انفجارات الخيال العلمى فى لبنان
فجأة.. تحولت أجهزة الاتصال «بيجر»، التى يمتلكها عناصر حزب الله إلى قنبلة فى أيدى أعضائه، وتسببت فى سقوط المئات من أفراده وبعض المدنيين بين قتيل وجريح، بعد تفجيرها عن بُعد، وسط تساؤلات عن سبب اللجوء لاستخدام هذا الجهاز تحديدًا وكيفية اختراقه.. وهو الجهاز الذى يعتمد عليه حزب الله بشكل كبير، فى التواصل بين أعضائه، بسبب قِدم التكنولوجيا الخاصة به، ما يجعل عملية اختراقه من جانب أجهزة المراقبة والتجسس الإسرائيلية، صعبة، ويلجأ الحزب لاستخدامه للتهرب من قدرات إسرائيل التكنولوجية المتقدمة فى المراقبة، خصوصًا فى أعقاب مقتل عدد من قادة الحزب فى غارات جوية إسرائيلية، لعبت أجهزة الاتصال دور البطل فى تحديد أماكن هؤلاء القادة.. ليصبح التفجير الجديد، أكبر اختراق أمنى تعرض له حزب الله منذ قرابة عام.
ولم يكد الحزب يلملم شتات نفسه، ومحاولة الوصول إلى أسباب وكيفية ما حدث، مع هذا الجهاز الإلكترونى الصغير، الذى يستخدم فى الاتصال، باستخدامه تبادل الرسائل القصيرة والأرقام، ويتميز بسهولة حمله، إلا ووقع الحدث التالى، فى اليوم الثانى.. انفجار أجهزة اللا سلكى الـ«ووكى توكى» التى فى حوزة أعضاء الحزب، موقِعة مزيدًا من القتلى والجرحى بين صفوفهم، قبل أن يتخذ الحزب احتياطات من أى نوع، للحيلولة دون اختراق باقى وسائل اتصاله، وهو الذى يعرف أن تكنولوجيا المراقبة الإلكترونية، تلعب دورًا حيويًا فى هذه الهجمات، وقال الجيش الإسرائيلى، فى وقت سابق، إن لديه كاميرات مراقبة أمنية وأنظمة استشعار عن بُعد، فى المناطق التى ينشط فيها حزب الله، وإنه يرسل بانتظام طائرات استطلاع مُسيرة عبر الحدود للتجسس على خصمه.. ويعتبر التنصت الإلكترونى الذى تقوم به إسرائيل، مثل اختراق الهواتف المحمولة وأجهزة الكمبيوتر، من بين أكثر العمليات تطورًا فى العالم.. ومنذ شهرين، قال الجيش الإسرائيلي، إن عملياته «تعتمد على جمع معلومات استخباراتية شاملة ودقيقة عن قوات حزب الله وقادته وبنيته التحتية».
وكعادتها الدائمة، حيال أى تجاوزات ترتكبها إسرائيل فى اختراق القانون الدولى، والإنسانى منه بالذات، نفى وزير الخارجية الأمريكى، أنتونى بلينكن، تورط الولايات المتحدة أو علمها المسبق بالهجوم المنسوب إلى إسرائيل، الذى تسبب فى انفجار آلاف من أجهزة الاتصال التى يستخدمها أعضاء حزب الله اللبنانى، وقال فى مؤتمر صحفى من القاهرة، «لم تكن الولايات المتحدة تعلم بهذه الحوادث، ولم تكن متورطة فيها.. ما زلنا نجمع المعلومات والحقائق.. كنا واضحين للغاية، ولا نزال، بشأن أهمية تجنب جميع الأطراف لأى خطوات من شأنها تصعيد الصراع الذى نحاول حله فى غزة».. فى حين أكد موقع «أكسيوس» الأمريكى، أن وزير الدفاع الإسرائيلى، يوآف جالانت، اتصل بنظيره الأمريكى، لويد أوستن، قبل دقائق من الهجوم، ليقول له إن إسرائيل على وشك تنفيذ عملية فى لبنان، لكنه لم يذكر تفاصيل، «كانت محاولة لإبلاغ واشنطن بأن شيئًا ما سيحدث».
