لبنان.. ذبحته الطوائفُ وليدًا.. ودهسته الميليشيا كبيرًا!
(١)
آهٍ منكِ يا جارة القمر! كم خدعتِنى فرأيتُ لبنانَ جميلا بجمال صوتك، متناغما متناسقا فى تناغم خصلات شعرك، حتى خجل وجنتيكِ حين يرتعد المسرح بهتاف السامعين فقد خلتُ لبنانا خجولا مثلك! فى مقتبل عمرى - وحين طالعتُ أسماء دورِ النشر اللبنانية على بعض الكتب أنيقة الطباعة، وحين كنتُ أستمع إلى جارة القمر فيروز، ثم أشاهد تدلل صباح، وأستمع إلى صوت الجبل – كنتُ أحسد هذا الوطن العربى الذى اعتقدتُ وقتها أنه قد نجا من فخاخ العرب! اكنتُ أرى هذه الدولة – حين قارنت تاريخها فى صناعة السينما بتاريخ مصر – بمثابة أختٍ صغيرة لمصر ترتدى تنورة فيروز تركض بين حقول الموالح تحاول أن تسابق شقيقتها الكبرى فتسبقها حينا وتكتفى بمحاولة اللحاق بها أحيانا أخرى! فها هى الطباعة بالأحرف السيريانية تبدأ فى لبنان قبل أن تبدأ فى مصر! وها هى مصر تسبق لبنان فى صناعة السينما، وهكذا!
حتى كانت رحلتى المؤلمة منذ سنوات طويلة مع قراءة التاريخ الذى بدد كل هذه الخيالات والأوهام الجميلة الساذجة! حين يقرأ أحدُنا تاريخ لبنان – إن استطاع الحفاظ على عقله سليما من مس الجنون – فسوف يشيح بوجهه بعيدا قبل أن يوجز هذا التاريخ فى عبارات موجزة حزينة تقول.. لبنان وطنٌ ذُبح رضيعا ولقد ذبحه شعبُه ممثلًا فى زعماء الطوائف الدينية المكونة لهذا الشعب! ثم دُهِسَ كبيرا تحت أقدام الميليشيا!.
إنهم هم وحدهم – زعماء الطوائف - وبحرية اختيار كاملة قرروا أن يغرسوا الطعنة الأولى بظهره مجتمعين! كلمة الذبح الأولى قادت إلى الكلمات التالية الأكثر قسوة!.
خطوة هبوط أولى تقود إلى باقى درجات البئر العميقة، حتى قامت ما بقيت من ميليشيات الطوائف بتقديمه مكبل الأيدى والقدمين فريسة سهلة على مذبحٍ صهيونى مجرد من كل دين أو قيم وأول ما عب منه من دماء كانت دماء الأنبياء والقديسين، ويعشق كالكائنات الخرافية دماء ملائكة البشر أو الأطفال!
نعم لقد آلمتنا مشاهد استهداف العيون والوجوه وصراخ النساء والأطفال فزعا فى المتاجر والشوارع! ولكن آلمنا أكثر أن الميليشيا لم تكن بذلك الفُجر القتالى والحربى والسياسى حتى وهى تدافع عن شرفها المزعوم الذى كانت به وهى تمارس تجبرها وهى تقتاد وطنا كإنسان مختل عقليا فاقد الأهلية! لم يأذن سادتها لها بدفع العار عن ثوبها فخنعت وأطاعت وشاهدت صواريخها المزعومة تفجر فى مخازنها بدلا من أن تحصد بعضًا من أرواح من دأبوا على هتك شرفها مرة تلو المرة!
