رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

العواقب غير المحسوبة للحرب فى لبنان

الغموض يلف الموقف الإيرانى من الأحداث الجارية فى المنطقة حاليًا.. رد طهران على مقتل رئيس المكتب السياسى لحماس، إسماعيل هنية، على أرضها، وقت أن كان ضيفها، لم يتحقق حتى الآن.. يتعرض حزب الله فى لبنان لضربات قاسية من إسرئيل، أوقعت شهداء كثيرين ومصابين، ولم تحرك ساكنًا.. وعندما سُئل الرئيس الإيرانى الجديد، مسعود بزشكيان، فى مقابلة مع CNN، هل تنصح حزب الله بضبط النفس؟.. قال، إن الضربات الإسرائيلية المكثفة على حزب الله فى لبنان أزمة إنسانية، تخاطر بإشعال الصراع فى المنطقة، الخطر قائم، من أن تمتد نار الأحداث التى تجرى فى لبنان إلى المنطقة برمتها.. حزب الله يواجه دولة مسلحة بشكل جيد جدًا، ولديها إمكانية الوصول إلى أنظمة أسلحة تفوق بكثير أى شىء آخر.. ولا يجب أن نسمح بأن يصبح لبنان غزة أخرى على أيدى إسرائيل. 
وأردف الرئيس الإيرانى، الذى تحدث، بينما يجتمع زعماء العالم لحضور الجمعية العامة للأمم المتحدة، والتى من المتوقع أن يهيمن على جدول أعمالها، تصاعد الأعمال العدائية بين إسرائيل وحزب الله فى لبنان، قائلًا لا يستطيع حزب الله أن يفعل ذلك بمفرده.. لا يمكن لحزب الله أن يقف بمفرده أمام دولة تدافع عنها وتدعمها وتغذيها الدول الغربية والأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية.. وحذر من أن الأحداث قد تتحول إلى صراع إقليمى، والذى يمكن أن يكون خطرًا على مستقبل العالم وكوكب الأرض نفسه، لذلك يجب أن نمنع الأعمال الإجرامية المستمرة التى ترتكبها إسرائيل. 
قال الرئيس الإيرانى ذلك، بينما يؤكد دبلوماسى غربى للكاتب باراك رافيد، فى وكالة أكسيوس، أن حزب الله حث إيران، فى الأيام الأخيرة، على شن هجوم ضد إسرائيل، مع تصاعد القتال بينه وبين الجيش الإسرائيلى بشكل كبير، لكن إيران امتنعت حتى الآن عن ذلك، لأن أى هجوم إيرانى مباشر على إسرائيل، من شأنه أن يؤدى إلى زعزعة استقرار المنطقة بشكل كبير، ومن المرجح أن يجر الولايات المتحدة إلى المزيد من القتال المكثف.. كل ما فعله المسئولون الإيرانيون أن أبلغوا نظراءهم فى حزب الله، أن التوقيت ليس مناسبًا لشن هجوم على إسرائيل، لأن الرئيس الإيرانى مسعود بزشكيان، موجود حاليًا فى نيويورك لحضور الجمعية العامة للأمم المتحدة، وقد قال إن إسرائيل هى الطرف الذى يسعى إلى حرب أوسع فى المنطقة، مؤكدًا أن إيران لا تريد الوقوع فى هذا الفخ.. فى وقت يقول فيه مسئول إسرائيلى كبير، إن توجيهات مجلس الوزراء الأمنى لقوات الجيش الإسرائيلية، هى تجنب الخطوات التى من شأنها أن تمنح إيران سببًا أو ذريعة للانضمام إلى القتال.. وهكذا، يقف حزب الله فى المنتصف.
