رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

صراع «الدجاجات المتهورة» فى جنوب لبنان!

بعد نحو العام على السابع من أكتوبر الماضى، يبدو السلام على الحدود بين إسرائيل ولبنان بعيدًا.. وقد يدهشك، أن مدى خطورة المواجهة مع حزب الله تزداد، بعدما انفجرت أجهزة استدعاء «بيجرز»، تستخدمها قوات حزب الله فى لبنان وسوريا فى وقت واحد تقريبًا يوم السابع عشر من سبتمبر، وفى اليوم التالى، انفجرت أجهزة اتصال لاسلكى «توكى ووكى» فى جميع أنحاء لبنان، مما أسفر عن مقتل وإصابة الآلاف من اللبنانيين، من عناصر الحزب والمدنيين.. ويفترض، على نطاق، واسع أن هذا من عمل إسرائيل.
وإذا كان الأمر كذلك، فإن الهجمات الإسرائيلية على الجنوب اللبنانى، فضلًا عن طبيعتها المسرحية، يمكن أن ينظر إليها على أنها محاولة من قبل الجيش الإسرائيلى وقوات الاستخبارات لإصلاح سمعتهما، التى تُركت فى حالة يرثى لها فى أعقاب هجوم حماس فى السابع من أكتوبر، وإخفاق تل أبيب فى تحقيق أى من الأهداف التى أعلنها رئيس الوزراء، بنيامين نتياهو، لعملية اجتياح قطاع غزة.
ويمكن أن تمثل الهجمات أيضًا، محاولة من جانب إسرائيل، لمعالجة مشكلة حدودها الشمالية، بعد إجلاء نحو ستين ألف شخص من البلدات الإسرائيلية، وتم أيضًا إخلاء القرى اللبنانية نتيجة للقتال.. وربما كان المقصود من الهجمات أن تكون إشارة إلى حزب الله، وداعمته إيران للتراجع، خصوصًا أنهم فى إسرائيل يقولون، إنه إذا لم يفهم حزب الله رسائل القوة الحالية، فسنمارس المزيد من هذه القوة.
والنتيجة أن الحكومة الإسرائيلية لن تتمكن من إعادة السكان إلى ديارهم، حيث تحولت بلدة كريات شمونة على سبيل المثال إلى مدينة أشباح، بعد نقل سكانها عبر إسرائيل، ويقول القلائل المتبقون منهم، إن الخوف من غزو حزب الله أدى إلى الهروب، وليس الصواريخ.. كما يؤكد الكاتب الأمريكى، برونوين مادوكس، الذى زار المنطقة مؤخرًا.. بل على العكس من ذلك، فإنهم يخاطرون بتصعيد الصراع المحتدم على الحدود الشمالية إلى حرب إقليمية، وقد عملت الولايات المتحدة والعديد من جيران إسرائيل بجد لتجنبها.
منذ السابع من أكتوبر، هناك انعدام للثقة فى قدرة الجيش والاستخبارات الإسرائيلية على حماية سكان الشمال، ويبدو احتمال عدم عودة هؤلاء السكان أبدًا، احتمالًا متزايدًا.. ويتحدث القادة العسكريون بحزن عن ضرورة ضربة سريعة عبر الحدود، لتحقيق المزيد من الأمن.. إلا أن المحللين يتفقون على أنه من الصعب أن نرى كيف ستعود ثقة السكان دون مثل هذا الإجراء.. لكن ذلك سيكون تصعيدًا للصراع، فى نهاية المطاف، مع إيران وكذلك حزب الله.. وهذا على وجه التحديد ما لا تريد الولايات المتحدة وحلفاء إسرائيل الآخرون رؤيته.. قد يكون هناك انتقام من حزب الله وحلفائه على الضربات، لكن شكله غير واضح.. حزب الله، أكثر من حماس، يعمل بشكل وثيق مع إيران وسوف يسترشد بها، ومستودعاته عامرة بالأسلحة، منها ما خرج للعلن، ومنها ما يمكن أن يكون مفاجأة لإسرائيل.. وقد يكون من الصعب السيطرة على حرب أوسع، فى ظل تحقيق الحوثيين فى اليمن، نجاحًا كبيرًا فى تعطيل الشحن عبر قناة السويس والبحر الأحمر، وقد ضربوا عمق إسرائيل مرتين بالصواريخ والطائرات المسيرة.. لكن المؤشرات تشير إلى أن إيران غير راغبة فى المشاركة فى صراع أكثر ضراوة، وقد يكون من الصعب السيطرة على حرب أوسع نطاقًا، من شأنها أن تعوق جهود الرئيس الإيرانى الجديد لتأمين تخفيف العقوبات المفروضة على طهران.
