيفة الديلى تليجراف، وقتها، «لقد غيّرت حرب أكتوبر عندما اقتحم الجيش المصرى قناة السويس، واجتاح خط بارليف مجرى التاريخ بالنسبة لمصر وبالنسبة للشرق الأوسط بأسره»، وذكرت صحيفة التايمز، «كانت الصورة التى قدمتها الصحافة العالمية للمقاتل العربى عقب حرب 1967، صورة مليئة بالسلبيات وتعطى الانطباع باستحالة المواجهة العسكرية الناجحة من جانب العرب لقوة إسرائيل العسكرية.. وعلى ذلك، يمكن أن نفهم مدى التغيير الذى حدث، عقب أن أثبت المقاتل العربى وجوده وقدراته، وكيف نقلت الصحافة العالمية هذا التغيير على الرأى العام العالمى»، وقالت، «واضح أن العرب يقاتلون ببسالة ليس لها مثيل.. ومن المؤكد أن عنف قتالهم له دور كبير فى انتصاراتهم.. وفى نفس الوقت ينتاب الإسرائيليين إحساس عام بالاكتئاب لدى اكتشافهم الأليم الذى كلفهم كثيرًا، أن المصريين ليسوا فى الحقيقة جنودًا لا حول لهم ولا قوة.. وتشير الدلائل إلى أن الإسرائيليين كانوا يتقهقرون على طول الخط أمام القوات المصرية المتقدمة».. «كانت منطقة الفردان، شرق قناة السويس، من أول المواقع التى استولت عليها القوات المصرية.. وعندها حقق المصريون أعظم انتصاراتهم واستعادوا أراضيهم منذ اليوم الأول.. وكست وجوههم أمارات الزهو والانتصار على خط بارليف الذى انهار أمهامهم، وهكذا ذهب خط بارليف الإسرائيلى إلى غير رجعة».

ورأت صحيفة الفاينانشال تايمز، «أن الأسبوع الماضى وقتها كان أسبوع تأديب وتعذيب لإسرائيل، ومن الواضح أن الجيوش العربية تقاتل بقوة وشجاعة وعزم، كما أن الإسرائيليين تملَّكهم الحزن والاكتئاب، عندما وجدوا أن الحرب كلفتهم خسائر باهظة، وأن المصريين ليسوا كما قيل لهم، غير قادرين على القتال».. وتهكمت صحيفة ديلى صن من الإسرائيليين، عندما قالت، «لقد اتضح أن القوات الإسرائيلية ليست مكونة كما كانوا يحسبون من رجال لا يقهرون، إن الثقة الإسرائيلية بعد عام 1967، بلغت حد الغطرسة الكريهة التى لا تميل إلى الحلول الوسط، وأن هذه الغطرسة قد تبخرت فى حرب أكتوبر، وأن ذلك يتضح من التصريحات التى أدلى بها المسئولون الإسرائيليون، بمن فيهم موشى ديان نفسه».. بينما شخَّصت صحيفة ديلى ميل، نتائح الحرب، بأنها، «محت شعور الهوان عند العرب وجرحت كبرياء إسرائيل».

ومن قلب الولايات المتحدة، الحليف الاستراتيجى لإسرائيل، تكتب صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية، «إن المصريين يبدون كفاءة عالية وتنظيمًا وشجاعة، لقد حقق العرب نصرًا نفيسًا ستكون له آثاره النفسية.. إن احتفاظ المصريين بالضفة الشرقية للقناة يعد نصرًا ضخمًا لا مثيل له، تحطمت معه أوهام الإسرائيليين بأن العرب لا يصلحون للحرب».. وقالت صحيفة لومانتيه الفرنسية، «إن حرب أكتوبر أطاحت بنظرية الحدود الآمنة كما يفهمها حكام تل أبيب، فقد أثبتت أن أمن إسرائيل لا يمكن أن يتحقق بالدبابات والصواريخ، وإنما بتسوية سلمية عادلة توافق عليها الدول العربية».. ورأت صحيفة نسايتونج الألمانية، «أن الكفاح الذى يخوضه العرب ضد إسرائيل كفاح عادل.. إن العرب يقاتلون دفاعًا عن حقوقهم، وإذا حارب المرء دفاعًا عن أرضه ضد معتدٍ، فإنه يخوض حربًا تحريرية، أما الحرب من أجل الاستمرار فى احتلال أرض الغير، فإنها عدوان سافر».. وأشفقت صحيفة أنا بيللا الإيطالية على الجنود الإسرائيليين، عندما قالت، «لقد فر الجنود الإسرائيليون من خط بارليف وهم يلتقطون أنفاسهم، وقد علت القذارة أبدانهم وشحبت وجوههم، فرت فلولهم من الجحيم الذى فتحه عليهم الهجوم المصرى الكاسح».