لقد أدت الهجمات الإسرائيلية على لبنان، إلى مقتل المئات من الناس، كثير منهم من المدنيين، وإصابة الآلاف.. كما فر عشرات الآلاف من جنوب لبنان.. ونفذ الجيش الإسرائيلى غارات جوية مكثفة على الضاحية الجنوبية، وعلى بيروت، قال الجيش الإسرائيلى إنها قتلت رئيس قوة الصواريخ والقذائف فى حزب الله، إبراهيم قبيسى، وخمسة أشخاص آخرين فى الغارة.. بينما شهد أكثر من مليون شخص فى إسرائيل ـ من منطقة حيفا إلى الحدود مع لبنان ـ أوسع الهجمات الصاروخية والطائرات المُسيرة التى شنها حزب الله.. تم اعتراض معظمها، لكن العديد من الأشخاص أصيبوا.. تكبد حزب الله خسائر فادحة، حيث قُتل العديد من كبار قادته العسكريين، وتعرضت أنظمة اتصالاته للخطر.. وزعمت إسرائيل أنها دمرت جزءًا كبيرًا من ترسانة الصواريخ والقذائف التابعة للحزب، خلال الأيام القليلة الماضية.
أسفرت تلك الضربات عن مقتل عدد من قادة الصف الأول للحزب، وأهمهم إبراهيم عقيل وأحمد محمود وهبى، ما يضع حزب الله أمام تحدٍ جديد فى الحفاظ على قوته الأمنية والعسكرية.. وقد اعترف الحزب بمقتل عدد من قادته فى الضربة الأخيرة على الضاحية الجنوبية، إلا أن مسئولًا إسرائيلًيا ذهب أبعد من ذلك، بكشفه لموقع «أكسيوس» أن الغارة الإسرائيلية قتلت عشرين قائًدا من قوة الرضوان التابعة لحزب الله، حيث كانوا يعقدون اجتماعًا سريًا، اعتبره الجيش الإسرائيلى فرصة نادرة، لاغتيال كامل قيادة قوة الرضوان.. وبدوره، نفذ حزب الله هجومًا بالصواريخ، استهدف مُجمعات صناعات عسكرية ‏لشركة رافائيل، وقاعدة ومطار رامات ديفيد للمرة الثانية بعشرات الصواريخ، ما يُعد تطورًا فى عمليات الحزب ضد إسرائيل.. فهذه المرة الأولى التى يستهدف فيها الحزب هذه المناطق، منذ بدء المواجهات بين الجانبين فى الثامن من أكتوبر الماضى.
ومع ذلك، اعتبر تقرير لصحيفة التليجراف البريطانية، أن رد فعل حزب الله على أيام من الاستفزاز الإسرائيلى فاتر إلى حد كبير، حتى الآن، رغم أن الأمين العام للحزب، حسن نصر الله، كان قد حذّر إسرائيل من أن أى ضربة على معقله فى الضاحية الجنوبية لبيروت، ستُواجه برشقات صاروخية تصل إلى تل أبيب.. إلا أن حزب الله ما زال مترددًا فى تصعيد الحرب، إذ إنه من الواضح أن إيران تكبح جماح الحزب، لذلك لم يستخدم حتى الآن صواريخه الأكثر تقدمًا ضد إسرائيل.. بينما يرى ضابط الاستخبارات الإسرائيلى السابق، دورون ماتزا، أن إسرائيل تتجنب الدخول فى حرب برية شاملة مع حزب الله، وتسعى بدلًا من ذلك إلى تعظيم الضغوط الداخلية والخارجية على الحزب، لإجباره على الدخول فى تسوية سياسية تعيده إلى ما وراء نهر الليطانى، وتجعله يتراجع عن مساندته لغزة.. وما العمليات العسكرية الإسرائيلية الأخيرة، بما فى ذلك عمليات البيجر واللاسلكى والاغتيالات فى الضاحية الجنوبية لبيروت، إلا ورقة، تهدف إلى خلق ارتباك وإحراج للحزب، ولم يكن هذا تمهيدًا لحملة برية، كما قال الضابط الإسرائيلى لصحيفة معاريف العبرية، الذى أوضح أن حزب الله يريد جر إسرائيل إلى حرب استنزاف.