ومن المدهش أن نرى حالة الانقسام المرير للرأى العام الإسرائيلى، بين أولئك الذين يريدون إعادة الرهائن إلى الوطن كأولوية، وأولئك الذين يُفضلون ملاحقة حماس حتى على حساب حياة الرهائن.. وقد أدى تصاعد العنف فى الضفة الغربية، بما فى ذلك العنف الذى يرتكبه المستوطنون الإسرائيليون، إلى مقتل أكثر من ستمائة فلسطينى هناك، منذ السابع من أكتوبر، ويهدد بتفاقم الحالة فى جبهة أخرى من الصراع.. وفى الوقت نفسه، تتعرض إسرائيل لضغوط دولية متزايدة بسبب أفعالها فى غزة.. وعند الاجتماع والتحدث مع الإسرائيليين والفلسطينيين، يبدو السلام بعيد المنال كما كان دائمًا.. ولا يزال المسار المحتمل لعلاقات إقليمية أكثر استقرارًا، من خلال التطبيع مع المملكة العربية السعودية، والعلاقات الدبلوماسية القائمة مع خمس دول عربية، بعيد المنال، بينما يستمر القتال فى غزة.. ومع اقتراب الذكرى الأولى لهجمات السابع من أكتوبر، تفتقر إسرائيل إلى استراتيجية للسلام، وعندها، يجب على إسرائيل رفض نتنياهو، والبدء فى إصلاح جذرى لتضميد الصدمة.
●●●
لقد غير الصراع فى غزة قواعد الاشتباك بين إسرائيل وحزب الله.. قبل السابع من أكتوبر، التزم كلاهما بقانون فعلى للنزاعات كان قائمًا منذ حربهما عام 2006.. وقصرت القواعد غير المكتوبة، نطاق هجمات حزب الله على الأراضى التى تسيطر عليها إسرائيل، مثل مزارع شبعا الأراضى التى يزعم أنها متنازع عليها من حيث ملكية الدولة، ولكن الحكومة فى بيروت تقول إنها لبنانية بدلًا من المناطق داخل إسرائيل نفسها.. ولكن على مدى الأشهر التسعة الماضية، أصبحت هذه القواعد مرنة.. دخل حزب الله معمعة الصراع فى غزة، من خلال إطلاق الصواريخ على الأراضى التى تسيطر عليها إسرائيل منذ أكتوبر.. وسرعان ما توسعت مشاركتها لتشمل ضربات أعمق داخل إسرائيل.. وردت الأخيرة بضرب أهداف عسكرية لحزب الله، فى البداية، بالقرب من الحدود الإسرائيلية اللبنانية، ولكنها وسعت لاحقًا نطاق هجماتها لتشمل مساحة أكبر من جنوب لبنان ووادى البقاع.. وفى يناير، شنت إسرائيل غارة فى ضاحية بيروت الجنوبية التى يهيمن عليها حزب الله، استهدفت وقتلت القيادى بحماس، صالح العرورى.. ومنذ ذلك الحين، تصاعد التوتر بين حزب الله وإسرائيل، مما أدى فى كثير من الأحيان، إلى تكهنات إعلامية مكثفة بأن الحرب الشاملة بين الجانبين كانت وشيكة.. فى الأسابيع الأخيرة، انخرطت إسرائيل وحزب الله فى حرب نفسية ضد بعضهما البعض، حيث أصدر كل جانب علنًا، أو ألمح إلى معلومات استخباراتية تم جمعها عن الآخر.