لقد أعادت حوادث التفجير المتزامنة لأجهزة الاتصال، التى استهدفت حامليها من عناصر حزب الله فى لبنان، إلى الواجهة، هذه الوسيلة البسيطة المزودة بشاشة صغيرة الحجم، تسمح بقراءة الرسائل أو إظهار رقم مُرسِلها، ويستخدمها عناصر الحزب، لبث رسائل صغيرة مشفرة، حتى فى ظل انقطاع الكهرباء والإنترنت، شريطة توافر أبراج بث خاصة.. كما أنها ترفع من مستوى الأمان، لعدم اتصالها بالإنترنت، ما يجنب حاملها أى اختراق سيبرانى أو تجسس.. ومع ذلك، تُعيد الضربة الأحدث إلى الواجهة، الحديث عن شبكة اتصالات حزب الله اللبنانى، التى يعتبرها جزءًا أساسيًا من منظومة حمايته، لا يقل أهمية عن سلاحه.
تقول التقارير، إن حزب الله بدأ بناء منظومة اتصالاته بعدد من المناطق اللبنانية أوائل التسعينيات من القرن الماضى، أى عقب انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية.. هذه الشبكة تنتشر فى الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية لبيروت، حيث المراكز اللوجستية الأساسية للحزب.. وفى هذه المناطق، مد الحزب شبكة سلكية تعمل تحت الأرض، وأخرى لا سلكية، عبارة عن خطوط معلقة على أعمدة كهرباء، فى الأماكن الأخرى، مثل الشمال وبعض مناطق جبل لبنان.. هذه الشبكة تعتمد على تقنيات متقدمة للتشفير وحماية المعلومات، للحفاظ على سرية الاتصالات، وهى ليست خاضعة لمراقبة الدولة، ومنفصلة عن شبكات الاتصالات اللبنانية الحكومية، ما يجعلها بعيدة عن أى رقابة حكومية، ويتواصل عبرها معظم مسئولى وعناصر الحزب، ومعظم المسئولين العسكريين والسياسيين، والعناصر والأفراد.. وفى حرب يوليو 2006، تعرضت الشبكة لأضرار جسيمة.. وبينما تفاخر حزب الله بأن شبكة اتصالاته كانت سببًا فى نجاح عملياته ضد إسرائيل، فإن جزءًا كبيرًا منها تعرض لأضرار جسمية جراء القصف الإسرائيلى، إلا أن حزب الله استفاد من الدعم التقنى الإيرانى فى إعادة بناء ومد هذه الشبكة بسرعة.. فى 2008، حاولت الحكومة اللبنانية تفكيك شبكة اتصالات الحزب أو الحد من نفوذها، باعتبارها انتهاكًا للسيادة اللبنانية، ما تسبب فى تصعيد عسكرى بين الجانبين، عُرف بأحداث السابع من مايو.. وبالرغم من ذلك، فإن الحكومة اللبنانية الآن تعتبر الهجوم الذى طال أجهزة اتصالات الحزب، اعتداء على السيادة اللبنانية، وليس على حزب الله فقط.
ويتساءل الكثيرون: لماذا الآن؟.. هل هناك أهمية أكبر لتوقيت الهجوم؟
كشف تقرير لموقع «أكسيوس»، أن حزب الله كان يحمل شكوكًا بشأن أجهزة الاتصال اللا سلكى التى يستخدمها أعضاؤه، قبل أيام من انفجار الآلاف منها بشكل متزامن فى لبنان، بعد أن أثار اثنان من عملاء حزب الله الشكوك حول هذه الأجهزة فى الأيام الأخيرة.. وأن قادة إسرائيل عجّلوا بشن الهجوم، بعد أن انتابهم القلق من احتمال انكشاف زرع المتفجرات فى أجهزة بيجر، خصوصًا أن مصادر أكدت أن جهاز الاستخبارات الإسرائيلى «الموساد» زرع مادة متفجرة فى الآلاف من أجهزة «بيجر»، قبل وصولها إلى أيادى أعضاء حزب الله.. حينها، «قرر رئيس الوزراء الإسرائيلى، بنيامين نتنياهو، وكبار وزرائه وقادة الجيش وأجهزة الاستخبارات، استخدام النظام الآن بدلًا من المخاطرة باكتشافه من قِبل حزب الله»..