ولا يعد استهداف إسرائيل لقيادات حزب الله بالأمر الجديد، فقد اغتالت إسرائيل، فى الثلاثين من يوليو الماضى، القيادى الكبير فى الحزب، فؤاد شكر، فضلًا عن اغتيال عدد من قيادات الحزب قبل سنوات، مثل عماد مغنية ومصطفى بدرالدين وحسان اللقيس وسمير القنطار وجهاد مغنية.. ورغم نجاح إسرائيل فى تنفيذ تلك الاغتيالات، إلا أن ذلك لم يؤدّ إلى إضعاف الحزب بشكل واضح على المدى الطويل.. ولعل ذلك يرجع فى الأساس إلى تمتع حزب الله بهيكل تنظيمى متماسك، يسمح له بالاستمرار، حتى فى حال فقدان بعض قياداته الرئيسية، فبمجرد اغتيال قائد، يتم ملء الفراغ بسرعة من خلال تعيين قيادة بديلة، فضلًا عن الدعم الإيرانى للحزب، سواء من الناحيتين العسكرية أو المالية.. فهذا الدعم يعزز من قدرة الحزب على الصمود أمام الضغوط الخارجية.
●●●
الوضع الميدانى يشير إلى أن المواجهة بين الطرفين باتت مفتوحة على كافة السيناريوهات.. وبينما تضع إسرائيل معادلة انسحاب حزب الله إلى ما وراء نهر الليطانى لإعادة نازحى الشمال إلى مساكنهم بأمان، يتمسك حزب الله بمعادلة عدم عودة سكان شمال إسرائيل قبل وقف العمليات العسكرية فى غزة.. وتطرح الغارات المكثفة على جنوب لبنان تساؤلات بشأن ما إذا كانت تمهد لاعتماد إسرائيل سياسة الأرض المحروقة، فى إطار تحضيرات محتملة لشن عملية اجتياح برى على البلدات الحدودية اللبنانية.. ويمثل التصعيد الإسرائيلى الحالى نقطة مفصلية فى الصراع بين حزب الله وإسرائيل، وفق ما يقوله الباحث السياسى نضال السبع، لافتًا إلى أن نشر وسائل الإعلام الإسرائيلية الخاضعة للرقابة العسكرية، أمس، صورًا للمنازل المدمرة والسكان المذعورين، بالإضافة إلى صور لجثث، بعد توسيع حزب الله لنطاق استهدافاته أمس الأول، ردًا على تفجيرات البيجر واللاسلكى واغتيالات قادته، يوحى بأن إسرائيل تمهد لشن غارات واسعة النطاق، قد تتجاوز جنوب لبنان إلى شماله، لا سيما مع استهدافها للمرة الأولى مناطق جديدة.
ما يمنع  اعتماد إسرائيل سياسة الأرض المحروقة، تمهيدًا لاجتياح برى لجنوب لبنان، حتى الآن، هو قدرة حزب الله على استخدام الصواريخ الدقيقة وصواريخ الكورنيت من الجيل الثانى، التى يمكنها إصابة أهداف على مسافات بعيدة، مع أن إسرائيل تعمل على إضعاف قدرات حزب الله قبل الإقدام على ذلك، خصوصًا أن الجيش الإسرائيلى لا يزال قادرًا على تحقيق بعض أهدافه، من خلال القصف الجوى والعمليات الأمنية، أى الاغتيالات، ما يجعله يتردد فى تنفيذ توغل برى، نظرًا للمخاطر الكبيرة التى قد تترتب على ذلك.. قد يحدث تصعيد فى القصف الجوى وتكثيف للعمليات السيبرانية والأمنية، وكذلك للحرب النفسية، وإذا لم تنجح هذه الوسائل فى تحقيق الأهداف الإسرائيلية، فقد يلجأ الجيش الإسرائيلى إلى شن حرب واسعة.. وحزب الله يتجنب، حتى الآن، أن يكون الطرف الذى يبادر إلى تلك الحرب، مع أن الوضع الحالى فى لبنان على حافة الهاوية.