نُقل عن يوسى كوهين، الرئيس السابق للموساد، قوله، «نحن نعرف بالضبط مكان الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، ويمكننا إخراجه فى أى لحظة»!!.. وفى اليوم التالى، نشر حزب الله شريط فيديو صورته إحدى طائراته دون طيار، يظهر مواقع حساسة داخل إسرائيل، مثل ميناء حيفا، فى حين أصدر جيش الدفاع الإسرائيلى بيانًا قال فيه إنه وافق على خطط لعملية اجتياح لبنانية.. وفى اليوم التالى، ألقى نصر الله خطابًا متلفزًا، هدد خلاله قبرص للمرة الأولى، بناء على تعاونها العسكرى مع إسرائيل.. وفى الوقت نفسه، قال رئيس الوزراء الإسرائيلى، بنيامين نتنياهو، لوسائل الإعلام المحلية، إنه مستعد لإرسال قوات إسرائيلية إلى الحدود اللبنانية، بمجرد انتهاء المرحلة الحالية من حرب غزة.. وقال، «يمكننا القتال على عدة جبهات، ونحن مستعدون للقيام بذلك».. لكن التغيير فى قواعد الاشتباك، والخطاب المُهدد بشكل متزايد، لا يُترجَم تلقائيًا إلى تصعيد على الأرض.. بعد كل شىء، الحرب النفسية ليست بالضرورة علامة على أن الحرب الشاملة قادمة، ولكن يمكن أيضًا أن تكون تعويضًا عن غيابها.
ويدرك الجانبان تمامًا، أنه لا إسرائيل ولا حزب الله سيستفيدان من مثل هذا السيناريو.. يعرف حزب الله أنه لا توجد رغبة شعبية فى لبنان للحرب مع إسرائيل، وأنه إذا اندلعت مثل هذه الحرب، فمن المرجح أن تُجر الجماعات الأخرى المدعومة من إيران وكذلك إيران نفسها إلى القتال، وهو أمر تريد إيران تجنبه.. ولن ترغب إسرائيل فى الدخول فى حرب مع حزب الله، الذى يعتقد أنه أكثر الجهات الفاعلة غير الحكومية تسليحًا فى العالم.. وفى حين أن أهدافها المعلنة فى غزة لم تتحقق، وعلى الرغم مما يقوله نتنياهو لوسائل الإعلام، فهو يعلم أن إسرائيل غير قادرة على التعامل مع معركة ذات شقين بمفردها.. ومن المرجح أن تستمر إسرائيل وحزب الله فى لعب «لعبة الدجاجات المتهورة» على نحو متزايد.
الولايات المتحدة بدورها، لا ترغب فى الانجرار إلى دعم إسرائيل، فى ما قد يصبح مستنقعًا جديدًا فى الشرق الأوسط، خصوصًا مع اقتراب الانتخابات الرئاسية الأمريكية فى نوفمبر القادم.. وهذا يفسر، لماذا تواصل الولايات المتحدة محادثات خفض التصعيد مع إسرائيل، وبشكل غير مباشر، مع حزب الله، من خلال الدفع بعاموس هوكستين، نائب مساعد الرئيس الأمريكى، إلى لبنان، للالتقاء بحليف حزب الله، نبيه برى، وهو اجتماع عُقِد رسميًا بصفته رئيس البرلمان اللبناني.
إن قيام كل من حزب الله وإسرائيل بالكشف العلنى فى نفس اليوم، عن هذا اللقاء، ليس من قبيل الصدفة.. ومن المرجح أن تستمر إسرائيل وحزب الله فى ممارسة اللعبة المتهورة على نحو متزايد، فى حين يستخدمان الحرب النفسية، كمحاولة للردع المتبادل، ورسالة تحدٍ مفترضة للولايات المتحدة.. يريد نتنياهو تأكيد تصميمه العسكرى والسياسى على القضاء على حماس أمام الإسرائيليين، الذين يشعرون بالإحباط المتزايد لعدم إطلاق سراح بعض الرهائن.. ويريد أن يراه الجمهور الإسرائيلى كزعيم قوى، يتبع استراتيجية إسرائيل أولًا، وليس الرضوخ للضغوط الأمريكية بدافع من مصالح الرئيس جو بايدن.. ويريد حزب الله الحفاظ على الشعور بالمصداقية، كعضو فى محور المقاومة، المدعوم من إيران والمعادى لإسرائيل والمعادى للولايات المتحدة، فى نظر دائرة انتخابية تتحمل تكلفة متزايدة من حيث الخسائر فى الأرواح والممتلكات وسبل العيش.. من المؤكد، أن المواجهة بين إسرائيل وحزب الله ستستمر طالما استمر الصراع فى غزة.. وكلما مر الوقت، زاد احتمال استمرار كلا الجانبين فى دفع الحدود، وإعادة كتابة قواعد الاشتباك الخاصة بهما، مما يدل مرة أخرى على أن مفاهيم الخطوط الحمراء بينهما، أصبحت بلا معنى على الإطلاق.
●●●
وإذا كانت إسرائيل تراهن على أن حزب الله سيتراجع، فإن الضربات الإسرائيلية المكثفة على لبنان، وإن كانت تظهر مدى تصميمها على كسر عزيمة حزب الله وإجباره على وقف هجماته عبر الحدود على إسرائيل، إلا أنها تكشف أيضًا عن مدى بُعد تل أبيب عن تحقيق هذا الهدف، وعن مدى قرب الجانبين من حرب شاملة، بدأت نذرها تلوح فى الأفق، بعد التصعيد الضخم على الحدود بين الجانبين، وفى العمق منهما، والذى أدى مؤخرًا إلى استشهاد ما يقارب الأربعمائة لبنانى فى يوم واحد، بخلاف آلاف المصابين، فى نحو ألف وثلاثمائة هجمة إسرائيلية على أماكن متفرقة من لبنان، ووصول ضربات حزب الله إلى حيفا، وإصابتها لأهداف حيوية هناك.
كان المسئولون الإسرائيليون يأملون، من خلال تصعيد هجماتهم الأسبوع الماضى بضرب أدوات الاتصالات الخاصة بحزب الله، وقتل العديد من القادة الرئيسيين، وكذلك المدنيين اللبنانيين أنهم سيزعجون الحزب ويقنعونه بالانسحاب من الحدود الإسرائيلية اللبنانية.. وكان هؤلاء المسئولون يعتقدون أنهم إذا زادوا من تكلفة حملة حزب الله، فسيكون من الأسهل على الدبلوماسيين الأجانب، مثل عاموس هوكستين، المبعوث الأمريكى، حمل الحزب على التنحى.. إلا أنه فى الوقت الحالى، حدث العكس.. وعلى الرغم من أيام من الهجمات التصعيدية من إسرائيل، تعهد حزب الله بعدم الرضوخ تحت الضغط.. وقال قادته إنهم سيواصلون هجماتهم، حتى يتم الاتفاق على وقف إطلاق النار فى غزة بين إسرائيل وحماس.. وقد أطلق حزب الله بالفعل عشرات الصواريخ على أهداف على بعد حوالى ثلاثين ميلًا داخل إسرائيل، وهى أعمق ضرباته منذ بداية الحرب فى أكتوبر، والتى حذر أحد كبار مسئوليه من أنها «مجرد بداية».. حتى أن حسن نصر الله، زعيم حزب الله، تحدى إسرائيل وغزو جنوب لبنان بريًا، وهى الخطوة التى قد تؤدى بشكل معقول، إلى مأزق مطول لتل أبيب، مثل انتصار إسرائيلى لن يتحقق.
ولا يبدو أن هذا الغزو وشيك، حتى فى الوقت الذى كثفت فيه إسرائيل ضرباتها وحذرت المدنيين، بضرورة إخلائهم القرى التى قالت إن حزب الله يُخزن فيها أسلحة.. وقال المتحدث باسم الجيش الإسرائيلى، دانيال هاجارى، إن التركيز الحالى ينصب على حملة جوية، وليس عملية برية.. ولكن، إذا كانت إسرائيل تفتقر إلى أشكال أخرى من الضغط العسكرى، فإن الغزو سيكون أحد الخيارات العسكرية القليلة المتبقية لقيادة البلاد.. ومع ذلك، فإن الجيش الإسرائيلى منهك بالفعل، ولا يزال يقاتل فى غزة، بينما يكثف عملياته فى الضفة الغربية التى تحتلها إسرائيل، حيث يشن غارات منتظمة على المدن الفلسطينية.. مما دفع المحللين العسكريين إلى مناقشة جدوى محاولة إسرائيل خوض ثلاثة صراعات برية فى وقت واحد، خصوصًا بالنظر إلى التحديات التى يفرضها غزو لبنان.
