اغتيال نصر الله.. تجاوز لكل الخطوط الحمراء
لا يزال الصراع فى الشرق الأوسط يدمر حياة أعداد لا تحصى من البشر.. وظلت المشاهد التى شهدها قطاع غزة وإسرائيل منذ السابع من أكتوبر، تطارد الملايين من البشر فى مختلف أنحاء العالم، كما تزداد حدة الأزمة فى لبنان والضفة الغربية.. ومع وصول الحرب إلى مرحلة جديدة، فإن فهم ما يحدث وما سيأتى بعد ذلك أصبح أكثر أهمية من أى وقت مضى.. لقد أعلن الجيش الإسرائيلى، منتصف نهار السبت، نجاح غارته الأخيرة على مركز قيادة حزب الله، بالضاحية الجنوبية فى بيروت، فى قتل زعيم حزب الله، حسن نصرالله، بعد إلقاء طائرات الجيش قنابل، زنة الواحدة ألفا رطل، على مجمع سكنى، من ست بنايات، خلال اجتماع نصر الله مع قيادات حزب الله، وقيادات من الحزب الثورى الإيرانى، فى طابق تحت أرض هذه البنايات.. ثم ما لبث أن أعلن الحزب عن استشهاد أمينه العام فى الغارة الجوية الإسرائيلية، مُنهيًا فترة ولايته التى استمرت اثنتين وثلاثين عامًا كزعيم للحزب.
قال بيان حزب الله، «انتقل إلى رحمة الله تعالى، سيد المقاومة العبد الصالح، إلى رحمته الواسعة، وإلى حضن مولاه الذى رضى به شهيدًا عظيمًا.. وتتعهد قيادة حزب الله بمواصلة الجهاد فى مواجهة العدو الإسرائيل، ونصرة غزة وفلسطين، والدفاع عن لبنان وشعبه الصامد والشريف».. ولم يذكر البيان من سيخلف نصر الله، أو كيف سترد الجماعة على اغتيال زعيمها.. لكنه أكد أن «حزب الله سيواصل معركته ضد إسرائيل، دعما لغزة وفلسطين ودفاعًا عن لبنان وشعبه الصامد والشريف».. وأفادت وسائل إعلام إيرانية بأن الجنرال عباس نيلفوروشان، نائب قائد الحرس الثورى الإيرانى، قتل فى نفس الغارات الإسرائيلية.
اختلف مع حسن نصر الله ما شئت أو اتفق، لكن ما حدث يدفعنا إلى قراءة المشهد فى المنطقة، من خلال ثلاث زوايا.. الأولى، أن رئيس الوزراء الإسرائيلى، بنيامين نتنياهو، لا يسعى إلى التهدئة فى المنطقة، ولا تعدو كلماته فى هذا الشأن كونها مراوغة لكسب الوقت، سعيًا لرغبته فى الوصول بالمنطقة إلى تغيير جيوسياسى، يستخدم العنف المفرط وسيلة لتحقيقه، والخلاص من مفاوضيه أداة من أدواته.. فعلها، عندما اغتال رئيس المكتب السياسى، إسماعيل هنيه، فى طهران، وقت أن كانت الولايات الأمريكية تُبشر بقرب الوصول إلى اتفاق إطلاق نار وتهدئة فى قطاع غزة، ثم فعلها ثانية، فى أعقاب المبادرة الأمريكية الفرنسية، لاتفاق هدنة لمدة واحد وعشرين يومًا فى لبنان، بأن اغتالت قواته حسن نصر، على مرأى من العالم، بعد لحظات من انتهاء كلمته أمام الأمم المتحدة، تنفيذا لقراره الذى اتخذه يوم الأربعاء الماضى، بضرورة الخلاص من نصر الله، الذى يرفض فك الارتباط مع حماس فى غزة، ويصر على مساندتها فى حربها ضد الكيان الصهيونى.. هذا بخلاف الاغتيالات المتكرره لقيادات حزب الله، والتى لم تتوقف باغتيال نصر الله.
الزاوية الثانية، أنه لا توجد قوة قادرة على «وقف» رئيس الوزراء الإسرائيلى، بنيامين نتنياهو، وردع عنفه فى غزة ولبنان.. وكما يقول جوزيب بوريل، مسئول الشئون الخارجية فى الاتحاد الأوروبى، المنتهية ولايته، «ما نفعله، هو ممارسة كل الضغوط الدبلوماسية لوقف إطلاق النار، لكن لا يبدو أن أحدًا يملك القدرة على وقف نتانياهو، لا فى غزة ولا فى الضفة الغربية».. وأوضح أن نتانياهو كان واضحًا فى أن الإسرائيليين «لن يتوقفوا حتى يتم تدمير حزب الله»، تمامًا كما يحدث فى الحرب المستمرة، منذ قرابة عام، فى غزة.. و«إذا كان تفسير التدمير هو نفسه ما حدث مع حماس، عندها نحن ذاهبون إلى حرب طويلة».. وأطلق قنبلته، بضرورة البعد عن الولايات المتحدة فى الجهود الدبلوماسية، لأنه، «لا يمكننا الاعتماد على الولايات المتحدة.. واشنطن حاولت مرات عدة، لكنها لم تنجح.. ولا أرى أنها على استعداد لبدء عملية تفاوضية جديدة، يمكن أن تؤدى إلى كامب ديفيد أخرى»، فى إشارة إلى المحادثات التى جرت عام 2000، وسعى فيها الرئيس الأسبق، بيل كلينتون، دون جدوى، إلى التوسط فى اتفاق تاريخى لإنهاء الصراع الإسرائيلى الفلسطينى.
أما الثالثة، فهى أن الرأى العام الرسمى الأمريكى، لم ينتقد خطوة إسرائيل بالقضاء على حسن نصر الله، بل إنه رآها خطوة مهمة ومطلوبة، لذا، فلم يكن غريبًا أن أصدر عدد من أعضاء الحزب الجمهورى فى مجلس النواب الأمريكى، بيانًا ردًا على استشهاد حسن نصر الله، قال فيه رئيس مجلس النواب، مايك جونسون، وزعيم الأغلبية فى مجلس النواب، ستيف سكاليز، ورئيسة مؤتمر الجمهوريين فى مجلس النواب، إليز ستيفانيك، لقد انتهى عهد حسن نصر الله الذى كان قائمًا على إراقة الدماء والقمع والإرهاب.. لقد كان دمية فى يد النظام الإيرانى، وكان واحدًا من أكثر الإرهابيين وحشية على هذا الكوكب.. وكان جبانًا يختبئ خلف النساء والأطفال لتنفيذ هجماته.. وبفضل الرجال والنساء الشجعان فى الجيش الإسرائيلى، تم تحقيق العدالة لضحايا جرائمه الشنيعة الإسرائيليين، ولعائلاتهم، وللولايات المتحدة.. لقد أصبح العالم أفضل حالًا بدونه.. ليست الشماتة فى الموت فحسب، هى ما جاءت فى بيان الجمهوريين الأمريكيين، بل إنهم دعوا «إدارة بايدن هاريس إلى إنهاء دعواتها غير البناءة، لوقف إطلاق النار وحملة الضغط الدبلوماسى المستمرة ضد إسرائيل.. إن مقتل نصر الله يمثل خطوة كبيرة إلى الأمام بالنسبة للشرق الأوسط، ويجب استخدام انتصار اليوم للسلام والأمن، لإعادة تأكيد دعم أمريكا القوى لإسرائيل، وهى تقاتل من أجل حقها فى الوجود»!!.
إن الولايات المتحدة، وعلى الرغم من أن المسئولين الأمريكيين يقولون، إنهم يحاولون التفاوض على وقف إطلاق النار فى غزة ولبنان، فإن واشنطن تظل أكبر مورد للأسلحة لإسرائيل، مما يسمح لها بتأجيج حربها فى المنطقة.. الولايات المتحدة التى نفت علاقتها باغتيال حسن نصر الله، بأنها لم تكن تعلم به، أو أنها شاركت فيها، قال وزير دفاعها، لويد أوستن، إنه ناقش الهجمات الإسرائيلية الأخيرة على لبنان مع وزير الدفاع الإسرائيلى يوآف جالانت، «وأعربت عن دعمى الكامل لحق إسرائيل فى الدفاع عن نفسها وشعبها ضد الجماعات الإرهابية المدعومة من إيران.. وأكدت أن الولايات المتحدة عازمة على منع إيران وشركائها ووكلائها المدعومين من إيران، من استغلال الوضع أو توسيع نطاق الصراع.. وأن الولايات المتحدة تظل مستعدة لحماية القوات والمرافق الأمريكية فى المنطقة، وملتزمة بالدفاع عن إسرائيل»!!.