(٢)
لكننى وللأسف فقدت قدرتى على الألم مع ما قرأته عن قصة هذا الوطن مع أبنائه! وأعتقد أن صدمة الجمهور العربى – والمصرى أيضا – ستكون كبيرة حين يدرك مأساة لبنان الحقيقية. وأول مفردة لافتة للنظر وتشى بأن هناك شيئا ما خلفها، هو أن هذا الوطن الذى لا تتجاوز مساحته عشرة آلاف ونصف كيلو متر مربع أحد أهم ملامحه أن عدد من هجره من أبنائه خاصة بعد استقلاله يبلغ ضعفى أو أحيانا ثلاثة أضعاف عدد من تشبث بالأمل الواهن فى أن يعود بهم الزمن عقودا للوراء ليختاروا أن يجعلوا من لبنان وطنا لا فندق إقامة!.
فعلى سبيل المثال بلغ عدد المقيمين من اللبنانيين فى لبنان عام ٢٠٠٠م حوالى ٣ ملايين ونصف المليون مواطن، فى حين بلغ عدد اللبنانيين المهاجرين ما يزيد عن ٨ ملايين مواطن!
وفى عام ٢٠٠٧م بلغ عدد سكانه ما يقرب من ٤ ملايين مواطن يقابله حوالى ثلاثة أرباع مليون من غير اللبنانيين، غالبيتهم من اللاجئين الفلسطينيين حوالى ٢٧٠ ألفا. وفى عام ٢٠٢٢م بلغ العدد أربعة ملايين ونصف مقابل مليون ونصف من غير اللبنانيين. يشكل العرب ٩٥% منهم ويشكل الأرمن 4%، بينما 1% من مختلفى الجنسيات. ومن أدق التعدادات تعداد عام ٢٠١١م الذى بلغ عدد السكان به ٣ مليون. نصف لبنانى و٥٤٤ ألف فلسطينى من لاجئ المخيمات وتشكيلة من مختلف الجنسيات، مثل الفرنسيين ٢٢ ألفا، و٣٦ ألف سورى، و١٨ ألف عراقى، و١٤ ألف فلبينى، و١٣٠٠ يهودى!.
فى لبنان ١٨ طائفة دينية منها مسيحيون (الموارنة، الروم الأرثوذكس، الروم الكاثوليك، وأرمن أرثوذكس، وأقباط)، ومسلمون (دروز، علويون، سنة).
فى إحصاء ١٩٣٢م بلغت نسبة المسيحيين ٥٢%، ونسبة المسلمين 48% حين كان عدد سكان لبنان لا يتجاوز 800 ألف. بعد ذلك تغيرت النسبة رغم هجرة المسيحيين إلى لبنان مثل الأرمن والسوريين والفلسطينيين، وذلك لارتفاع نسبة المهاجرين المسيحيين من لبنان إلى خارجها. بلغت النسبة عام 2007م 41% مسيحيين، مقابل 58% للمسلمين. بينما قدرت المخابرات المركزية النسبة فى نفس العام 39% للمسيحيين مقابل 61% للمسلمين.
(٣)
كيف سقط لبنان فى الفخ؟
بعد استقلال لبنان كان أمامه فرصة تاريخية ليصبح النموذج العربى الأمثل، لكنه أُسقِطَ فى الفخ مبكرا جدا ولم يخرج منه أبدا!
كان لبنان جزءا من الإمبراطورية الفينيقية شرق المتوسط من القرن الخامس قبل الميلاد وحتى القرن الأول الميلادى حين خضع للإمبراطورية الرومانية ثم تحول للمسيحية. وفى عام ٦٣٥م دخل الإسلامُ لبنان على أيدى قبائل عربية استوطنت جنوب لبنان، ثم ظهر المذهب الدرزى الشيعى فى القرن الحادى عشر الميلادى. أصبح لبنان جزءًا من الإمبراطورية العثمانية عام ١٥١٦م، وكان طوال هذه الفترة الخاضع فيها للحكم العثمانى يشكل مع سوريا وحدة سياسية وإدارية واحدة. احتلت فرنسا سوريا ولبنان ثم خضعا للانتداب الفرنسى عام ١٩٢٠م بعد قرار عصبة الأمم المتحدة. قامت فرنسا فى نفس العام بالفصل بين سوريا ذات الأغلبية المسلمة وبين لبنان ذى الأغلبية المسيحية من الموارنة وقتها. حصل لبنان على استقلاله الفعلى ١٩٤٣م قبل سوريا بثلاثة أعوام.
