حكايتى مع الكتابة «3»
تتميز مؤسسة روزاليوسف بوجودها فى مبنى صغير جدًا، مكون من دورين علويين تشغلهما مجلتا روزاليوسف وصباح الخير بالترتيب التصاعدى، والدور الأرضى توجد فيه المكتبة والمطابع. والمصعد الرابط بين الأدوار، أيضًا، صغير؛ ربما لا يتحمل أكثر من ثلاثة أفراد.
الدخول إلى مبنى روزاليوسف هو اختراق لعالم شديد الحميمية، والتفرد، كأنه كهف فى قلب جبل، عالم أسطورى غامض، لا يكشف عن نفسه بسهولة، ولا يمنح القادم ترحيبة مجانية، أو يدع له فرصة الإطالة والإسهاب أو حتى التردد، لكنه يأسرك فى شباكه بمساحته الصغيرة التى لا تزيد على طُرقة رمادية اللون عرضها متر تقريبًا، تصطف على جانبيها غرف ذات أبواب خشبية مطلية باللون الأبيض، تصميم الأبواب بسيط دون زخارف أو زجاج، أتردد وأنا أكتب هذا الوصف، لا يمكننى الجزم، ففى هذه اللحظة يخايلنى وأنا أحاول التذكر أنها كانت بيضاء اللون، وأن نصفها العلوى كان من الزجاج المصنفر، فى كل الأحوال كانت الأبواب الخشبية المغلقة معظم الوقت توحى بالتكتم والسرية، خاصة مع إضاءة الطُرقة الخافتة قليلًا من لمبة نيون واحدة طويلة فى السقف.
عالم هادئ لا يقطعه غير صوت خطوات عامل البوفيه، الذى يحتل مساحة صغيرة أول الطُرقة جهة اليسار، حاملًا صينية من الاستانلس عليها ماء وشاى وقهوة وعصير الليمون بالنعناع، الذى يكاد يكون الشراب الرسمى فى مجلة صباح الخير، وهو أحلى عصير ليمون بالنعناع شربته فى حياتى.. فى ذلك الوقت لم يكن النسكافيه بتطوراته من البلاك كوفى حتى الموكا قد انتشر فى حياتنا، ولم يكن «المج» قد أكد خصوصيتنا وهويتنا الفردية، كان الكل يشرب فى أكواب زجاجية قصيرة للشاى، وطويلة للماء وعصير الليمون، وفنجان روميو وجولييت هو وعاء تقديم القهوة.
بكل ذلك التقشف الحميمى والأكواب التى يتبادلها الجميع، كانت الصينية تتنقل بين الحجرات التى لا تزيد على ست موزعة على جانبى الطُرقة المستقيمة التى تنتهى فى المواجهة بغرفة رئيس التحرير، التى هى أصغر غرفة رئيس تحرير رأيتها فى حياتى، ولا أتذكر أننى دخلت هذه الغرفة أبدًا، لكننى كنت ألمح الأستاذ مفيد فوزى وهو يجلس على مكتبه- استمر أستاذ مفيد يشغل هذه الغرفة رغم أن الناقد الكبير الأستاذ رءوف توفيق كان وقتها رئيس التحرير- وقد عرفت صغر الغرفة من طريقة وضع المكتب بجوار الباب، وحجم المكتب الصغير الذى يسمح للعابر أن يرى الأستاذ مفيد وهو منحنٍ على أوراق «الدشت» يكتب أو يصحح، والأباجورة المضاءة تُسقط هالة من الضوء على الأوراق.
الآن أحاول التذكر، هل كانت لمكاتب صباح الخير شبابيك تطل على شارع قصر العينى أو الشوارع الجانبية؟.. لا أستطيع الجزم، لكن الانطباع المتبقى لدىّ هو الإضاءة الصناعية الخافتة داخل المجلة ليل نهار، رغم أنها مجلة نهارية بامتياز، لكن هالة الظلال والسكون تغلب على الصورة بما يليق بهدوء أبدى يخيم على المكان يقطعه صخب سيدات صباح الخير: نجلاء بدير، كاميليا عتريس، ناهد فريد، كريمة كمال، وأصواتهن الحيوية المبتهجة عند قدومهن، أو الغاضبة قليلًا عند مراجعة الأعمال.
عملت مع أستاذ محمد عبدالنور فى الباب الذى يحرره «أكتم السر»، الذى يقدم أخبارًا قصيرة، خفيفة، طريفة، تحمل كثيرًا من المعلومات وكأنها أسرار.
تميز الأستاذ محمد عبدالنور بود فى التعامل جعل كل من يدخل المجلة تلك الفترة، وأذكر منهم الزميلين العزيزين: محمد عبدالرحمن وزين إبراهيم، يتعاونون معه.
كما اتسم الأستاذ محمد، وهو ابن الناقد الكبير خليل عبدالنور وزوج السيدة هالة حشيش مذيعة النشرة الفرنسية، بالأناقة، وكان شديد الشبه بالممثل الأمريكى: بيل بولمان بطل فيلم: يوم الاستقلال ١٩٩٦.
كانت صباح الخير بيت الفن والفنانين، محرابًا لأساتذة الفن التشكيلى، وربما تكون تجربتى القصيرة فى صباح الخير هى ما وجهتنى للاهتمام بالفن التشكيلى، خاصة أحاديث الأستاذ: هبة عنايت، الذى كنت أحرص على السلام عليه، وكان الأستاذ طوال الوقت مشغولًا باسكتشاته.. تنتشر على مكتبه اسكتشات لرسوماته أو بروفات المجلة التى كان يعرضها عليه السكرتير الفنى الأستاذ أحمد عبدالنبى.
عدد كبير من الأساتذة الكُتّاب التشكيليين: إبراهيم عبدالملاك، محمد بغدادى، محمد طراوى..وغيرهم كان لهم فضل فتح آفاق الفن التشكيلى وفك بعض رموزه.
ذهبت لمجلة صباح الخير للتدرب فى إجازة السنة الدراسية الثانية، قبل أن أتخصص فى السنة الثالثة فى قسم الراديو والتليفزيون، وليس الصحافة. وظللت أتردد بصفة غير منتظمة على صباح الخير عامين قبل تخرجى واستقرارى فى العمل بمحطة راديو وتليفزيون العرب فى أبريل ١٩٩٨.
.. وللحكايات بقية