وكانت تقارير صحفية تحدثت عن مخاوف إسرائيلية من انكشاف أمر الـ«بيجر»، التى قالت شركة «جولد أبولو» التايوانية، أن أجهزة الاتصال التى انفجرت بشكل متزامن بأيدى عناصر من حزب الله، من صنع شريك مجرى، «هذه ليست منتجاتنا من البداية إلى النهاية».. وأن أجهزة النداء التى طلبها الحزب من «جولد أبولو»، تمت زراعة متقجرات بداخلها، فى وقت ما قبل وصول الأجهزة لبنان، ما يعنى، أن إسرائيل «عبثت بهذه الأجهزة قبل وصولها لبنان، من خلال زرع كمية صغيرة من المتفجرات بداخل كل منها».. هذه واحدة.
أما الثانية، فإن أحد الدوافع وراء هجوم أجهزة النداء، كما كان الحال مع اغتيال القيادى السياسى فى حماس، إسماعيل هنية، فى طهران أواخر يوليو الماضى، هى أن الموساد مصمم على إعادة بناء صورته.. قبل هجوم السابع من أكتوبر، كانت المخابرات الإسرائيلية تتمتع بسمعة شبه خارقة، وغالبًا ما يُعاد سرد إنجازاتها الأسطورية فى أفلام الجاسوسية الشهيرة، مثل فيلم «ميونيخ» لستيفن سبيلبرج، وسلسلة «فوضى» الشهيرة على منصة نتفليكس.. حتى الآن، قُتل نائب رئيس المكتب السياسى لحماس صالح العارورى فى بيروت فى يناير، وقائد رفيع فى حزب الله، فؤاد شكر، فى بيروت يوليو الماضى، بالإضافة إلى هنية بعد ذلك بوقت قصير.
إلى جانب تحسين صورة الموساد، كان لهذه العمليات السرية الإسرائيلية تأثير عملى كبير.. فقد تم تدمير القيادة والسيطرة الخاصة بحزب الله، ما تسبب فى مشاكل كبيرة فى اتصالاته على المدى القصير، بالإضافة إلى ذلك، أصيب مئات من مقاتلى حزب الله فى يوم، ومن بينهم بعض الذين سيتعرضون لإعاقات طويلة الأمد.. ومن المتوقع أن تأخذ الميليشيات المدعومة من إيران، فى اليمن والعراق وسوريا وغيرها، احتياطات أكبر الآن.. يمكن أن يؤدى هذا إلى تغيير طريقة تواصل هذه الجماعات مع بعضها البعض، ما قد يؤثر بشكل مباشر على التنسيق ويعيق قدرتها على شن هجماتها.
●●●
لم يكن حزب الله بحاجة إلى المزيد من الأدلة، على مدى اختراق إسرائيل شبكة اتصالاته، وقدراتها فى الوصول إلى قادته، لكنه حصل على دليل جديد، مع الهجوم غير المسبوق على أجهزة بيجر وأجهزة اللا سلكى، التى تقبع فى جيوب الآلاف من عناصره.. هذا التفجير عن بُعد، لم يعطل فقط عنصرًا رئيسيًا من اتصالات الحزب، بل كشف عن هوية الأعضاء، وقتل وجرح العديد منهم و«أذلهم»، حسب تقرير لموقع «إيه بى سى نيوز» الأمريكى.. ومع أن إسرائيل لم تتبنَّ مسئولية الهجوم، لكنه جاء بعد اغتيال إسرائيل للقائد العسكرى الرفيع فى حزب الله، فؤاد شكر، فى بيروت أواخر يوليو، واغتيال مفترض لقائد حماس إسماعيل هنية فى طهران بعد ساعات فقط.. وهذه المرة، يبدو أن الإسرائيليين تمكنوا من اعتراض وتفجير شحنة من أجهزة النداء التى اشتراها حزب الله بهدف تجنب مراقبة الاتصالات الإسرائيلية عبر الهواتف المحمولة، أو كما قال ماثيو ليفيت، مدير برنامج مكافحة الإرهاب والاستخبارات فى معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، أن حزب الله كان يستثمر فى أجهزة النداء كوسيلة منخفضة التقنية لتفادى المراقبة الإسرائيلية.. والآن يبدو أن الإسرائيليين تمكنوا من اختراق سلسلة التوريد الخاصة بهذه الأجهزة، وجعلها تنفجر بشكل متزامن، «كان هذا إنجازًا استخباراتيًا كبيرًا من جانب الإسرائيليين، وحزب الله الآن يشعر بأنه مكشوف ويشعر بالضعف».