بعد أحد عشر شهرًا من القتال، لم يهزم الجيش الإسرائيلى حماس بالكامل فى غزة.. ويسيطر حزب الله على منطقة جبلية أكبر وأكثر مما تسيطر عليه حماس فى غزة.. كما تعتبر الميليشيا اللبنانية أن لديها جيشًا أفضل تدريبًا من حماس، بالإضافة إلى تحصينات أكثر تطورًا.. لذلك، فإنه لغزو لبنان، سيحتاج الجيش الإسرائيلى، على الأرجح، إلى استدعاء الآلاف من جنود الاحتياط، وكثير منهم مرهقون بالفعل من الخدمة فى غزة خلال العام الماضى، كما يؤكد باتريك كينجسلى، مدير مكتب صحيفة «نيويورك تايمز» فى القدس.. فى وقت تؤكد فيه واشنطن أنها تدعم حق إسرائيل فى الدفاع عن نفسها، لكنها تعمل على احتواء الأزمة المتفجرة بين إسرائيل وحزب الله، حتى لا يتسع نطاقها، وهى التى لا تريد أن تنزلق إلى حرب فى الشرق الأوسط، مؤكدة أن «أكبر عدو لإسرائيل، هى إسرائيل نفسها، وأن أصعب تحدٍ أمامها، هو الدفاع عن إسرائيل ضد نفسها».. فما الحل إذن؟.
●●●
خلصت دراسة، قام بها الباحث عيران عتصيون، رئيس تخطيط السياسات فى وزارة الخارجية الإسرائيلية، ونائب رئيس مجلس الأمن القومى فى مكتب رئيس الوزراء، إلى أن أقل بقليل من نصف الإسرائيليين كانوا فى حالة اكتئاب، وأقل بقليل من الثلث تظهر عليهم علامات الإجهاد اللاحق لصدمة هجوم حماس فى السابع من أكتوبر الماضى، وقد أعاقت تصرفات حكومة نتنياهو، قدرة الإسرائيليين على استعادة اتجاههم الصحيح منذ الهجمات.. ومع اقتراب البلاد من الذكرى الأولى لهذه الهجمات، من الواضح، بشكل متزايد، أنه فقط مع وجود حكومة جديدة وإصلاحات كبيرة وفترة من مراجعة الذات، يمكن لإسرائيل أن تأمل فى تحويل «صدمتها الوطنية» إلى «ولادة وطنية» جديدة.. لقد هز هجوم حماس الإسرائيليين حتى النخاع.. لكن الإجراءات الداخلية لحكومة بنيامين نتنياهو، أعاقت أيضًا قدرة الإسرائيليين على استعادة اتجاهاتهم.
الأكثر احتمالًا، هو أن الوضع الراهن، حرب الاستنزاف فى غزة وعلى الحدود الشمالية مع لبنان، مستمر.. وهو ما لم يكن من الممكن تصوره قبل بضعة أشهر، والآن، هو «الوضع الطبيعى الجديد»، بسبب تصميم نتنياهو على الحفاظ على منصبه كرئيس للوزراء، وحاجته إلى وقف الإجراءات الجنائية القائمة ضده، بتهمة الرشوة والاحتيال وخيانة الأمانة، وتجنب التحقيقات فى مخالفات أخرى.. بالإضافة إلى أنه كان من شأن رئيس أمريكى أقوى من جو بايدن، أن يغلق الجبهات النشطة فى غزة ولبنان.. والآن يتطلع نتنياهو إلى إمكانية تشكيل إدارة أمريكية ثانية لدونالد ترامب، من المرجح أن تخفف الضغط على سلوك حكومته فى غزة، مع أن التعامل مع حرب غزة على أنه وضع طبيعى، سيأتى بعواقب وخيمة على إسرائيل، وقد تخضع لعملية «جنوب إفريقيا»، مع المزيد من العقوبات والمقاطعات وسحب الاستثمارات من الدول الإقليمية والأوروبية، والدول ذات التفكير المماثل.. وإذا فازت كامالا هاريس برئاسة الولايات المتحدة، فقد تنضم الولايات المتحدة تدريجيًا إلى هذه الموجة.. وقد بدأت واشنطن بالفعل فى فرض عقوبات على الأفراد، والمنظمات اليمينية المتطرفة المرتبطة بالمستوطنين فى الضفة الغربية.. وستواصل المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية، بعد تدخلاتهما هذا العام، فرض قيود على الحكومة الإسرائيلية ككل، وعلى «الأشخاص ذوى المسئولية»، بمن فيهم نتنياهو ويوآف جالانت والشخصيات العسكرية، وغيرهم.
الاحتمال الآخر، هو أن الصراع يمتد إلى حرب إقليمية كاملة، مما يؤدى إلى مستويات غير مسبوقة من الدمار فى إسرائيل ولبنان، وربما إيران.. فى الوقت الحالى، يبدو أن الولايات المتحدة منعت تبادل الهجمات الصاروخية الأخير بين إسرائيل وحزب الله من التصعيد إلى حرب إقليمية.. لكن، خطر نشوب صراع إقليمى أوسع نطاقًا لا يزال قائمًا.. وإذا تحقق ذلك، فسيكون على نطاق، ستكافح أمريكا من أجل اختصاره وخلق ما يشبه النصر لإسرائيل.. وسوف يُلقى بظلاله على أى ساحة عالمية أخرى، بما فى ذلك أوكرانيا والانتخابات الأمريكية، وسترتفع أسعار النفط، وستخضع الحركة البحرية والجوية لمزيد من القيود فى جميع أنحاء المنطقة.. ومن شأن هذا الصراع أيضًا، أن يخلق فرصة استراتيجية لروسيا، لإغراق سياسات الولايات المتحدة فى كل من الشرق الأوسط وأوروبا الشرقية.. سوف تتدفق حركات الجهاد العالمية والمحلية المناصرة إلى لبنان، عبر حدوده التى يسهل اختراقها مع سوريا.. لذلك ستبذل الولايات المتحدة كل جهد ممكن، لمنع مثل هذا الصراع والحد منه إذا اندلع بالفعل.
ربما يكون السيناريو الأقل احتمالًا هو «صفقة ضخمة»، تقودها الولايات المتحدة، تجبر بموجبها إسرائيل وحماس وحزب الله وإيران على الدخول فى صفقة كبرى، ووضع حد للحرب فى غزة، والجبهة الثانية فى لبنان وجميع الجبهات الأخرى التى تقودها إيران فى سوريا والعراق واليمن وأماكن أخرى.. وهذا من شأنه أن يمهد الطريق لاتفاق تطبيع أمريكى سعودى إسرائيلى، وبالتالى لإحياء المحادثات الإسرائيلية الفلسطينية.. ولكى تكون هناك أى فرصة لمثل هذه «الصفقة الضخمة»، فإن الشروط الضرورية، وإن لم تكن كافية، هى تغيير الحكومة فى إسرائيل والإطاحة بنتنياهو.. وبما أنه ليس من الضرورى إجراء انتخابات عامة قبل عام 2026، فإن الطريق إلى هذه النتيجة صعب. 
وحتى الآن، لم تُحدث الضغوط من الولايات المتحدة ودول غربية أخرى فرقًا يُذكر، لكن نتنياهو لا يزال لا يحظى بشعبية كبيرة داخل إسرائيل.. وفى استطلاع للرأى، أجرى فى يوليو الماضى، قال 72% من الإسرائيليين، إنه على نتنياهو الاستقالة بسبب إخفاقاته التى أدت إلى السابع من أكتوبر.. ويواجه الائتلاف الحاكم انتقادات متزايدة بشأن غزة ولبنان، وعجزه عن تحقيق أهدافه الحربية.. وقد تطيح به، قضية التجنيد العسكرى للطائفة الأرثوذكسية المتطرفة التى طال أمدها، أو مناقشة ميزانية 2025 التى تلوح فى الأفق، والتى سيكون من الصعب الموافقة عليها، إذ ستتعرض ميزانية الدولة لضغوط هائلة، حيث يخضع كل من الجنوب والشمال لعملية إعادة الإعمار، وتبتلع ميزانية الدفاع عشرات المليارات من الدولارات من التمويل الإضافى، لا يزال الاستثمار الأجنبى ينتظرها.. ومهما كانت تشكيلة الحكومة المقبلة، يجب أن تحول مسار إسرائيل الاستراتيجى بشكل جذرى، للأسباب المذكورة أعلاه، ولإعداد البلاد لإصلاحات كبرى، فى ظل غالبية إسرائيلية حريصة على طى صفحة الماضى، وبدء عملية التعافى وإعادة الإعمار.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.