فبعد أن كان حزب الله يتوقع خوض حرب إسناد قصيرة لا تتجاوز بضعة أسابيع، تشير التطورات الأخيرة إلى أن إسرائيل نجحت فى استدراجه إلى حرب استنزاف طويلة، تكثف خلالها الغارات الجوية على جنوب لبنان، وتستهدف قادته بعمليات اغتيال.. وقد باتت سياسة تبادل الرسائل بين إسرائيل وحزب الله واضحة، إذ بعد إعلان أمين عام الحزب، حسن نصر الله، فى خطابه الأخير، عن أن عمليات الحزب ستؤدى إلى تهجير مليون إسرائيلى، يبدو أن الجيش الإسرائيلى يرد باستراتيجية تهدف لتهجير مليون ونصف المليون لبنانى من الجنوب، دون أن تكون التصريحات الإسرائيلية الأخيرة، التى تُحمّل الحكومة اللبنانية مسئولية أعمال حزب الله، مقدمة لاستهداف منشآت حيوية، مثل المطار والمرفأ.
بالتزامن مع كل هذا، وصل الموفد الفرنسى، جان إيف لودريان، إلى لبنان، وربما يحمل معه رسائل تهديد من إسرائيل لإبعاد حزب الله عن الحدود الجنوبية، لمسافة تتراوح بين عشرة وخمسة عشرة كيلو مترًا، وهو مطلب تصر إسرائيل على تحقيقه، سواء عبر المفاوضات أو باستخدام القوة العسكرية.. وفى حال فشل مهمة لودريان، قد تتوسع إسرائيل فى ضرباتها، وتبدأ بالاجتياح البرى، مستغلة انشغال الولايات المتحدة بالانتخابات الرئاسية، ما يضع لبنان فى مرحلة صعبة خلال الأربعين يومًا المقبلة، خصوصًا أن وزير الدفاع الإسرائيلى، يوآف جالانت، أعلن عن تكثيف الهجمات فى لبنان، وقال «ستستمر العمليات حتى نحقق هدفنا، بإعادة سكان شمال إسرائيل إلى منازلهم بأمان».
●●●
أمام القصف الإسرائيلى العنيف لحزب الله، فى كل أنحاء لبنان.. يتوقع محللون عسكريون أن يستلهم حزب الله أفكار قوات الرئيس الروسى فلاديمير بوتين، ويستنسخ التكتيكات التى تستخدمها روسيا فى أوكرانيا، لإطلاق أسراب من الطائرات بدون طيار وهجمات صاروخية جماعية على الدفاعات الجوية الإسرائيلية، كما قالت صحيفة «وول ستريت جورنال»، لاستهداف قواعد عسكرية رئيسية وموانئ وشبكة الكهرباء فى إسرائيل.
وبعد أن شهد لبنان أعنف يوم فى تاريخه، بسبب الهجمات الإسرائيلية منذ عام 2006، التى أسفرت عن مقتل ما يزيد على ستمائة شخص، ودفعت الآلاف إلى الفرار بحثًا عن الأمان.. تتزايد التكهنات بأن إسرائيل تستعد لشن غزو برى لجنوب لبنان، لكن المحللين يقولون إن حزب الله أصبح قوة أكثر قوة وتطورًا منذ حربه الأخيرة ويمكنه الرد بقوة.. وإذا قررت الرد على إسرائيل، فإن المثال الروسى قد يكون مفيدًا.. وهذا ما يتفق معه آساف أوريون، العميد المتقاعد من الجيش الإسرائيلى، بقوله، «لن تكون هذه نزهة فى الحديقة.. لا توجد طريقة لتجنب تعرضنا للضرب»، ويُعتقد أن حزب الله يُخزن الصواريخ، حيث قال مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية فى تقرير صدر فى شهر مارس الماضى، إن الحزب ربما يمتلك ما بين مائة وعشرين ألفًا ومائتى ألف صاروخ، ولديه القدرة على ضرب أهداف فى عمق إسرائيل، بما فى ذلك الطرق والمواقع العسكرية والمطارات.. وقال مسروب كاسمجيان، الزميل فى قسم السياسة والدراسات الدولية فى جامعة لندن، إن «هذه الأنواع من الضربات تأتى كجزء من قصف صاروخى مطول، وأسراب طائرات بدون طيار محتملة، وهو ما قد يطغى على نظام القبة الحديدية الإسرائيلى، ويترك إسرائيل مفتوحة لبعض الضربات الحرجة فوق أراضيها.. الصراع سوف يخلُف ثمنًا باهظًا، ليس على لبنان فحسب، بل على إسرائيل أيضًا».
وفى ظل الحرب فى أوكرانيا، عليك بالبحث عما يمكن أن يُوجِع واشنطن فى الشرق الأوسط.. إذ يقول مسئولون أمريكيون وإسرائيليون لشبكة CNN، إن حزب الله قد يتمكن على الأرجح من اختراق دفاعات القبة الحديدية الجوية الإسرائيلية فى شمال البلاد، خصوصًا إذا شن هجومًا واسع النطاق باستخدام صواريخ موجهة بدقة.. وعلى نحو مماثل، هاجمت روسيا المدن والبنية الأساسية الأوكرانية بهجمات صاروخية وطائرات بدون طيار، وفى بعض الحالات تمكنت من التغلب على الدفاعات الجوية الأوكرانية.. إن حزب الله ربما تعلم دروسًا قيمة من العمل مع الجيش الروسى فى سوريا.. وفى تقرير صدر فى أغسطس الماضى، قال معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، «يبدو أن حزب الله تعلم الكثير من الجيش الروسى، بما فى ذلك القدرة على شن حرب مناورة هجومية».. وذكر التقرير أن الدعم لجماعات مثل حزب الله، يشكل جزءًا من استراتيجية الكرملين، لمواجهة القوة الأمريكية فى الشرق الأوسط، من خلال تعزيز خصوم الولايات المتحدة.. وهو ما قالت به الحكومة الأمريكية فى نوفمبر الماضى، إن مجموعة فاجنر الروسية، ربما تستعد لتزويد حزب الله بأنظمة الدفاع الجوى الروسية «بانتسيرـ1»، فى مؤشر آخر على تعزيز العلاقات بين حزب الله وروسيا.
●●●
تعتقد إسرائيل أن الهجوم الشرس سوف يجبر حزب الله على التنازل، ويجبر زعيم الحزب، حسن نصرالله، وحلفاءه وداعميه فى إيران، على دفع الثمن الباهظ للحرب، وأن يعترفوا بأن للمقاومة تبعات جسيمة للغاية.. يحتاج الساسة والجنرالات فى إسرائيل إلى النصر، فبعد ما يقرب من عام من الحرب أصبحت غزة مكانًا يصعب الخلاص منه، ولا يزال مقاتلو حماس يخرجون من الأنفاق ومن تحت الأنقاض لاستهداف الجنود الإسرائيليين، ولا يزالون يحتجزون رهائن إسرائيليين.. وعندما فاجأت حماس إسرائيل فى أكتوبر الماضى، لم يكن الإسرائيليون يرون حماس تهديدًا كبيرًا، وكانت لهذا عواقب وخيمة، أما فى لبنان، فالأمر مختلف، فقد كان الجيش الإسرائيلى وجهاز الاستخبارات، الموساد، يخططان للحرب ضد حزب الله، منذ أن انتهت الحرب الأخيرة إلى طريق مسدود عام 2006.
