رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

القمص سرجيوس

ما زلنا فى رحاب شخصية وطنية مهمة يجب أن يتعرف عليها الجميع، القمص سرجيوس، خطيب ثورة ١٩. ورأينا فى المقال السابق مدى انعكاس النشأة والتكوين على شخصية سرجيوس، ووصلنا إلى محطة مهمة فى حياته وهى انتقاله فى عام ١٩١٢ للعمل بالسودان وكيلًا للمطرانية القبطية هناك.

وبمجىء عام ١٩١٩ يبدأ نجم سرجيوس الوطنى فى اللمعان نظرًا لطبيعة الدور الذى لعبه فى هذه الثورة، فهو كرجل دين قبطى اعتُبِر بمشاركته فى الثورة رمزًا للوحدة الوطنية فى مصر. وكان على وعى تام بطبيعة الدور التاريخى الذى يلعبه فى هذه الفترة، حيث أدرك مبكرًا أن اشتراكه ككاهن مع شيوخ الأزهر فى العمل الوطنى يُعد دليلًا على «وحدة المصريين وبراءة ثورتهم- ١٩١٩- من تهمة الرجعية والتعصب»، هذه التهمة التى رماهم بها الاستعمار البريطانى. كما كان على وعى تام بأهمية الدور الذى يؤديه الأقباط فى هذه الثورة لتأكيد وحدة عنصرى الأمة واستجابة لنداء الوطن.

جاء انخراط سرجيوس فى أحداث الثورة بصفة تلقائية وعفوية؛ إذ يروى سرجيوس قصة انخراطه فى الثورة قائلًا: «ظلت حياتى موزعة بين الدراسة والوعظ والعبادة، وحتى أحد أيام سنة ١٩١٩، وكنت قابعًا فى بيتى عندما سمعت ضجيجًا وصخبًا فى الشارع، ولما تبينته وجدته مظاهرة من الشباب تهتف (يحيا سعد.. يحيا الاستقلال)، ولما سألت عن السبب قيل لى: إن المستعمرين قد اعتقلوا سعدًا الذى يطالب بالاستقلال التام، وهنا تدفقت الدماء الحارة إلى رأسى، وكأنما براكين الدنيا كلها قد تفجّرت فى نفسى، فأسرعت إلى الشارع وانضممت للمتظاهرين، وسرنا نهتف ونصيح».

وقد يبدو موقف سرجيوس هنا عفويًا وتلقائيًا وحماسيًا إلى حدٍ ما، ولكنه لا يمكن أن يفضى بنا إلى القول باندفاع سرجيوس وعاطفيته، ففى الحقيقة من يدرك طبيعة شخصية سرجيوس يعلم أن هذا الموقف يتفق تمامًا مع طبيعته: «شعلة متقدة من النور، وجذوة لا تخمد من النار».

هكذا يوُلد الزعيم الشعبى، ليس فى أروقة السياسة والحزبية، ولكن من الشارع ومن بين الجماهير.

من هنا كانت بداية تحرك سرجيوس فى أحداث ثورة ١٩١٩ بداية طبيعية مثل اشتراك الآلاف من عامة المصريين تُحرِّكهم عواطفهم الوطنية وحالة السخط على الاحتلال البريطانى، ولا يمكن أن ننكر حالة الهياج التى انتشرت فى جموع المصريين بعد اعتقال سعد الذى تحوَّل إلى «رمز» الأمة فى جهادها الوطنى.

هكذا تحركت روح سرجيوس الثائرة لتجد نفسها فى خضم أتون الثورة، ولم يتحرك سرجيوس هنا كأحد الساسة الزعماء «الأقباط» وإنما مثل شباب جيله الذى آمن بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى بضرورة تنظيم العلاقة بين مصر وبريطانيا وصولًا للاستقلال. من هنا إذا وصفنا خروج آلاف الشباب من المصريين بعد اعتقال سعد فى مظاهرات عارمة بـ«التلقائية» فإن هذه التلقائية ليست منقطعة الصلة بنمو الشعور الوطنى، وظهوره فى مسألة جمع التوكيلات الشعبية- قبل اعتقال سعد- للوفد لمفاوضة بريطانيا. من هنا فالتلقائية فى الخروج، والتى يشترك فيها سرجيوس، كانت لها دوافعها الكامنة فى العقل الجمعى المصرى، ومن ناحية أخرى فإن رابطة الجامعة الوطنية التى تميزت بها ثورة ١٩١٩ قد أدت دورها فى فاعلية الإسهام القبطى فى الثورة.

وإذا عدنا مرة أخرى إلى تتبع الدور الذى لعبه سرجيوس فى الثورة، فسيسترعى انتباهنا ما قام به سرجيوس فى المسيرة الوطنية التى توجهت إلى الأزهر الشريف، حيث اعتلى سرجيوس منبر الأزهر، الذى يعتليه قس قبطى لأول مرة، خطيبًا وداعيًا إلى الثورة، فكان ذلك ظاهرة جديرة بالبقاء فى ذاكرة الأمة حتى الآن. وأنشد البعض تخليدًا لذلك:

فى الأزهر ارتفع الصليب مع الهلال.. بفضل دعوة سرجيوس

تــحـــيـــا الـبـــلاد وشـــعـــبـــهــــا.. تحيا المشايخ والقسوس

واستمر سرجيوس على ذلك وخطب فى العديد من الجوامع والكنائس، كما ترأس سرجيوس المظاهرات، لا سيما فى الميادين العامة، مثل ميدان الأوبرا فى العتبة الذى كانت تتجمع فيه العديد من المظاهرات.