«هذه الحادثة ستزعزع استقرار الجماعة بشكل أكبر»، هكذا علق ماثيو ليفيت، وقال: «أى شخص يستخدم أى معدات لحزب الله الآن، سيشعر بالقلق من الاعتماد عليها.. أعتقد أن هذا سيؤثر فى المدى القريب، وسيكون له تأثير زمنيى.. أعتقد أنه إذا كنت جنديًا عاديًا أو قائدًا كبيرًا فى حزب الله، فستكون عينك فى وسط راسك.. إنهم قادرون على العثور على قائدك الأكبر، ويعلمون بخططك لتنفيذ الهجمات قبل أن تقوم بها، ويمكنهم تفجير جهاز النداء المثبت على حزامك».
ومع أن إجابة السؤال ما زالت تحتاج مزيدًا من الوقت، إلا أنه يظل مطروحًا بقوة: كيف فعلت إسرائيل ذلك؟
الهجوم السيبرانى الإسرائيلى «مؤثر ومن طراز فريد»، يجيب الخبير فى شئون الأمن القومى، أحمد الشحات، بالقول: «هذا الهجوم تم، إما ببث موجات كهرومغناطيسية تستهدف الأبراج التى تربط أجهزة بيجر، وتُعلى حرارتها من خلال بطاريات الليثيوم، وهو سيناريو مستبعد.. السيناريو الثانى، هو زرع شريحة مُنفذة داخل أجهزة بيجر نفسها، من خلال عمل استخباراتى كبير استهدف الشركة المصنعة».. وعلى أى حال، فإن الهجوم تم الإعداد له منذ فترة زمنية سابقة، بهدف التمهيد لعمل عسكرى كبير يربك وسائل القيادة والسيطرة لدى حزب الله، مع استهداف قيادات فى الحزب وإرسال رسالة، أن تل أبيب لديها إمكانات خارج الآلة العسكرية المباشرة والتقليدية.. ذلك، فى الوقت الذى ليست لحزب الله القدرة على القيام بإجراءات مناسبة لهذه العملية، رغم أنها تفرض عليه ردًا من نوع جديد، يوازن الموقف العملياتى الإسرائيلى.
ومن المتوقع، أن يوسع حزب الله عملياته ضد إسرائيل، باستهداف حيفا والنقب بطائرات مسيرة، وإطلاق صواريخ الكاتيوشا على المستوطنات الإسرائيلية.. علمًا بأن إسرائيل قد تستخدم هذا الهجوم للتمهيد لضرب تمركزات حزب الله جنوبى لبنان، وتهيئة المسرح لعمليات عسكرية أوسع، فيما قالت القناة الرابعة عشرة الإسرائيلية إنه «ابتداءً من الليلة، سينتقل الثقل الأمنى والعسكرى من قطاع غزة إلى الجبهة الشمالية، بعدما أعلن مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلى، بنيامين نتنياهو، أن الحكومة الأمنية المصغرة قررت توسيع أهداف الحرب الراهنة، لتشمل إعادة سكان شمال إسرائيل إلى بيوتهم».
●●●
لقد كان زعيم حماس، يحيى السنوار، أكثر مكرًا ومعرفة بأساليب إسرائيل من حسن نصر الله، زعيم حزب الله، الذى اكتفى بنصح عناصر حزبه بعدم استخدام أجهزة الهواتف المحمولة، خشية الوصول إليه، دون النظر فى وسائل اتصالاتهم الأخرى.. ولأن السنوار قضى جانبًا كبيرًا من عمره فى سجون إسرائيل، وتعلم لغتهم، فإنه أدرك وسائلهم وفهم مجريات خططهم.. وفى مقال عنونته صحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية، بـ«النظام البدائى للرسائل المشفرة.. هو من يُبقى زعيم حماس على قيد الحياة»، رأى كاتباه، أن زعيم حركة حماس الحالى، يحيى السنوار، لم يكن ليظل حيًا حتى اليوم، لولا نظام الاتصالات منخفض التقنية، المصقول فى السجون، الذى يحميه من الشبكة الاستخباراتية الإسرائيلية.. تجنب السنوار، إلى حد كبير، المكالمات الهاتفية والرسائل النصية، وغيرهما من الاتصالات الإلكترونية، التى يمكن لإسرائيل تعقبها، والتى أودت بحياة قادة آخرين للفصائل المسلحة.. وبدلًا من ذلك، فإنه «يستخدم نظامًا معقدًا من الموصلات والرموز والملاحظات المكتوبة بخط اليد، التى تسمح له بتوجيه عمليات حماس، حتى أثناء الاختباء فى الأنفاق تحت الأرض».
