رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فرديناند ديليسيبس.. المفترى عليه

لا يزال جميع مثقفى الشعب البورسعيدى «عدا قلة من الغوغاء» تنادى باستماتة لعودة تمثال ديليسيبس إلى مكانه الطبيعى على قاعدته المهجورة فى الممر، الذى لا يزال باسمه حتى الآن ببورسعيد؛ لاستعادة الخريطة السياحية للمدينة بعد تفريغها تمامًا من دور السينمات والمسارح والمتاحف، واحتلال معظم شاطئها الذى كان رائعًا بمنتجعات فئوية وهياكل خشبية سيئة المنظر والسمعة.
فرديناند ديليسيبس نجح بذكائه فى إقناع الحكومة المصرية ثم الدول المساهمة والبنوك بتنفيذ أهم مشروع فى تاريخ مصر، ألا وهو حفر قناة السويس.. فضلًا عن تجاوز صعوبات الظروف الدولية وتسهيل الأمور اللوجستية.. كانت الأحلام كثيرة منذ أيام الفراعنة الذين حفروا قناة سيزوستريس وفشلت.. لكن التنفيذ شىء آخر وهو ما نجح فيه بالفعل وأشرف على تنفيذه من البداية للنهاية.
تبدأ الصعوبات من الخديوى سعيد الذى لم يكن لديه المال لتنفيذ المشروع وأصر أن يكون لمصر دور، فتمت الموافقة أن تسهم مصر بالعمالة وبالفعل تم الاتفاق على مشاركة مصر بـ ٢٠ ألف عامل للحفر، غالبيتهم ممن أصابهم الدور فى التجنيد الإجبارى.
فى البداية هاجمت انجلترا المشروع وأشاعت أن الحفر يتم بالسخرة انتقامًا من اتهام فرنسا لها لاستخدامها السخرة فى مشروع ثانى أكبر خط سكة حديد فى العالم من كيب تاون حتى القاهرة ونفذته انجلترا فعلًا بالسخرة..
المسئول الطبى الفرنسى أعلن أن عدد الوفيات أثناء الحفر كان فى حدود  ٨٠٠ شخص فقط طبقًا للتقدير الإنجليزى المعادى «من الموسوعة البريطانية» كان يتراوح ما بين ٤٠٠٠ و ٦٠٠٠ وهو رفم مبالغ فيه، ورغم ذلك يزعم الغوغاء أن الوفيات تبلغ ١٢٠ ألف مصرى وبالسخرة!!
الرقم هزلى ولا يمكن تصديقه خاصة أن تعداد مصر لم يتجاوز وقتها ٦ ملايين نسمة ولو استبعدنا النساء والأطفال وكبار السن والفلاحين سنجد أن المطلوبين للتجنيد وقتها لا يتجاوز عددهم ٤٠ ألف شخص على أقصى تقدير، مات منهم ١٢٠ ألف حسب ادعاءات المعارضين لعودة التمثال.
مرت عصور على وجود التمثال فى مكانه بدءًا من الخديوى إسماعيل، فالخديوى توفيق، فالملك فاروق، فالزعيم عبدالناصر ولم يفكر أحدهم إطلاقًا فى إزالة التمثال أو اتهام ديليسيبس بالخيانة والعمالة.. حتى أثناء العدوان الثلاثى على مصر لم تقترب المقاومة الشعبية من التمثال.
بعد الإنذار الروسى الأمريكى اضطرت فرنسا وانجلترا للانسحاب من بورسعيد.. وأثناء الانسحاب رفع الجنود المنسحبين علمى انجلترا وفرنسا فوق تمثال ديليسيبس، فثارت المقاومة الشعبية وحاولت إنزال الأعلام والتمثال لكنها فشلت فقام الجيش بتكليف من المخابرات الحربية بوضع ديناميت بين القاعدة والتمثال فوقع سليمًا، وتم التحفظ عليه فى مخازن الترسانة البحرية التابعة لهيئة قناة السويس.
أحد الكتاب الكارهين لديليسيبس ألف كتابًا عنه مليئًا بالافتراءات وأهداه للزعيم عبدالناصر والذى أرى من وجهة نظرى أنه اقتنع بفحوى الكتاب وتسرع فى تأميم القناة قبل انتهاء موعد الاتفاقية بـ ١٢ عامًا فقط بوهم عدم تسليمها فى الموعد.. لو انتظرناها لتجنبنا الحرب والدمار ولتجنبنا الغرامات الضخمة التى فرضت علينا دوليًا لانتهاك الاتفاقية، والتى سددناها مضاعفة حتى منتصف الستينيات.
لقد صبرت الصين القوية على بريطانيا حتى أخذت هونج كونج بمنشآتها فى الموعد، وصبرت بنما الضعيفة على أمريكا حتى أخذت قناة بنما بجميع منشآتها كاملة أيضا فى الموعد.. لكن الكاتب «سامحه الله» بكتابه الحاقد ونصيحته أضر الكثير بمصر وسمعتها.
التاريخ لا يكذب ولا يتجمل.. ومدعى الوطنية لم يقرأوه ويدّعون انفرادهم حصريًا بالوطنية والثقافة والشرف.. وستكون حسرتهم عظيمة وأكبر من حسرتهم وثورتهم دون جدوى عندما تم وضع تمثال الملك فؤاد فى مدخل مدينة بورفؤاد ولا يزال موجودًا حتى الآن.