ولم تكن الصحافة الإسرائيلية استثناءً من الحديث عن حرب أكتوبر، إذ ذكرت صحيفة علهمشمار، أنه «سادت البلاد قبل حرب أكتوبر مشاعر خاطئة، هى شعور صقورنا بالتفوق العسكرى الساحق، لدرجة أن هذا الاعتقاد قادهم إلى طمأنينة عسكرية على طريقة، سنقطعهم إربًا إذا تجرأوا على رفع إصبع فى وجهنا».. وأقرت صحيفة هآرتس، بأن «حرب أكتوبر أوجدت مفهومًا، يبدو أننا لم نعرفه من قبل مُنهكى الحرب ونعنى به أولئك الذين عانوا من الصدمات النفسية، المنتشرين الآن فى المستشفيات ودور النقاهة، يعالجون من أجل تخليصهم من الآثار التى خلفتها الحرب الضارية.. لقد عرف الجنود الاسرائيليون خلال تلك الحرب، ولأول مرة فى حياتهم، تجربة الحصار والعزلة أثناء القتال، وعار الأسر والخوف من نفاد الذخيرة».. وتعترف صحيفة هآرتس، بـ«أننا  حتى يوم وقف إطلاق النار على جبهة سيناء لم نكن قد استطعنا إلحاق الضرر بالجيش المصرى، وأنه من المؤكد أنه حتى بدون التوصل إلى وقف القتال، لم نكن سننجح فى وقف أو تدمير الجيش المصرى.. وبهذا يمكن القول، إننا خلال حربنا الرابعة مع العرب، لم نحقق شيئًا».. وأكدت صحيفة معاريف، أن «صافرة الإنذار التى دوت فى الساعة الثانية إلا عشر دقائق ظُهر السادس من أكتوبر 1973، كانت تمثل فى معناها أكثر من مجرد إنذار لمواطنى إسرائيل بالنزول إلى المخابئ، حيث كانت بمثابة الصيحة التى تتردد، عندما يتم دفن الميت، وكان الميت حينذاك هو الجمهورية الإسرائيلية الأولى، وعندما انتهت الحرب بدا العد من جديد وبدأ تاريخ جديد.. فبعد ربع قرن من قيام دولة إسرائيل، باتت أعمدة ودعائم إسرائيل القديمة حطامًا مُلقاة على جانب الطريق».

وقالت مجلة بماحنيه، «إن هذه الحرب تمثل جرحًا غائرًا فى لحم إسرائيل القومى.. حرب يوم الغفران بمثابة نقطة انكسار للمجتمع الإسرائيلى فى مجالات عديدة».. وفى ذات المجلة، أقر ديفيد بن جوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل، بأن «حرب أكتوبر قوضت الثقة بالنفس لدى نخبة الأمن الاسرائيلية.. وتسببت بقدر معين فى هدم افتراضات أمنية، قامت عليها الاستراتيجية الإسرائيلية لفترة طويلة.. ومن ثم، تغيرت بعض العناصر الرئيسية فى نظرية الأمن القومى، التى تبلورت فى العقد الأول من قيام الدولة على أيدى».

●●●
لقد كانت حرب أكتوبر المجيدة، وانتصار مصر العظيم، مصدر إلهام لكتابات عديدة فى أنحاء كثيرة من العالم فى أعقاب الحرب، رصد مؤلفوها انطباعاتهم عنها، وما خلفته وراءها من رؤى ودروس وعبر، سجلوها فى كتب، أثرت المكتبة السياسية والعسكرية، بما هو نافع للباحث والمدقق فى هذه الحرب.

ورد فى كتاب «البندقية وغصن الزيتون»، للصحفى البريطانى ديفيد هيرست، أن «حرب أكتوبر كانت بمثابة زلزال.. فلأول مرة فى تاريخ الصهيونية، حاول العرب ونجحوا فى فرض أمر واقع بقوة السلاح، ولم تكن النكسة مجرد نكسة عسكرية، بل إنها أصابت جميع العناصر السيكولوجية والدبلوماسية والاقتصادية، التى تتكون منها قوة وحيوية أى أمة، وقد دفع الإسرائيليون ثمنًا غاليًا، لمجرد محافظتهم على حالة التعادل بينهم وبين مهاجميهم، وفقدوا فى ظرف ثلاثة أسابيع، وفقًا للأرقام الرسمية، 2523 رجلًا، وهى خسارة تبلغ من حيث النسبة، ما خسرته أمريكا خلال عشر سنوات فى حرب فيتنام مرتين ونصف».

