يا مجاور ألف مدنة.. ورزقك بالحلال
كلما سافرت إلى الريف فى بحرى أو قبلى يحاوطنى فؤاد حداد.. دون أسباب معروفة.. عم فؤاد لم يذهب إلى الريف حتى من باب الزيارة.. هو ابن القاهرة المدينة.. أصوله من الشام.. فكيف اكتشف كنز هذه الأرض البراح وأدمن بساطتها وعمقها؟
كنت فى زيارة عمل لقريتين بمحافظة الشرقية.. التى لم أزرها منذ سنوات طويلة.. البيوت شبه بعضها.. الأسمنت المسلح زحف على الأخضر كما هو الحال فى معظم قرانا.. لكن روحًا طيبة تشع من الشوارع فتغمرك براحة وإنسانية أكلتها القاهرة منذ سنوات.. الأجساد متعبة نعم.. الأرواح مجهدة نعم.. لكنها تمتلك حكمة الفلاح القديم الذى أدرك أن الخالق يدبر الأمر.. الفلاحون فى غيطان الأرز يشبهون حبات الأرز.. الأحمر الذهبى يلون الخدود والأخضر يغسل العيون ويرسم ابتسامة مرحبة بالضيف.. كرم الشراقوة ليس مجرد حكاية حفظها تراثنا الشعبى.. مدن الدلتا مزدحمة عن آخرها.. التوك توك وطلعة أول يوم مدارس أضافا زحامًا وخنقة على الشوارع غير الواسعة لكنها زحمة محببة بسيطة طيبة مثل أهل البلاد.
الريف كما هو بكل ما فيه من طيبات.. وإن كان الكل يشكو من التكنولوجيا وبلاوى النت التى دخلت بالأهل الطيبين إلى مساحات لا يودونها.. موسيقى التوك توك والمهرجانات سرقت من الريف بعض روحه وأعطته أجراسًا معدنية مزعجة لا يزال الكبار يقاومونها.. حكى لى أحد المشايخ أنهم ولسنوات يتشاكلون ويمتعضون ويتعاركون فى الدرا.. الحيطان بتدارى.. والزعلان بيتصافى بقعدة عرب.. الآن الخناق على مواقع التواصل والردح على مواقع التواصل والغسيل الوسخ أمام كل خلق الله.. لا يستوعب الرجل الأمر من كل جوانبه.. يعترف بأنهم يحتاجون النت مثل غيرهم فى تسويق منتجاتهم.. ماشى.. لكنه يريد أن يتخلص من وجع الدماغ والفضائح وينتظر أن تمنعه الحكومة.. يريد خدمات البريد والبنوك وكل التكنولوجيا لكنه يخاف من أمراضها على أهل بيته وعلى نفوس الناس التى لم تعد كما هى، على حد تعبيره.
كم أتمنى أن يذهب وزير السياحة ووزير الزراعة إلى تلك القرى.. السياحة الريفية لها مستقبل واعد فى مصر.. ما زلنا نملك مقومات غير محدودة لكننا نحتاج إلى تفكير مختلف وإجراءات صارمة لتجسير الخدمات التى تحتاجها تلك البلاد.. لا يمكن لسائح فى طريقه لتل بسطا مثلًا أن يذهب إلى هناك والمطاعم معدومة.. الفنادق غير موجودة.
أما الفلاحون فهم فى شديد الاحتياج لزيارة عاجلة من وزير الزراعة لحل مشكلات التقاوى والمبيدات وتغيرات المناخ.. الفلاح يعانى من فساد محاصيله وآخرها الطماطم بسبب هذه التغيرات.. مزارع النخيل تعانى من سوسة النخيل الحمراء.. وفشلت المحاولات والمبيدات الدارجة فى التعامل معها.. وزارة الرى من الواضح أن رجالها فى تلك الأماكن فى سبات تام.. لقد علمت أن مهرجان الخيول، الذى يقام هناك الآن ولمدة أسبوع تقريبًا، يحظى بأنواع نادرة من الخيول العربية التى يعشق السائح العربى والأجنبى مشاهدتها.. فلماذا يقتصر الأمر على ذلك الأسبوع؟
الشرقية محافظة غنية جدًا بالتاريخ والجغرافيا.. كل شبر فيها حكاية.. بوابة مصر الشرقية.. الأرض التى شهدت رحلة المسيح.. وطفولة موسى.. وكفاح أحمس ضد الهكسوس تملك من الأساطير الكثير ما يغرى بالاستثمار فى مجالات سياحية جديدة.. الوجود العربى بجناحيه الحجازى والمغربى وهو أمر ظاهر فى الزى واللغة والمعاملات.. يغرى أيضًا بثقافته المختلفة.. أعتقد أن هيئة تنشيط السياحة بالشرقية لديها خطط طموح لتطوير أدواتها، لكن الأمر يحتاج لتضافر وزارات مختلفة للعمل بشكل جماعى.
أن تصبح حياة أهلنا فى الريف أفضل ليس حلمًا بعيد المنال.. لأن أهم عنصر فى عملية البناء تلك وهو الإنسان موجود وثرى وعلى استعداد.. يحتاجنا جميعًا.. إعلاميين وأهل اقتصاد وفكر وثقافة.
أدهشنى لقاء بأحد كوادر كلية الزراعة بجامعة الزقازيق اسمه الدكتور محمد يوسف.. لقد تحدث الرجل عن أبحاث جديدة مهمة تخلق عشرات الفرص لزراعات جديدة ولزيادة إنتاجية زراعات تقليديه تخلق آلاف فرص العمل.. هذه الدراسات، وأغلبها عملى وجرى التأكد منه، يحتاج إلى يد الحكومة ومؤسساتها وبخاصة الصناعة والزراعة.. فى حاجة إلى شركات دواء لاستثمار تلك الأبحاث التى أُجريت على زراعات موجودة بالفعل.. سأضرب لك مثلًا.. معظم مخلفات شجر اللوف يتم التخلص منها فى حين أنه يمكن استخدامها فى علاج أمراض القلب.. يمكن استخدامها فى إنتاج أعلاف عالية القيمة.. هذه الأبحاث موجودة فلماذا لا نهتم بها؟.. الأسلاك بين الحكومة ومؤسسات البحث العلمى للأسف وبين المستثمرين من جهة ثالثة تكاد تكون مقطوعة.. ورغم ذلك.. الحلم قابل لأن يصبح واقعًا.. أهلنا فى ريف الدلتا وفى كل مكان من أرض مصر المحروسة ينتظرون لتستمر أغنية عمنا فؤاد حداد.. يا مجاور ألف مدنة ورزقك بالحلال.. حى على بلدنا.. حى على بلدنا.