ولمحة عن كيفية بقاء السنوار على قيد الحياة، تأتى من الوسطاء العرب الذين نقلوا الرسائل ذهابًا وإيابًا، خلال محادثات وقف إطلاق النار بين حماس وإسرائيل، ضمن المحادثات غير المباشرة.. إذ يقوم السنوار «بكتابة رسالة بخط اليد أولًا ومن ثم تُمرر إلى عضو موثوق به فى حماس، ينقلها على طول سلسلة من الرسل، وغالبًا ما تكون الرسائل مشفرة، برموز مختلفة لمستلمين مختلفين فى ظروف وأوقات مختلفة، بناءً على نظام طوره السنوار وغيره من السجناء، أثناء وجودهم فى السجون الإسرائيلية.. لتصل الرسالة بعد ذلك إلى وسيط داخل غزة، أو إلى أحد عناصر حماس الآخرين، الذين يستخدمون الهاتف أو أى وسيلة أخرى، لإرسالها إلى أعضاء الجماعة فى الخارج».
يعود هذا النهج البدائى فى الاتصالات، إلى نظام استخدمته حماس فى سنواتها الأولى، الذى تبناه السنوار، عندما اعتقل عام 1988 وسُجن لاحقًا فى سجن إسرائيلى، وأنه على الأرجح تمكن فى غزة من إنشاء نظام اتصالات، يتغلب على جمع المعلومات الاستخباراتية الحديثة.. لذلك، أصبحت أساليب اتصالات السنوار أكثر حذرًا وتعقيدًا، خصوصا بعد تمكن إسرائيل من العثور على قادة رفيعى المستوى وقتلهم.. ومن غير الواضح، إذا ما كانت تأخيرات الاتصال التى تحصل أحيانًا أمرًا تكتيكًا تفاوضيًا، أم انعكاسًا لبروتوكولات السنوار الصارمة؟.. وذلك نظرًا لتمكن السنوار من التواصل بسرعة، عندما يكون ذلك ضروريًا، كما حدث عند مقتل أبناء هنية، أو رسالته مؤخرًا لزعيم حركة أنصار الله الحوثية.
●●●
ما حدث فى لبنان على مدى اليومين الأخيرين، وضع إسرائيل فى حالة تأهب للتصعيد من حزب الله.. إذ بدأت اجتماعات رئيس الوزراء الإسرائيلى، بنيامين نتنياهو، ووزير الدفاع، يوآف جالانت، والقيادة الأمنية، فى «ملجأ» القيادة فى وزارة الدفاع بتل أبيب، وأبلغ قائد الجبهة الداخلية رؤساء السلطات المحلية، باحتمال وقوع تصعيد دون الإعلان عن تعليمات جديدة.. ووجه الجيش الإسرئيلى تعليمات لسكان المستوطنات فى مناطق الشمال البلاد، بالجليل الغربى والجليل الأعلى، مع ارتفاع منسوب التوتر مع حزب الله اللبنانى.. إذ طلب الجيش الإسرائيلى من سكان تلك المناطق، التقليل من التنقلات، تجنب التجمعات، السيطرة على بوابات المستوطنات وإحكام إغلاقها، البقاء قرب المناطق المحمية، بعد تعهد حزب الله بالرد على إسرائيل، غداة انفجار أجهزة الاتصالات بأيدى عناصره فى مناطق مختلفة من لبنان بصورة متزامنة، فى ظل المخاوف من اتساع رقعة الحرب المستمرة منذ نحو عام فى قطاع غزة.. كذلك، دفع تحميل حزب الله إسرائيل «المسئولية الكاملة» عن الانفجارات، متعهدًا بأن «العدو سينال قصاصه العادل»، عددًا من شركات الطيران العالمية تعليق رحلاتها لإسرائيل، بسبب تصاعد المخاوف الأمنية فى المنطقة.