وفى كتاب «الأيام المؤلمة فى إسرائيل»، قال الكاتب الفرنسى، جان كلود جيبوه، «فى الساعة العاشرة والدقيقة السادسة من صباح اليوم الأول من ديسمبر، أسلم ديفيد بن جوريون الروح فى مستشفى تيد هاشومير، بالقرب من تل أبيب.. ولم يقل ديفيد بن جوريون شيئًا قبل أن يموت، غير أنه رأى كل شىء.. لقد كان فى وسع القدر أن يعفى هذا المريض، الذى أُصيب بنزيف فى المخ يوم الثامن عشر من نوفمبر 1973، من تلك الأسابيع الثمانية الأخيرة من عمره، ولكن كان القدر قاسيًا.. ذلك أن صحوة رئيس الوزراء الإسرائيلى فى أيامه الاخيرة، هى التى جعلته يشهد انهيار عالم بأكمله، وهذا العالم كان عالمه.. لقد رأى وهو فى قلب مستعمرته بالنقب، إسرائيل وهى تنسحق فى أيام قلائل، نتيجة لزلزال أكثر عنفًا مما هو حرب رابعة.. ثم راح يتابع سقوط إسرائيل الحاد وهى تهوى هذه المرة من علوها الشامخ، الذى اطمأنت إليه، حتى قاع من الضياع لا قرار له.. فهل كان الرئيس المصرى أنور السادات يتصور، وهو يطلق فى الساعة الثانية من السادس من أكتوبر، دباباته وجنوده لعبور قناة السويس، إنه إنما أطلق قوة عاتية رهيبة، كان من شأنها تغيير هذا العالم؟.. إن كل شىء، من أوروبا إلى أمريكا، ومن إفريقيا إلى آسيا، لم يبق على حاله التى كان عليها منذ حرب يوم عيد الغفران».

ورأى المعلق العسكرى الإسرائيلى، زئيف شيف، فى كتابه «زلزال أكتوبر.. حرب يوم عيد الغفران»، أن هذه «أول حرب للجيش الإسرائيلى، التى يعالج فيها الأطباء جنودًا كثيرين مصابين بصدمة القتال، ويحتاجون إلى علاج نفسى.. هناك من نسوا أسماءهم، وهؤلاء كان يجب تحويلهم إلى المستشفيات، لقد أذهل إسرائيل نجاح العرب فى المفاجأة فى حرب يوم عيد الغفران، وفى تحقيق نجاحات عسكرية.. لقد أثبتت هذه الحرب، أن على إسرائيل أن تُعيد تقدير المحارب العربى، فقد دفعت إسرائيل هذه المرة ثمنًا باهظًا جدًا.. لقد هزت حرب أكتوبر إسرائيل من القاعدة إلى القمة.. وبدلًا من الثقة الزائدة، جاءت الشكوك وطفت على السطح أسئلة: هل نعيش على دمارنا إلى الأبد؟.. هل هناك احتمال للصمود فى حروب أخرى؟

«تقول الحكومة البريطانية، كلما كان الصعود عاليًا كان السقوط قاسيًا.. وفى السادس من أكتوبر، سقطت إسرائيل من أعلى برج السكينة والاطمئنان الذى كانت قد شيدته لنفسها».. هكذا دوَّن المعلق العسكرى الإسرائيلى، أمنون كابيليوك، آثار الصدمة التى أحدثتها حرب أكتوبر فى نفوس الإسرائيليين، وفى كتابه «إسرائيل.. انتهاء الخرافة»، يؤكد أن «الصدمة كانت على مستوى الأوهام التى سبقتها، قوية ومثيرة، وكأن الاسرائيليين قد أفاقوا من حلم طويل جميل، لكى يروا قائمة طويلة من الأمور المُسلم بها، والمبادئ والأوهام والحقائق غير المتنازع عليها، التى آمنوا بها لسنوات عديدة، وقد اهتزت بل تحطمت فى بعض الأحيان أمام حقيقة جديدة غير متوقعة وغير مفهومة بالنسبة لغالبية الإسرائيليين.