ويعتقد رئيس الوزراء الإسرائيلى، بنيامين نتنياهو، أن الهجوم الحالى يحرز تقدمًا كبيرًا نحو هدفه المعلن، المتمثل فى تغيير ميزان القوى، بحيث لا ترجح كفة حزب الله.. ويريد نتنياهو منع حزب الله من إطلاق الصواريخ عبر الحدود نحو إسرائيل، وفى الوقت نفسه، يقول الجيش الإسرائيلى إن الخطة تهدف إلى إجبار حزب الله على التراجع عن الحدود، وتدمير المنشآت العسكرية التى تهدد إسرائيل.. ويعيد الأسبوع الأخير فى لبنان إلى الأذهان مشهد الحرب فى غزة، فقد أصدرت إسرائيل تحذيرات للمدنيين ـ كما تفعل فى غزة ـ بالخروج من المناطق التى على وشك أن تتعرض للهجوم، وتلقى باللوم على حزب الله ـ كما تلوم حماس ـ على استخدام المدنيين كدروع بشرية.. ما دفع بعض المعارضين وكذلك أعداء إسرائيل، إلى الاعتقاد بأن التحذيرات كانت غامضة للغاية، ولم تمنح الأسر الوقت الكافى لإخلاء منازلهم، وتطالب قوانين الحرب بحماية المدنيين، وتحظر الاستخدام العشوائى وغير المتناسب للقوة.. وتصر إسرائيل على أن جيشها يراعى أخلاقيات الحرب ويحترم القواعد، ولكن حكومات كثيرة حول العالم أدانت سلوكها فى غزة، ومن شأن اندلاع حرب حدودية جديدة أوسع نطاقًا، أن تعمق الفجوة فى الجدل القائم حول سلوك إسرائيل.
إذا نظرنا إلى تفجيرات أجهزة البيجر، فإن إسرائيل تقول إن الهجوم كان يستهدف عناصر حزب الله الذين تم تزويدهم بالأجهزة، لكنها لم تكن قادرة على معرفة مكان وجودهم عندما فعَّلت تفجيرات الأجهزة، وهو ما أدى إلى إصابة وقتل مدنيين وأطفال فى المنازل والمحال التجارية وغيرها من الأماكن العامة، ويقول محامون بارزون، إن هذا يثبت أن إسرائيل كانت تستخدم القوة المميتة دون التمييز بين المقاتلين والمدنيين، وهو انتهاك لقواعد الحرب.
المتابع للتاريخ، يدرك أن القتال بين إسرائيل وحزب الله بدأ فى ثمانينيات القرن العشرين، ولكن الحرب الحدودية الحالية بدأت فى اليوم التالى لهجوم حماس على إسرائيل فى السابع من أكتوبر، عندما أمر حسن نصرالله رجاله ببدء قصف محدود، وشبه يومى تقريبًا، عبر الحدود لدعم حماس، وأدى ذلك إلى محاصرة القوات الإسرائيلية، وإجبار حوالى ستين ألف شخص فى المدن الحدودية على مغادرة منازلهم فى الجانب الإسرائيلى.
وبالنظر فى طبيعة الحروب السابقة لإسرائيل، فإن بعض الأصوات فى وسائل الإعلام الإسرائيلية، قارنت بين تأثير الضربات الجوية على قدرات حزب الله، وبين الحرب المفاجئة التى شنتها إسرائيل على مصر فى يونيو 1967، وفى الأيام الستة التى تلت ذلك، هزمت إسرائيل مصر وسوريا والأردن، ورسم ذلك الانتصار شكل الصراع الحالى، حيث استولت إسرائيل على الضفة الغربية، بما فى ذلك القدس الشرقية، وقطاع غزة ومرتفعات الجولان.. ولكن هذه ليست مقارنة جيدة، فلبنان والحرب مع حزب الله، أمران مختلفان، لقد وجهت إسرائيل ضربات ثقيلة، ولكنها حتى الآن لم توقف قدرة حزب الله وعزيمته على استهداف إسرائيل.. كانت حروب إسرائيل السابقة مع حزب الله طاحنة واستنزافية، ولم تُسفر قط عن نصر حاسم لأى من الجانبين، وقد تسير هذه الحرب على نفس المنوال، مهما كانت نتائج الأسبوع الأخير مرضية لإسرائيل وأجهزة استخباراتها وجيشها.
يرتكز الهجوم الإسرائيلى على افتراض، أن حزب الله سوف ينهار فى لحظة ما، وينسحب من الحدود ويتوقف عن إطلاق النار على إسرائيل، ويعتقد أغلب المراقبين لحزب الله أنه لن يتوقف، باعتبار أن قتال إسرائيل هو السبب الرئيسى لوجود حزب الله.. وهذا يعنى أن إسرائيل، سوف تضطر إلى تصعيد الحرب إلى ما هو أبعد من ذلك، وإذا استمر حزب الله فى تهديد شمال إسرائيل، وجعله منطقة شديدة الخطورة على المدنيين الإسرائيليين، الذين قد لا يتمكنون من العودة إلى ديارهم، فسوف تضطر إسرائيل إلى اتخاذ قرار بشأن شن هجوم برى، ربما للسيطرة على الشريط الحدودى ليكون بمثابة منطقة عازلة.. وقد سبق لإسرائيل أن غزت لبنان.. ففى عام 1982 اجتاحت قواتها بيروت فى محاولة لوقف الغارات الفلسطينية على إسرائيل، ولكنها اضطرت إلى التراجع بسبب الغضب الداخلى والخارجى.. فبعد أن سيطرت القوات الإسرائيلية على محيط بيروت ارتكب حلفاؤها مذبحة ضد المدنيين الفلسطينيين فى مخيمى صبرا وشاتيلا للاجئين فى بيروت.
●●●
حتى تسعينيات القرن العشرين، كانت إسرائيل لا تزال تحتل شريطًا واسعًا من الأراضى اللبنانية على طول الحدود، وكان الجنرالات الإسرائيليون اليوم ضباطًا شبابًا حينها، خاضوا معارك دامية ضد حزب الله، الذى كان يزداد قوة، وفى عام 2000 انسحب إيهود باراك، رئيس وزراء إسرائيل ـ آنذاك ـ ورئيس أركان جيش الدفاع الإسرائيلى السابق، مما يسمى المنطقة الأمنية، واعتبر أن المواجهة لن تجعل إسرائيل أكثر أمنًا، بل تكلفها حياة عدد كبير من جنودها.. وفى عام 2006، أسفرت غارة شنها حزب الله عبر الحدود المتوترة عن مقتل وأسر جنود إسرائيليين، وبعد انتهاء الحرب، قال حسن نصرالله، إنه ما كان ليسمح بالغارة لو أدرك ما قد تفعله إسرائيل فى المقابل.
وقرر إيهود أولمرت، الذى كان ـ آنذاك ـ رئيسًا لوزراء إسرائيل، شن الحرب.. فى البداية كانت إسرائيل تأمل أن تعمل القوة الجوية على وقف الهجمات الصاروخية على إسرائيل، لكن عندما لم يحدث ذلك، انسحبت القوات البرية والدبابات، وخلفت وراءها كارثة بالنسبة للمدنيين اللبنانيين، ولكن حزب الله استمرّ فى إطلاق صواريخه على إسرائيل.. لذلك، يدرك قادة إسرائيل أن الحرب فى لبنان تشكل تحديًا عسكريًا أشد صعوبة من محاربة حماس فى غزة، إذ بدأ حزب الله فى وضع خططه منذ نهاية حرب عام 2006، وسيقاتل على أرضه فى جنوب لبنان، الذى يتمتع بتضاريس وعرة وجبلية، تناسب تكتيكات حرب العصابات.. وكما لم تتمكن إسرائيل من تدمير كل الأنفاق التى حفرتها حماس فى غزة، فقد أمضى حزب الله السنوات الثمانى عشرة الماضية، فى إعداد الأنفاق والمواقع فى الصخور، وفى المناطق الحدودية فى جنوب لبنان، وأصبح يمتلك ترسانة هائلة من الأسلحة زودته بها إيران.. وعلى النقيض من حماس فى غزة، يمكن تزويده بالمزيد من السلاح برًا عبر سوريا.
ويقدر مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، وهو مركز أبحاث فى واشنطن العاصمة، أن حزب الله لديه نحو ثلاثين ألف مقاتل نشط وما يصل إلى عشرين ألف جندى احتياط، معظمهم مدربون كوحدات صغيرة متنقلة من المشاة، ويتمتع العديد من رجاله بخبرة قتالية اكتسبوها فى سوريا.. وتقول معظم التقديرات، إن حزب الله لديه ما بين مائة وعشرين ألف ومائتى ألف صاروخ وقذيفة، تتراوح ما بين الأسلحة غير الموجهة إلى الأسلحة الأبعد مدى، التى يمكن أن تضرب المدن الإسرائيلية.. وقد تراهن إسرائيل على أن حزب الله لن يستخدم كل هذه الأسلحة، خوفًا من أن تفعل القوات الجوية الإسرائيلية بلبنان ما فعلته بغزة، حيث حولت مدنًا بأكملها إلى أنقاض وقتلت عشرات آلاف المدنيين، وربما لا تريد إيران أن يكشف حزب الله عن الأسلحة التى ترغب فى الاحتفاظ بها، كضمان ضد أى هجوم إسرائيلى على المنشآت النووية الإيرانية، وهذا رهان آخر، إذ إن حزب الله قد يضطر إلى استخدام المزيد من ترسانته قبل أن تدمرها إسرائيل.
ومع استمرار الحرب فى غزة، وارتفاع مستويات العنف فى الضفة الغربية المحتلة، فسوف تضطر إسرائيل أيضًا إلى التفكير فى فتح جبهة ثالثة إذا غزت لبنان، فلدى إسرائيل جنود مجهزون، لكن وحدات الاحتياط التى توفر القدر الأكبر من القوة القتالية لإسرائيل، تشعر بالفعل بالتوتر بعد عام من الحرب.. ولا يريد حلفاء إسرائيل، بقيادة الولايات المتحدة، أن تصعد إسرائيل الحرب مع حزب الله، ولا يريدون لها أن تغزو لبنان، ويصرون على أن الدبلوماسية وحدها هى القادرة على جعل الحدود آمنة، بما يكفى للسماح للمدنيين بالعودة إلى منازلهم، وتوصل مبعوث أمريكى إلى اتفاق، يستند جزئيًا إلى قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 1701 الذى أنهى حرب عام 2006.. لكن أيدى الدبلوماسيين مُقيدة فى غياب وقف إطلاق النار فى غزة، إذ يقول نصرالله إن حزب الله لن يتوقف عن مهاجمة إسرائيل إلا عندما تتوقف حرب غزة، وفى الوقت الحالى لا حماس ولا الإسرائيليون على استعداد لتقديم التنازلات اللازمة، التى من شأنها أن تؤدى إلى اتفاق لوقف إطلاق النار فى غزة، وتبادل الرهائن الإسرائيليين بالسجناء الفلسطينيين.
وفى حين تستمر الغارات الجوية الإسرائيلية فى قصف لبنان، يواجه المدنيون الذين يكافحون بالفعل لتوفير احتياجات أسرهم مع وجود اقتصاد متهالك، آلامًا مروعة وعدم يقين من المستقبل.. ويعبر الخوف خطوط المواجهة، إذ يدرك الإسرائيليون أن حزب الله قد يلحق بهم أضرارًا أشد مما لحقت بهم خلال العام الماضى.. وتعتقد إسرائيل أن الوقت قد حان لكى تكون أكثر جرأة، وأن تُبعد حزب الله عن حدودها، ولكنها تواجه عدوًا عنيدًا ومسلحًا وغاضبًا، وهذه هى الأزمة الأكثر خطورة خلال عام طويل من الحرب، وفى الوقت الحالى لا شىء يمنعها من الانزلاق نحو الأسوأ.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.