وما بين تأكيدهم النجاح التكتيكى لإسرائيل، وطرح تساؤلات حول الجدوى الاستراتيجية والآثار المحتملة على الصعيدين الإقليمى والدولى.. ناقش كُتاب من الصحف الإسرائيلية آثار التفجيرات التى نُسبت إلى إسرائيل، واستهدفت شبكة اتصالات حزب الله عبر أجهزة بيجر وتوكى ووكى، وأدت إلى مقتل وجرح المئات من عناصر الحزب.
وصف الكاتب فى «يديعوت أحرونوت»، آفى يسخاروف، الهجوم، بأنه يبدو مأخوذًا من أفلام الخيال العلمى، ويجمع بين التطور والدقة والفتك، ولكنه أكد أن ذلك «يخلق قدرًا كبيرًا من الإحراج على الجانب الآخر حزب الله على أقل تقدير».. واعتبر أن المعنى الضمنى لإلحاق الأذى بالآلاف من نشطاء حزب الله فى وقت واحد، هو إعلان حرب، ومن المشكوك فيه أن يتمكن حزب الله من كبح جماح نفسه.. وواقع الحرب الواسعة النطاق مع حزب الله، سيتسبب فى سقوط العديد من الضحايا فى جميع مناطق إسرائيل، ولن يقتصر القتال بعد الآن على الحدود الشمالية.. وستكون لذلك عواقب اقتصادية هائلة، ولكنه سيضر أيضًا بحياة الإنسان والقدرة على إدارة أنظمة التعليم والصحة.. وطرح عدة أسئلة على رئيس الوزراء الإسرائيلى، بنيامين نتنياهو، ما الغرض من مثل هذه الحرب ضد حزب الله؟.. ما الأهداف التى يمكن تحقيقها؟.. هل سيكون من الممكن إعادة الهدوء إلى الحدود الشمالية وإبعاد عناصر التنظيم عن الحدود؟.. وقدم بنفسه الرد، مؤكدًا أن هذا العمل لن يدفع حزب الله إلى وقف نشاطه الهجومى ضد المستوطنات الشمالية، بل إلى التصعيد.
الحزب لا ينوى الانسحاب بالكامل إلى شمال نهر الليطانى، «لذلك، يمكننا أن نتوقع أيامًا، وربما حتى أسابيع من التصعيد، الأمر الذى قد يجبر الجيش الإسرائيلى فى نهاية المطاف على القيام بعملية برية أيضًا، فى حين أن الجيش الإسرائيلى لا يزال يعمل على الأرض فى الجنوب غزة ويعانى من خسائر، بما فى ذلك فى الساعات الأربع وعشرين الماضية».. وفيما توقع أن يتأخر رد حزب الله، لأنه يريد أن يفهم أولًا حقيقة ما جرى ويعالجه، فقد أكد أن رد الحزب قادم لا محالة، وهو مسألة وقت فقط.
واتفق المحلل العسكرى لصحيفة «هآرتس»، عاموس هرئيل، مع يسخاروف فى تقييمه لهجوم لإسرائيل، مشيرًا إلى أنه يمثل «إنجازًا تكتيكيًا بارزًا»، لكن قيمته الاستراتيجية تبقى مشكوكًا فيها.. واعتبر هرئيل أن سلسلة التفجيرات التى طالت شبكة اتصالات حزب الله، «كشفت عن ضعف كبير فى القدرات الأمنية للحزب».. إن نتنياهو قد يسعى لاستغلال هذا التطور لتحقيق مكاسب سياسية، فى ظل التوترات الداخلية المتعلقة بتغيير وزير الدفاع يوآف جالانت، لكن يبقى من غير الواضح، ما إذا كانت هذه العملية ستسهم فى تحقيق الأهداف التى وضعتها الحكومة الإسرائيلية، فى إطار الحرب مع حزب الله.. فإذا قرر حزب الله الرد بقوة على إسرائيل، فإن التصعيد نحو حرب شاملة قد يكون وشيكًا.