ومن وجهة نظر الرجل الإسرائيلى العادى، يمكن أن تحمل حرب أكتوبر أكثر من اسم، مثل حرب الإفاقة من نشوة الخمر، أو إنهيار الأساطير، أو نهاية الأوهام، أو موت الأبقار المقدسة.. عقب الحروب السابقة، كانت تُقام عروض عسكرية فخمة فى يوم الاستقلال، تشاهد فيها الجماهير غنائم الحرب التى تم الاستيلاء عليها من العدو، أما فى هذه المرة، على العكس، أُقيم معرض كبير فى القاهرة بعد مرور شهرين على الحرب، وفيه شاهدت الجماهير الدبابات والمدافع والعربات العسكرية، وكثيرًا من الأسلحة الإسرائيلية، التى تم الاستيلاء عليها من العدو خلال الحرب.. وفى المرات السابقة، كان الجنود يعودون إلى ديارهم بعد تسريحهم، وكانوا يذوبون فى موجة السعادة والفخر، أما هذه المرة، فقد عادوا وقد استبد بهم الحزن والفزع، واحتاج الكثيرون منهم إلى التردد على قسم العلاج النفسى، فى الإدارة الطبية التابعة للجيش، نظرًا لإصابتهم بصدمة قتال».

ويتساءل رئيس الوكالة اليهودية الأسبق، ناحوم جولدمان، فى كتابه «إلى أين تمضى إسرائيل؟».. لكنه سرعان ما يقوم بالإجابة فى قوله، «إن من أهم نتائج حرب أكتوبر 1973، أنها وضعت حدًا لأسطورة إسرائيل فى مواجهة العرب، كما كلفت هذه الحرب إسرائيل ثمنًا باهظًا، حوالى خمسة مليارات دولار، وأحدثت تغيرًا جذريًا فى الوضع الاقتصادى فى الدولة الإسرائيلية، التى انتقلت من حالة الازدهار التى كانت تعيشها قبل عام، رغم أن هذه الحالة لم تكن ترتكز على أسس صلبة كما ظهر، إلى أزمة بالغة العمق، كانت أكثر حدة وخطورة من كل الأزمات السابقة.. غير أن النتائج الأكثر خطورة، كانت تلك التى حدثت على الصعيد النفسى.. لقد انتهت ثقة الإسرائيليين فى تفوقهم الدائم، كما اعترى جبهتهم المعنوية الداخلية ضعف هائل، وهذا أخطر شىء يمكن أن تواجهه الشعوب، وبصفة خاصة إسرائيل.. وقد تجسد هذا الضعف فى صورتين متناقضتين، أدتا إلى استقطاب إسرائيل على نحو بالغ الخطورة.

فمن ناحية، كان هناك من بدأوا يشكون فى مستقبل إسرائيل، ومن ناحية أخرى، لوحظ تعصب وتشدد متزايد يؤدى إلى ما يطلق عليه اسم عقدة الماسادا، القلعة التى تحصن فيها اليهود أثناء حركة التمرد اليهودية ضد الإمبراطورية الرومانية، ولم يستسلموا وماتوا جميعًا».

ويأتى الكتاب الأخير، الذى ألفه سبعة من كبار الصحفيين الإسرائيليين، وهم: يشعياهو بن فورات، يهونتان جيفن، أورى دان، إيتان هيفر، حيزى كرمل، إيلى لندوا، وإيلى تايور.. وقد قرأت هذا الكتاب حين صدوره، مُترجمًا باللغة العربية، وهو «التقصير».. وفيه يصف مؤلفوه، تلك الحرب التى لم يتوقعها أحد، وما هى أسباب التقصير الإسرائيلى؟.. وكيف تفوقت المخابرات المصرية؟.. وكيف سقط خط بارليف؟.. وكيف أجاد المصريون تكتم الحرب؟.. وكيف أفسد انتصار عام 1967 الجيش الإسرائيلى، وسقوط الإعلام الاسرائيلى؟

يقول الكتاب، «لقد قاتل المصريون بصورة انتحارية على حد تعبير المؤلفين خرجوا نحونا من مسافة أمتار قليلة، وسددوا مدافعهم الخفيفة المضادة للدبابات على دباباتنا ولم يخشوا شيئًا.. كانوا يتدحرجون بعد كل قذيفة بين العجلات فعلًا، ويستترون تحت شجيرة على جانب الطريق، ويعمرون مدافعهم بطلقات جديدة.. وعلى الرغم من إصابة عدد كبير من جنود الكوماندوز المصريين، إلا أن زملاءهم لم يهربوا، بل استمروا فى خوض معركة تعطيلية، معركة انتحارية ضد الدبابات، كما لو أنهم صمموا على دفع حياتهم ثمنًا لمنع الدبابات من المرور.. واضطر جنود المدرعات إلى خوض معركة معهم، وهم يطلقون النار من رشاشاتهم من فوق الدبابات.. وحقيقة لم يحدث لنا من قبل فى أى الحروب التى نشبت مع المصريين، مواجهة جنود على هذا النسق من البسالة والصمود».

حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.