ما يمكن قوله إزاء اغتيال حسن نصر الله، هو «إن إسرائيل تجاوزت كل الخطوط الحمراء»، وذلك يعكس الرغبة المتهورة فى توسيع الصراع على حساب كل شعوب المنطقة وأمنها واستقرارها.. رفضت إسرائيل، قبل يوم واحد من اغتيال نصر الله، الدعوات الدولية لوقف إطلاق النار مع حزب الله، فى تحد لحليفتها الأكبر فى واشنطن.. ورغم موقف إسرائيل، سعت الولايات المتحدة وفرنسا إلى إبقاء احتمالات التوصل إلى هدنة فورية مدتها واحد وعشرون يومًا، والتى اقترحتها الأربعاء، وقالتا إن المفاوضات مستمرة.. إلا أن نتنياهو سارع وجعل القتل، ردًا على مبادرة واشنطن وباريس.. وقد سبق أن تعثرت المفاوضات، التى توسطت فيها، بشكل رئيسى، قطر ومصر والولايات المتحدة، بشأن وقف إطلاق النار، وصفقة إطلاق الأسرى فى غزة منذ أشهر، أصر رئيس الوزراء الإسرائيلى، بنيامين نتنياهو، على أن أى اتفاق سلام يجب أن يسمح بوجود إسرائيلى على طول ممر فيلادلفيا، وعلى الطريق الذى يقسم قطاع غزة، ممر نتساريم.. وقد رفضت حماس أى وجود من هذا القبيل، قائلة إنه يتعارض مع خطة السلام المكونة من ثلاث مراحل، والتى أعلن عنها جو بايدن نهاية شهر مايو، وأقرها مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، والتى تنص فى النهاية، على انسحاب إسرائيلى كامل من غزة.
هذا، ويشكل مقتل حسن نصر الله، الزعيم المخضرم لحزب الله، نقطة تحول فى الصراع فى الشرق الأوسط.. لقد وقف نصر الله والحزب الذى قاده، على مدى عقود متتالية من الصراع داخل لبنان، ضد إسرائيل، وفى الآونة الأخيرة، فى سوريا.. وكان كلاهما قوتين سياسيتين واجتماعيتين قويتين، تتمتعان بنفوذ إقليمى ومحلى كبير للغاية.. وعلى مدى أكثر من ثلاثة عقود من الزمان، تولى فيها نصر الله قيادة حزب الله، نجح فى بناء قاعدة شخصية قوية من الأتباع، وقاد الحركة الشيعية عبر عدد من التحولات، ووازن بين متطلبات دورها العسكرى ومتطلبات أنظمة الرعاية الاجتماعية الواسعة النطاق، وبنى جناحًا سياسيًا، وتفاوض على الأزمات المختلفة التى اندلعت فى مختلف أنحاء المنطقة.. ونال إعجاب أنصاره وعداءً شخصيًا مريرًا من أعدائه، الذين أفلحوا مؤخرًا فى اغتياله.. كيف؟.
قالت صحيفة (نيويورك تايمز) الأمريكية، إن الإسرائيليين كانوا على علم بمكان وجود زعيم حزب الله، حسن نصر الله، منذ عدة أشهر، لكنهم قرروا استهدافه الأسبوع الماضى، لأنهم اعتقدوا أن لديهم نافذة زمنية قصيرة قبل أن يختفى مرة أخرى فى مكان مختلف.. وأشارت الصحيفة إلى أنها استقت معلوماتها هذه من ثلاثة مسئولين عسكريين إسرائيليين كبار، تحدثوا جميعهم بشرط عدم الكشف عن هويتهم.. نقلت عن اثنين منهم، أن أكثر من ثمانين قنبلة أُلقيت خلال بضع دقائق، من أجل قتل نصرالله، دون أن يؤكدوا وزن أو نوع القنابل المستخدمة، بعد معلومات استخباراتية حصلوا عليها من داخل لبنان، أكدت أن عناصر حزب الله عثروا على جثة نصر الله، وتعرفوا عليها صباح السبت، إلى جانب جثة القائد العسكرى الكبير فى حزب الله، على كركى..
وبحسب المسئولين، فقد جرى التخطيط للعملية فى وقت سابق من هذا الأسبوع، بينما كان القادة السياسيون الإسرائيليون يتحدثون مع نظرائهم الأمريكيين حول إمكانية وقف إطلاق النار فى لبنان، وقبل أن يغادر رئيس الوزراء الإسرائيلى، بنيامين نتانياهو، لإلقاء خطاب فى الأمم المتحدة.. إلا أن هاشم صفى الدين، ابن خالة نصر الله، وأحد الشخصيات الرئيسية فى العمل السياسى والاجتماعى للحزب، كان واحدًا من قلة من قادة حزب الله الكبار، الذين لم يكونوا فى موقع الضربة.. وهو الرجل الذى طالما اعتُبر خليفة محتملًا لنصر الله، قد يجرى اختياره كأمين عام جديد لحزب الله.. وسيشكل استبدال نصر الله تحديًا أكبر الآن، مقارنة بأى وقت مضى منذ سنوات، بعد سلسلة من الهجمات الإسرائيلية فى الآونة الأخيرة، أسفرت عن مقتل كبار قادة حزب الله، وأثارت تساؤلات حول أمنه الداخلى.. وللحديث بقية.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.