بعد هذا الاستقلال كان يمكن للبنان صاحب السبق فى الطباعة، المكتظ بالمفكرين والمبدعين، أن يصبح قبلة بلاد العرب الآسيوية ومضرب المثل فى التعايش والتسامح، لكن هذا لم يحدث!
فحين حدث ذلك الاستقلال، وعلى خلاف ما نقرأه عن تاريخ الطباعة والفكر، كانت هناك نيرانٌ تحت الرماد ولا ينقصها للاشتعال سوى بعض العواصف!
(٤)
هذه النار كانت تاريخًا متراكمًا عبر عقودٍ مضت..
فانتقال الموارنة من شمال سوريا إلى جبل لبنان عام ٤٥١م إنما جاء فرارًا من مذابح مسيحية سورية ضد من أطلق عليهم (الهراطقة) من أتباع القديس مارو فهربوا إلى جبل لبنان!
وبحلول القرن التاسع عشر توزع سكان لبنان كالآتى (مسلمون سنة استوطنوا الساحل والبقاع وبعض مناطق الشمال، مسلمون شيعة استوطنوا جبل عامل وبلاد جبيل وبعض الجنوب، بينما تشارك الموارنة والدروز باقى مناطق لبنان).
من الأعوام ١٨٢٠م إلى ١٨٦٠م حدثت مجازر بين الدروز الإقطاعيين بجانب الحكام الأتراك ضد الموارنة والفلاحين من طوائف أخرى مسيحية ومسلمة.
وفى هذه العقود بدأت فرنسا وبريطانيا فى وضع أقدامهم فى (الملعب اللبنانى) حتى اليوم!
فقد نجحت فرنسا عام ١٨٦٠م فى فرض منطقة حكم ذاتى عن الحكم العثمانى فى جبل لبنان عرفت بـ(الدولة المتصرفية) التى كانت أشبه ما يكون بما حدث عصر الحملات الصليبية حين منحت بعض دول أوروبا حمايتها لطوائف معينة فى الشام للدفاع عن مصالح تلك الدول، وكما فعل الملك الفرنسى لويس التاسع بتوقيع صك حماية للموارنة!
ربطت فرنسا سكان هذه الدولة معها ثقافيًا بإرساليات التبشير البروتستانتى (المذهب المؤمن بالمسيحية الصهيونية!).
وفى هذا التوقيت ظهرت طائفة جديدة هى الطائفة الإنجيلية، كما نزح الأرمن فرارا من مذابح تركية واستوطنوا شمال بيروت وبعض نواحى البقاع. تصاعد نفوذ فرنسا حتى احتلت لبنان بعد الحرب العالمية الأولى.
وفى ١٩٢٠م قررت فرنسا توسيع دولة لبنان (المتصرفية المسيحية) فأعلنت ضم الساحل والبقاع وجبل عامل والسهول الشمالية إلى تلك الدويلة، وبذلك قامت دولة لبنان الكبيرة أو أصبح هناك لبنان بحدوده التى نعرفها تقريبا!
فى نفس التوقيت عمدت فرنسا إلى تنظيم عمليات تهجير واسعة للموارنة السوريين للبنان فى محاولة لجعل لبنان دولة مسيحية، لكنها لم تستطع استكمال خطتها لحصول لبنان على الاستقلال بعد عقدين!
أى أنه وبعد أن أعلنت أوروبا علمانيتها وتمردها وكفرها ورفضها لأن يسير رجال الدين أمور السياسة فى دول أوروبا، وبعد أن حررت شعوبها من حقبة العصور الوسطى وانطلقت فى بناء دول عصرية قوية جدا، فقد قامت فرنسا بتنفيذ كل ما تخلصت منه فى أوروبا من مزاوجة السياسة والحكم من رجال الطوائف الدينية على أرض لبنان فى الفترة من ١٩٢٠م وحتى استقلال لبنان١٩٤٣م!
بعد حرب ١٩٤٨م نزح عشرات الآلاف من الفلسطينيين وأقاموا داخل مخيمات وأصبح وجودهم من أهم المفردات التى ستعصف بهذا الوطن!
كانت هذه بعض تراكمات مشتعلة تحت رماد واهٍ من قشرة وطنية سرعان ما سيتولى زعماء الطوائف الفتك بها!.
(٥)
استقل لبنان عام ١٩٤٣م، وكان أمامه مفترق طرق، وكان أمامه فرصة ربما لن تتكرر لأن ينتقل وينقل معه الدول العربية المجاورة له إلى مرحلة حضارية تمثل قفزة للمستقبل الذى تراه الآن شعوب تلك المنطقة العربية وهما مستحيل الإدراك!.
مساحة صغيرة، وموارد اقتصادية يمكنها أن تمنح لشعبه رفاهية كبرى، مع مستوى يسبق الأقران من الفكر والثقافة والفنون، وكان تعدد الطوائف الدينية يمكن ترويضه لو صدقت النوايا، وكان يمكن جعل لبنان فاتيكان العرب بمسلميهم ومسيحييهم!
فما الذى حدث؟!
لقد كتب زعماء الطوائف الدينية فى لبنان الكلمة الأولى فى شهادة وفاته حتى قبل أن تكتمل ولادته أو استقلاله! فقد اجتمعوا بعد الاستقلال مباشرة وقرروا أن يكونوا هم ونفوذهم، وأن تكون طوائفهم الدينية ونفوذها وراياتها فوق لبنان!
اختاروا التضحية بالوطن يوم استقلاله لصالح الطائفية الدينية فى بقعة من الأرض تحوى أكثر من ثمانى عشرة طائفة دينية، وبها معسكرات لاجئين من جنسية أخرى، وبها شرايين اتصال خارجية تربط تقريبا كل طائفة بقوى غير لبنانية؟!
أطلقوا طلقة الرصاص الأولى على فكرة الدولة الوطنية الواحدة ذات الشعب العربى الواحد متعدد العقائد الدينية! لقد خطوا الخطوة الأولى فى طريق التيه الطويل الذى وضعوا لبنان على بدايته ثم تركوه يكمله متخبطة أقدامه بين جثث أبنائه ودمائهم!
اختاروا ألا يكون هناك وطن، إنما غنيمة تقتسمها الطوائف الدينية! أن يكون رئيس الجمهورية مسيحيا مارونيا، ورئيس الحكومة مسلما سنيا، ورئيس مجلس النواب مسلما شيعيا، ويتم تقسيم مقاعد مجلس النواب إلى ٦٤ مقعدا لكلٍ من المسلمين، والمسيحيين!
بناءً على هذا القرار بالتنازل عن الوطن والتضحية بفكرة الدولة الوطنية، فلقد أصبحت الأحزاب السياسية الكبرى مجرد تجمعات ومنظمات وكيانات طائفية مجردة مُنحت شرعية قانونية لممارسة السلطة والسياسة والحكم!
ولم يبق لتلك الأحزاب السياسية من مسمى الأحزاب غير أحرف اللغة المكونة للاسم! فكل من (التيار الوطنى الحر، القوات اللبنانية، الكتائب) هى أحزاب سياسية مسيحية! وحركة أمل وحزب الله – فيما بعد - حزبان مسلمان شيعيان! وتيار المستقبل هو الحزب السنى الأكبر! وتحول زعماء الطوائف بعد هذا الاتفاق إلى رجال وزعماء سياسة!
وحين يُمنح رجال الدين أو زعماء الطوائف الدينية صلاحيات سياسية ومناصب سياسية تسقط الأوطان اليوم أو غدا! مسلمة تاريخية لم تسقط أبدا!
أطلقوا على اتفاقهم هذا (الميثاق الوطنى)، وينص الدستور على أنه لا شرعية لمن لا يلتزم بالميثاق الوطنى! ولا أدرى كيف تجرأوا على الوطن بأن منحوا هذا الوصف (الوطنى) لأسوأ قرار يمكن أن يتخذه أبناء وطن ما تجاه هذا الوطن! قرار إسقاط هذا الوطن وجعله وجعل الانتماء إليه فى مرتبة ثانية غير ذات معنى أو جدوى أو قيمة!
توهموا أن هذه الوحوش الكاسرة أو زعماء الطوائف يمكنها أن تقبل الترويض أو تقنع بما نص عليه هذا الاتفاق! فسرعان ما بدا هذا الاتفاق وكأنه ليس إلا خطوة أولى ستتلوها خطوات تصل بلبنان لأن يصبح كيانا لا يمكن أن نسميه وطنا! أصبحت الطائفة الدينية هى الوطن، وتحول لبنان إلى ما يشبه دويلات صغيرة لا تجمع بينها المكونات التى تجعل من بقعة ما من الأرض وطنا، من انتماء للأرض كلها وليس فقط تلك المنطقة التى تقطنها الطائفة، ومن تقديس الدفاع عنها، ومن تقديس مؤسسة عسكرية واحدة تجمع أبناء الوطن كلهم على هدف واحد وانتماء واحدٍ!
(٦)
توالت الخطوات أو لنقل الطعنات المصوبة لهذا الجسد الوليد من كل حدبٍ وصوب، ومن كل العواصم وكل المجموعات التى تقطنه!
استباحه الجميع منذ خمسينات القرن الماضى واستباحوا أرضه ودماء أبنائه ومقدراتهم. لم يشعر أحد بأنه يرتكب خطيئة ما وهو يفعل ذلك، لسببٍ واحد أن أحدهم لما يتجرأ على لبنان إلا بمعونة ومساندة، بل واستدعاء إحدى الطوائف الدينية اللبنانية ذاتها لهذا أو ذاك!
تنازلوا عن وطنهم وأهانوه فاستحله الجميع! هذه هى الحقيقة المؤلمة التى يحاول التهرب من قولها كل الذين يبكون لبنان اليوم سواء من داخله أو خارجه! الكل يخجل من التفوه بالحقيقة!
فى عام ١٩٥٨م كانت الخطوة الثانية فيما يعرف بأزمة لبنان. موارنة موالون لفرنسا رفضوا مقاطعة دول العدوان الثلاثى على مصر، ومسلمون سنة رفضوا سياسة الموارنة. فى تلك الأزمة كان لبنان مهددا بحرب أهلية دينية بين المسلمين والمسيحيين حين رفض كميل شمعون الرئيس المارونى الموالى للغرب قطع علاقاته مع دول العدوان الثلاثى على مصر وانضم لحلف بغداد، بينما رفض موقفه رئيسُ الوزراء السنى رشيد كرامى. وحين أعلنت الوحدة بين مصر وسوريا بمسمى الجمهورية العربية المتحدة طالب اللبنانيون المسلمون لبنان بالانضمام إليها بينما أراد المسيحيون الموارنة استمرار التحالف مع الغرب.
سقطت حكومة العراق المتحالفة مع الموارنة فنشبت اضطرابات مسلحة فى لبنان. طلب شمعون مساندة أمريكا فأرسلت ١٤ ألف جندى مارينز فيما يسمى بعملية الخفاش الأزرق باحتلال وتأمين مطار بيروت وميناء بيروت لتأمين الرئيس كميل شمعون، وانتهى الموقف بالاتفاق على دفعه للإقالة وانتخاب رئيس الجيش المسيحى فؤاد شهاب بدلا منه. بدأ تدخل اللاجئين الفلسطينيين فى المشهد بالانضمام ضد المارونيين.
ثم كانت الخطوة الثالثة أو أزمة ١٩٦٩م، وهى صدام مباشر بين الفلسطينيين واللبنانيين المسيحيين على خلفية قيام أبو على إياد بتنظيم عمليات مقاومة مسلحة تنطلق من مخيمات اللاجئين، ومحاولته بناء مقر لفتح، واعتراض الجيش اللبنانى. تبع ذلك صدامات مسلحة بين الطرفين وقامت فتح بعملية كبرى شمال لبنان بالسيطرة على مراكز شرطة والتحفظ على رجال شرطة. تبع ذلك مفاوضات فى القاهرة بين ياسر عرفات ومندوب لبنان، انتهت باتفاق ١٩٦٩م الذى نص على تقنين الوجود الفلسطينى المسلح فى لبنان داخل المخيمات، ووجود ممثلين لهم فى الأركان اللبنانية، وتسهيل التموين للفدائيين الفلسطينيين، والسماح لهم بالقيام بشن عمليات مسلحة ضد إسرائيل من داخل الأراضى اللبنانية!
كان هذا الاتفاق بمثابة الخطوة الثالثة فى طريق قتل لبنان كوطن أو دولة ذات سيادة، وكالعادة كان هناك من اللبنانيين من ساندوا الاتفاق، ولم يتم إلغاء الاتفاق إلا عام ١٩٨٧م فى ذروة الحرب الأهلية!
(٧)
كانت هذه الخطوات وما سبقها من مقدمات منذ القرن التاسع عشر تقود إلى المصير القاتم المحتوم وهو الاقتتال الداخلى أو الحرب الأهلية عام ١٩٧٥م وحتى عام ١٩٩٠م!
كانت الحرب الأهلية فى لبنان هى الفصل الأكثر قتامة، وكانت هى التوقيع النهائى على شهادة وفاة لبنان كوطن واحد لمواطنين عرب مختلفى الملل والنحل، وإعلان شهادة ميلاد مرحلة (الميليشيا فوق الوطن) أو (الميليشيا الوطن) بعد مرحلة (الطائفة فوق الوطن) أو (الطائفة الوطن)!
بدأت الحرب الاهلية باشتباكات مسلحة بين الموارنة وبين الفلسطينيين على إثر محاولة فاشلة لاغتيال الزعيم المارونى بيار الجميل، تبعها القيام بمهاجمة حافلة ومقتل ٢٧ من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين!
بعد الشرارة الأولى انقلب المشهد إلى جنون كامل! لا يمكن للقارئ سوى أن يفقد عقله وهو يتابع تغير التحالفات بسرعة وغير منطقية..
الكل يحارب الكل! الكل ينصب الفخاخ للكل ويقوم بمجازر تشبه ما تقترفه الصهيونية اليوم، وبعض تفاصيل تلك المجازر فى خمسة عشر عامًا تفوق فى بشاعتها وخستها ما نعاصره الآن! مع الوضع فى الاعتبار أننا نتحدث عن مواطنين يحملون هوية وطن واحد!.
تدخلت إسرائيل وسوريا ونشبت انشقاقات داخلية داخل كل تحالف بين عشية وضحاها.. مع الشرارة الأولى حاربت سوريا بجانب الموارنة بجانب إسرائيل!.
تكونت ميليشيات عميلة لإسرائيل، وأخرى لسوريا.. مجازر كبرى يطالع تفاصيلها العالم كل صباح.. انشقاقات بين ميليشيات كل طائفة تتبعها مواجهات مسلحة بين أعضاء الطائفة الواحدة واقتراف مجازر جديدة!
انتهى المشهد بعدد ضحايا يفوق ١٢٠ ألفا، ووطن عبارة عن أشلاء، وأكثر من مليون نازح، وعشرات الآلاف من المشردين، وخروج منظمة التحرير من بيروت، وتدخل دول كبرى وإقليمية، واحتلال متكرر من إسرائيل، وظهور حزب الله منبثقا من حركة أمل الشيعية معتنقا مبادئ الثورة الإيرانية ومساندا من الحرس الثورى الإيرانى!.
انتهى الجميع إلى الموافقة على اتفاق الطائف عام ١٩٨٩م، بتقوية صلاحيات رئيس الوزراء السنى، وخروج منظمة التحرير من لبنان، وبقاء قوات سورية، ونزع سلاح الميليشيات ما عدا حزب الله، وبقاء النفوذ السورى والإيرانى!.
هذا ما بقى من لبنان! لا وطن.. الكل عب من دم لبنان، والكل استباح هذا الوطن!
والآن لا جيش وطنى، ولا دولة قوية قادرة على اتخاذ قرار. دولة تشاهد على شاشات التليفزيون إعلان الميليشيا الباقية وهى تعلن الحرب دون أن تستطيع هذه الدولة حتى أن تناقش هذه الميليشيا! وتتخلى حامية الميليشيا الرسمية عنها، وتتركها تواجه مع أشلاء لبنان مصيرهم إن لم تكن هى التى قدمت رأس هذه الميليشيا فى مساومات باتت مكشوفة! والميليشيا لا تأبه بوطن، ولا بأتباع الطوائف الأخرى! الميليشيا تفرض حربا على وطن دون أن تستشيره! وهى عاجزة حتى عن حماية نفسها وشرفها، فكيف نتوقع منها أن تأبه أو تفكر فى الدفاع عن مواطنين كانت منذ سنوات تستبيح دماءهم؟! الميليشيا مهما بلغت سطوتها فهى لن تقدر على أن تحل بديلا عن الجيوش الوطنية! هذه الحقيقة يدركها تماما من حتى يحاربون هذه الميليشيا لكنهم فرحون بوجودها لأنهم يدركون أنها ضمان انتصارهم وبقائهم فى هذه البقعة البائسة من العالم!
(٨)
هل هناك أمل لخروج لبنان من مذبحه؟!
هناك أمل أو خيال يداعب السذج، وهو أن ينتفض أهل لبنان ويعترفوا بخطاياهم الكبرى فى حق هذا الوطن! لو صحت النوايا فلا مستحيل!
أن يغيروا معتقدهم وأن يضعوا دستورا جديدا لدولة وطنية خالص! دستورٌ يجعل من لبنان – لا الطوائف أو الميليشيا – قدس أقداسهم الأعظم!
أن يكفروا بزعماء الطوائف وميليشيات الطوائف وأن يصدروا حكما لا استئناف له بالإعدام لمعتقدهم الذى زاوج الدين بالسياسة بالدم؟
أن يكون لبنان وأرضه هو العقيدة التى يعتنقها الجميع!
أن يزيلوا من المشهد السياسى كل زعماء الطوائف وأن يربوا أبناءهم على دينٍ واحد هو لبنان!
فلتسقط أية معتقدات دينية تفرط فى شرق أمة أو وطن وتجعل منه سجادة حمراء بلون الدم تتبختر عليها زعامات دينية تحولت إلى ألف قيصر ؤالف كسرى وألف خليفة، وتدهسها بيادات الميليشيات التى تعجز ساعة الفصل عن حماية شرفها هى لا شرف الوطن!
إن أراد اللبنانيون جميعهم استرجاع هذا الوطن فلا طريق غير هذا! أن يغيروا الدستور وأن يسجنوا كل زعماء الطوائف أو يحكموا عليهم بالإعدام، وأن ينزعوا أسلحة كل الميليشيات!
وأن يقسموا قسما واحدا - على اختلاف مللهم وطوائفهم – بلبنان وللبنان!
وأن تسلم الميليشيا أسلحتها طائعة للدولة الوطنية وأن تستفيد تلك الدولة بمقاتلى الميليشيا بعد إعادة تأهيلهم عقائديا طبقا لعقيدة الوطن!
وأن يصلوا جميعا صلاة واحدة اسمها صلاة الاستغفار والندم والبكاء على ما فرطوا فيه عبر ما يقرب من ثمانية عقود!