لكن المعلق السياسى لصحيفة «معاريف»، ران أدليست، عالج الموضوع من زاوية تأثيره على مواجهة التهديدات الملموسة من إيران، «فى الوقت الذى تشتعل فيه حلقة النار فى الشمال، لا تزال تشتعل جبهة أخرى فى غزة لديها القدرة على التصعيد من لحظة إلى أخرى، بالإضافة إلى الجبهة الثالثة فى الضفة الغربية، التى تقرّب مركز إسرائيل من الجبهة القتالية النشطة، وتتسبب أيضًا فى عدد القتلى على أساس يومى».. واعتبر أن الأخطر فى كل هذه الجبهات، هى الجبهة مع إيران، التى لا تزال تشكل التهديد الأكثر مباشرة وتدميرًا على الإطلاق.. ولفت الانتباه إلى خطورة سياسة نتنياهو، الذى «ترك الجيش الإسرائيلى والبلد بأكمله ينزف على جميع الجبهات، بينما هو نفسه يشن حربًا انتخابية أمريكية داخلية، تضر بالرئيس جو بايدن، ونائبته المرشحة الرئاسية كمالا هاريس».. منتقدًا نتنياهو بشكل لاذع، «لدينا اليوم أحمق يرى نفسه خبيرًا فى الولايات المتحدة، فيما هو فشل خلال سنواته فى منصبه، فى استخدام كل رافعة أمريكية للتوصل إلى اتفاق، وذراعه الوحيدة فى الولايات المتحدة هى الإنجيليون، أصدقاء المستوطنين، وهو يقامر بمصير إسرائيل وحياة الجنود والمدنيين، بمراهنته على دخول الرئيس الأمريكى السابق والمرشح الرئاسى الحالى دونالد ترامب البيت، الأبيض من جديد».. إن استمرار التصعيد على كل الجبهات «يستنزف المجتمع الإسرائيلى بالدماء، إلى حد تقويض وجود إسرائيل».
●●●
ويبقى لنا فى هذا المقام، السؤال الأهم: هل هواتفنا الذكية معرضة للانفجار؟
كما اختُرِق «بيجر»، يُمكن اختراق الهواتف الذكية، لكن غالبًا ما سيحتاج تفجير هذه الهواتف إلى زرع متفجرات صغيرة الحجم داخلها، يجرى تفعيلها من خلال برمجيات خبيثة، تُسهم فى إطلاق هذه المتفجرات.. هكذا استهل توبى وولش، أستاذ الذكاء الاصطناعى فى قسم علوم الحاسوب والهندسة بجامعة نيو ساوث ويلز، إجابته، مؤكدًا أنه صار من الضرورى التحرى جيدًا عن المصدر الخاص بتوريد أجهزة الاتصالات، التى تتضمن الهواتف الذكية، للتأكد من كون الجهاز آمنًا، «إذا كنت أعتقد أن هناك عدوًا استخباراتيًا لى مثل الموساد أو غيره، فلا بد من خضوع هاتفى الذكى لاختبار أشعة إكس، بهدف تأمين خلوه من أى متفجرات محتملة!».. مع ذلك، لا يرى وولش، أن الهواتف الذكية التى نستخدمها حاليًا، تمثل خطورة واضحة، من ناحية إمكانية تفجيرها.
يتفق مع هذا الرأى، مصطفى بهران، الأستاذ الزائر فى قسم الفيزياء بجامعة كارلتون الكندية، فهو يرى أن «عموم الناس لا ينبغى لهم القلق بشأن انفجار هواتفهم الذكية، مع ذلك، من الضرورى إدراك أن هذه الهواتف تراقبنا جيدًا.. المسئولون المعرضون إلى الاستهداف من قِبل جهات دولية، قد يحتاجون إلى الشعور بالقلق».. ويرى نواه سيلفيا، محلل أبحاث القيادة والتحكم والاتصال والحاسوب فى فريق العلوم العسكرية بالمعهد الملكى للخدمات المتحدة للدراسات الدفاعية والأمنية فى المملكة المتحدة، أن الوقت لا يزال غير مناسب لتحليل كيفية حدوث تلك الانفجارات.. إلا أنه أوضح أن عملية التفجير تلك، استدعت تحضيرًا واضحًا، وليس من المتوقع تكرارها لاحقًا، لدى أى مجموعة تؤمن خطوط التوريد الخاصة بها.
