القمص سرجيوس «1-3»
تهل علينا هذه الأيام الذكرى الستون لرحيل القمص سرجيوس. وأخشى ما أخشاه ألا يعرف شباب اليوم من هو سرجيوس، بل دعونى أعبر عن تخوفى أن تكون هذه الذكرى قد سقطت من العقل الجمعى المصرى، لذلك دعونى أطرح عليكم السؤال: من هو القمص سرجيوس؟
ربما ألتمس العذر للقارئ إذا لم يعرف سريعًا من هو سرجيوس؟ لقد طرحت هذا السؤال فى أثناء محاضراتى فى الجامعة على طلاب مرحلة الليسانس فى الدراسات التاريخية، وأيضًا على طلاب الفرقة الثانية فى كلية الإعلام، ولم أجد إجابة. والأكثر من ذلك أننى طرحت السؤال أثناء ندواتى فى الكنيسة القبطية على شباب الخدمة الكنسية ومجموعة المشاركة الوطنية، ولم تكن الإجابة بقدر ما انتظرت. وأحسست أن هناك شبه تعتيم مقصود أو غير مقصود على هذه الشخصية «رمز الوحدة الوطنية»، وما أحوجنا الآن لهذه الوحدة وهذه الشخصية.
بالنسبة لى تعرفت على شخصية سرجيوس لأول مرة من خلال فيلم «بين القصرين»، حيث يعرض المخرج فى نهاية الفيلم بعض المشاهد عن ثورة ١٩١٩، ومن هذه المشاهد يسترعى الانتباه هذا القس الذى يعتلى منبر المسجد خطيبًا للوطنية، ورمزًا للوحدة الوطنية فى لحظة نادرة ومضيئة فى سجل أيامنا المصرية. فمن هو سرجيوس؟
إن من يتتبع نشأة سرجيوس وسنوات تكوينه سيُواجه ببعض الحقائق والصعوبات التى كثيرًا ما تحد من رغبة الباحث النازعة إلى التحليل، أكثر من مجرد سرد الوقائع، فنادرًا ما تتوافر لدى المؤرخ معلومات مهمة ووافية حول الفترة الأولى للشخصية التاريخية، فى حين تتراكم المعلومات بدءًا من الفترة التى يلمع فيها نجمه ويتحول إلى «شخصية تاريخية» ولا يهتم أحد بتسجيل الفترة السابقة.
وعلى ذلك فليست لدينا معلومات مهمة عن نشأة سرجيوس، واسمه الأصلى هو «ملطى سرجيوس عبدالملاك»، سوى أنه وُلد فى جرجا فى الصعيد فى عام ١٨٨٣. أما عن الأصول الاجتماعية له فهو ينتمى إلى أسرة توارثت سلك الكهنوت، فكان أبوه قسيسًا وكذلك جده. من هنا كان طبيعيًا- كما يروى سرجيوس نفسه- أن يكون كاهنًا، وأن يتمرس على الخطابة والوعظ. ولا يتوافر لدينا أى معلومات عن سرجيوس من عام ١٨٨٣ حتى عام ١٨٩٩ عندما يحدث التحول الكبير فى حياته برحيله إلى القاهرة للالتحاق بالمدرسة الإكليريكية.
هكذا تبدو نشأة سرجيوس عادية لا تختلف عن كثير من أقرانه آنذاك، غير أننا لا بُد أن نرى جيدًا هذه النشأة فى إطار ظروف العصر؛ فأولًا كما نرى وُلد سرجيوس عقب الاحتلال البريطانى لمصر فى عام ١٨٨٢، من هنا شارك معاناة هذا الجيل الذى عاش تحت وطأة الاحتلال، ثم شاهد بدايات الحركة الوطنية ضد الاحتلال، وقمعها قبل الحرب العالمية الأولى. كما أحس هذا الجيل جيدًا بمعاناة مصر أثناء هذه الحرب، وبالتالى لم يكن غريبًا أن يقود هذا الجيل ثورة ١٩١٩ حين كان سعد زغلول منفيًا خارج البلاد. ففى عام ١٩١٩ كان سرجيوس يبلغ من العمر ستة وثلاثين عامًا، إنها ذروة الشباب والتوهج الوطنى، وهى تقريبًا نفس المرحلة العمرية للجيل الثانى من «الوفد» الذى قاد التحرك الشعبى والعمل السرى للثورة.
وعلى المستوى القبطى، كانت الحياة القبطية تدخل منعطفًا جديدًا، نتيجة جهود البابا كيرلس الرابع «أبوالإصلاح»، فضلًا عن تحديات التبشير الكاثوليكى والبروتستانتى، ولقد تأثر القمص سرجيوس بهذه الأجواء، فقبل ذلك كانت ثقافة الكاهن القبطى متواضعة للغاية، وكان من يتولى الوعظ هم بعض الكهنة الذين يجمعون بين الوعظ وأعمال حرفية وزراعية أخرى، ليتقوّتوا منها. ولم يكن هذا الوضع يتناسب مع الثقافة الراقية وفن الوعظ الذى يتمتع به المبشرون الأجانب، من هنا كان إنشاء المدرسة القبطية الإكليريكية يعد تطورًا كبيرًا فى الحياة القبطية.
وإذا انتقلنا من دراسة المناخ العام إلى دراسة طبيعة شخصية سرجيوس الخاصة، وأثرها فى تطور حياته، فإننا سنجد تميزًا خاصًا لسرجيوس فى هذا الاتجاه، فقد وصفه البعض على سبيل المدح بأنه «نادر، ثائر، شاذ، لا يسير كما يسير الناس، شَبِّهْهُ بالبركان إن شئت، لكنه بركان متفجر، أو شَبِّهْهُ بالمحيط إن شئت، لكنه ليس بالمحيط الهادئ.. إنما هو شعلة متقدة من النور، وجذوة لا تخمد من النار».
والحق أن روح التمرد قد ظهرت مبكرًا لدى سرجيوس، وهو معلم بالمدرسة الإكليريكية، فقد قاد سرجيوس فى عام ١٩٠٢ تمردًا لطلاب الإكليريكية من أجل إصلاح شئونها، وأحوال الطلاب بها، وبطبيعة الحال فإن أى تمرد يواجه بحدة وقمع، فما بالنا إذا كان التمرد داخل مؤسسة دينية؟! من هنا قامت البطريركية بمحاولة قمع هذا التمرد بالتهديد باستدعاء البوليس لإنهاء اعتصام الطلاب بالإكليريكية، فلجأ الطلاب إلى أهم شخصية قبطية علمانية آنذاك «بطرس باشا غالى» الذى تدخل لإنهاء هذا الخلاف.
بعد تخرج سرجيوس من المدرسة الإكليريكية، تزوج فى عام ١٩٠٤ لكى تتم رسامته قسًا. وقام سرجيوس بالخدمة فى كل من الزقازيق، سنورس، وملوى إلى أن تمت ترقيته إلى درجة «القمص» فى عام ١٩٠٧، وفى عام ١٩١٢ انتقل سرجيوس للعمل بالسودان وكيلًا للمطرانية القبطية هناك.