أن يقفوا جميعا أمام مرآة واحدة ويسألوا ضمائرهم هذا السؤال...أى إلهٍ هذا الذى اعتقدنا أننا قمنا بالتقرب إليه بكل هذه الدماء الوطنية وكل هذا العار الوطنى وكل هذا الهتك لمعانى الوطن؟!
هو حلم أقرب للوهم! لكن هذا هو السبيل الوحيد للخروج وإن لم يقدروا عليه.. فإذن هناك طريق آخر حقنا للدماء، وهو استكمال السير فى طريق التيه لكن بشكلٍ واقعى، أن يتم الإعلان رسميا عن وفاة لبنان كوطن واحد موحد، وأن يتم تقسيمه جغرافيا وسياسيا كما تم تقسيمه طائفيا إلى عدة دويلات مستقلة، لكل طائفة دويلة حتى لو كانت كيلومتر مربع واحد يكون زعيم الطائفة رئيسا لطائفته يتولى معها اختيار اسم وعلم دولته ويكون جيشا طائفيا! تقسيم دولة معتصمة بحبل دولتها وتقدس أرضها جريمة كاملة، لكن تقسيم ما هو مقسمٌ بالفعل وبالدم قد يكون الحل الباقى الوحيد المتسق مع ما بقى من بقايا وطن! الجنون هو أن نتحدث اليوم عن عروبة لبنان وسلامة أراضيه، وأهله هم من كفروا بهذه العروبة وهذه السلامة، وهم من رفضوا أن يكون لبنان وطنا حقيقيا!
(٩)
كلمة أخيرة!
يندهش كثيرون ممن لم يقرأوا تاريخ لبنان مما يروه كل يوم من هذا الانفصال بين الدولة وبين الميليشيا، ويتعجبون كيف لوطنٍ أن يحيا هكذا، ولا يكفون عن استصراخ دولٍ أخرى من أجل لبنان! قرأت كثيرا مما يكتبه الشباب ويعجبون له ويتساءلون كيف للشعب اللبنانى والدولة والجيش أن يرضوا بما يحدث؟ قرأت وأشفقت عليهم وأود أن أخبرهم بالسر، كلمات وصفحات التاريخ وحدها التى لديها الإجابة!
لو قرأوا لأدركوا أن الأولى هو استصراخ اللبنانيين أنفسهم داخل وخارج لبنان!
كلمتى الأخيرة للمصريين..
عليكم أن تقرأوا تاريخ الأوطان فى هذه المنطقة جيدا لكى تدركوا قيمة مصر! لكى ندرك جميعا قيمة ومعنى الدولة الوطنية التى يصطف جميع أبنائها مقدمين أرواحهم فداء لهذه الدولة.
يجب ألا نسمح لأى داع يرفع لواء طائفى أن يبث سمومه بيننا.
الوطن هو العقيدة التى يلتف حولها الجميع ولو سقط فلن يكون هناك موضع قدم حتى لممارسة طقوس الديانة!
هم يريدون لنا أن نسقط فى هذا الفخ منذ عقود وكلما ازداد تماسك هذا الوطن اشتدت رغبتهم وسقطت أقنعتهم! لا تفرطوا فى مصر!
إنهم يحلمون أن تتحول مصر إلى طوائف متناحرة! ألا تذكرون خبائثهم التى أرادوا جر مصر إليها حين رفعوا شعارات تدغدغ مشاعر الصغار من عينة إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية؟!
ألا تذكرون ولعهم عبر العقود بوهم انشقاقات داخل المؤسسة العسكرية المصرية؟!
على المصريين الاعتصام بدولتهم ومؤسساتها الصلبة فهذه الدولة بكل مؤسساتها هى شرف الأمة المصرية. يقينى الذى لم يتزعزع ولو قيد شعرة أن هذا الوطن محفوظ ومحفوف برعاية الله وفطنة شعبه، لكننى أقدم فى هذا المقال نموذجا لما يريدونه لهذه الأمة المصرية، فاللهم قد بلغت اللهم فاشهد!.