وقد نقلت وسائل إعلام لبنانية، عن مصادر أمنية أخفت هويتها، «أن أجهزة بيجر احتوت أجزاء يُطلق عليها IC، تضمنت داخلها المواد المتفجرة، واستطاعت الأجهزة المفخخة المرور عبر أجهزة الفحص دون كشفها، وتم تفخيخها لدى مصدر استيرادها»!!.. وأن نوع المتفجرات المستخدمة فى أجهزة بيجر هو «آر دى إكس» أو «هكسوجين» عالية التكسير، التى استخدمت كمادة تفجيرية خلال القرن العشرين.. وهنا، توقع الخبراء، أن عملية زرع المتفجرات حدثت، إما خلال عملية التصنيع ذاتها، أو فى أثناء نقلها إلى داخل لبنان... ما الذى يدعم ذلك؟
يؤكد ماهر القاضى، الأستاذ المساعد فى قسم الكيمياء والكيمياء الحيوية بجامعة كاليفورنيا الأمريكية، أن الرسائل النصية التى تستقبلها أجهزة بيجر، ليس بإمكانها رفع درجة حرارة البطاريات الموجودة داخلها، أما برامج التجسس فتستطيع فعل ذلك، لكن ليس بالحد المطلوب لانفجارها، «قد تُسبب برامج التجسس رفع حرارة البطارية إلى 50 أو 60 درجة مئوية، وهذه الحرارة رغم ارتفاعها غير كافية.. إن انفجار البطاريات يتطلب حدوث سلسلة من التفاعلات الكيميائية عالية السرعة داخل البطارية، وهو أمر لا يتحقق إلا بعد تخطى درجة حرارتها 150 درجة مئوية»، لكنه أشار إلى أنه رصد حالة «صعبة الحدوث» قد تسبب انفجار البطاريات، وهو أن تسبب الرسائل النصية تفعيل «سويتش» يربط الجزء السالب من البطارية بجزئها الموجب، الأمر الذى ينتج عنه حدوث حالة تشبه ما نعرفه باسم «حالة ماس كهربائى» قد تسبب انفجار البطارية.. لكن من الملاحظ، أن كل الانفجارات حدثت فى التوقيت نفسه تقريبًا، الأمر الذى يُخفض فرضية انفجار البطاريات جراء تفعيل «السويتش»، أو جراء سوء الاستخدام، أو عيوب الصناعة، لذا فنحن فى أغلب الأحوال أمام هجوم متعمد، لجأ إلى تفخيخ أجهزة بيجر مُسبقًا بأحد أنواع المتفجرات.
ولانفجار البطاريات بشكل عام، ثلاثة أسباب رئيسية.. الأسباب الميكانيكية، إذ تنفجر البطارية إن تعرضت إلى الاختراق بجسم حاد، أو السحق جراء وجود ضغط عالٍ عليها، مثلما هو الحال فى السقوط من مكان مرتفع.. الأسباب الكهربائية، كما هو الحال فى «حالة الدائرة المغلقة»، وهى مشكلة ترفع درجة حرارة البطارية سريعًا وتسبب انفجارها.. الأسباب الحرارية، وهنا يتوقع ماهر القاض»، أن هذا العامل هو سبب الانفجارات فى لبنان، فتعرُّض البطاريات لدرجة حرارة مرتفعة تتخطى 150 درجة مئوية، سيؤدى إلى انفجارها، وهى حرارة يُمكن الحصول عليها عبر استخدام أنواع عدة من المتفجرات، «أعتقد أن ما حدث، هو أنه تم تفعيل متفجرات صغيرة الحجم موجودة فى أجهزة بيجر عن بعد، ما أدى إلى رفع درجة الحرارة فجأة وانفجار البطاريات تباعًا».. وانفجار بطاريات الهواتف الذكية أمر نادر الحدوث، إلى جانب أن الانفجارات الناتجة من عيوب الصناعة لا تظهر إلا بعد ما يقارب الثلاثين يومًا من الاستخدام، أى أنها لا تحدث دفعة واحدة، كما رأينا فى أحداث لبنان، لذا، فلا ينبغى التخوف من انفجار هذه الهواتف، إلا أنها بالطبع قابلة للتتبع!».
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين