السينما المصرية والعروبة «1-3»
تناولنا فى مقالات سابقة حالة الولع السينمائى بتاريخ مصر القديمة «الفرعونية» فى عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، وكيف كان ذلك انعكاسًا وتأثيرًا فى الوقت نفسه فى المد القومى المصرى فى أعقاب ثورة ١٩١٩، فضلًا عن اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون.
لكن ذلك الأمر لن يستمر كثيرًا، فمع نهايات الثلاثينيات، وسنوات الأربعينيات من القرن الماضى، تدخل مصر فى تحولات عميقة على المستوى السياسى والفكرى. ولا نبالغ إذا قلنا بتراجع النزعة القومية المصرية ذات البعد الفرعونى لصالح التيار السياسى القادم من الشرق: التيار العروبى.
وتعتبر دراسة المفكر الكبير محمد جابر الأنصارى من أهم الكتابات الكاشفة لهذه التحولات المهمة والخطيرة فى بنية السياسة والعقل المصرى، والسينما أيضًا. يرصد الأنصارى هذه التحولات تحت عنوان مهم ودال هو «تعريب مصر سياسيًا». وبالقطع المقصود هنا توجه مصر نحو النزعة العروبية، وليس تعريب مصر لغويًا؛ إذ تعربت مصر لغويًا فى القرون الأولى للحكم الإسلامى، وفى الحقيقة لم يكن هذا التعريب سهلًا أو هينًا، وإنما أخذت مصر وقتًا طويلًا حتى تتخلى عن لغتها الأصلية، لتصبح العربية هى لغة الحياة اليومية.
ولكن ما يرصده الأنصارى هو «تعريب مصر سياسيًا، وانتشار النزعة العروبية فيها». ولا يخفى على أحد أن حركة القومية العربية نشأت فى الأساس فى المشرق العربى، ولفترة طويلة كانت مصر غائبة بالفعل عن هذا الأمر. وربما يرجع ذلك إلى إحساس المصريين باختلافهم عن «جيرانهم العرب»، أو حتى ارتباط بعض التيارات الوطنية المصرية بالدولة العثمانية، وبالتالى الدعوة للرابطة العثمانية، أو صعود القومية المصرية مع ثورة ١٩١٩ وبناء المملكة الجديدة «المملكة المصرية».
لكن الأنصارى يشير إلى تحولات مهمة فى المشرق العربى، سواء خيبة أمل القوميين العرب إزاء سياسات الحلفاء التى حالت دون تحقيق الآمال فى تأسيس «الدولة العربية الموحدة»، أو ازدياد الخطر الصهيونى فى فلسطين. من هنا يرصد الأنصارى التحول إلى «ضم أكبر قوة إلى دار العرب الجديدة، بل جعلها، مصر، مركز الثقل فى هذه الدار، بعد أن كان الامتداد المكانى للفكر القومى العربى لا يتجاوز آسيا العربية». وصاحب ذلك عدة متغيرات فى مصر ساعدت فى عملية تعريب مصر سياسيًا، يأتى على رأسها بالقطع توقيع مصر معاهدة ١٩٣٦، مع إنجلترا، وما ترتب على ذلك من حرية أكبر لمصر فى سياستها الخارجية، وبالتالى التطلع إلى جيرانها، الذين سيصبحون بعد قليل «أشقاءها».
وفى الوقت نفسه تقريبًا كان تصاعد الأحداث فى فلسطين عاملًا مهمًا فى توجه مصر «العروبى»، وكما يقول الأنصارى: «كانت فلسطين هى العامل الحاسم الذى حول السياسيين المصريين نحو سياسة عربية شاملة.. إن الانفجار العربى فى فلسطين عام ١٩٣٦ شهد بذور آراء على ماهر، وربما كان هو رئيس الوزراء الأول الذى رأى جعل مصر بطلة العالم العربى».
رافق كل ذلك مجىء الملك الشاب فاروق الأول إلى حكم مصر فى عام ١٩٣٦، ومع إخفاق والده الملك السابق فؤاد الأول فى محاولة إحياء الخلافة، وتنصيب نفسه خليفة للمسلمين فى عشرينيات القرن الماضى، سيحاول مستشارو الملك الشاب الترويج لفكرة «فاروق الأول ملك العرب».
لسنا هنا فى مجال دراسة وتتبع دخول الفكر القومى العربى إلى مصر، فهناك العديد من الكتابات فى هذا الشأن، ربما يأتى على رأسها، فى رأينا، دراسة الأنصارى، والمصطلح الذى صكه: «تعريب مصر سياسيًا». لكن ما يهمنا هنا هو رصد أثر ذلك على اتجاهات السينما المصرية، والأهم هو دور السينما فى دعم هذا الاتجاه الجديد. بدايةً لا بد من النظر إلى الأفلام وغيرها من أدوات القوى الناعمة؛ الصحافة والكتب المصرية، على أنها تطور تقنى بالقطع، لكنها أيضًا بمثابة تطور تاريخى تصنع التاريخ وتتأثر به. من هنا لا بد من الأخذ فى الاعتبار تطور سوق الأفلام المصرية، وغيرها من أدوات القوى الناعمة، فى البلدان آنذاك، وأثر ذلك فى بروز النزعة العربية فى أفلام ذلك الزمان. ربما لم تتوافر لدينا إحصائيات عن توزيع الفيلم المصرى فى الأسواق العربية آنذاك، لكن هناك إشارات حول أهمية ذلك بالنسبة لصناعة السينما المصرية، لا سيما مع تحولها إلى سينما ناطقة، وبروز ظاهرة الفيلم الغنائى.