نقاد المسرح يحللون عروض «التجريبى»
قرابة أسبوع مرت على بدء فعاليات مهرجان القاهرة الدولى للمسرح التجريبى فى دورته الـ٣١، دورة علاء عبدالعزيز، التى تأتى بعد ٣٠ دورة سابقة تضمنت آلاف العروض من مختلف أنحاء العالم، وحملت زخمًا انعكس فى حراك مسرحى كبير فى تسعينيات القرن الماضى، وما زالت موجاته تتعاقب وتأثيره يمتد حتى الآن.
يعد «التجريبى» أحد أهم المنافذ المسرحية فى مصر والوطن العربى للفرجة ومتابعة إحداثيات الحركة المسرحية حول العالم فى إرهاصاتها الجديدة وتجاربها المختلفة، التى تحاول إعادة اكتشاف المسرح ورسم صورته تقنيًا وفنيًا وفكريًا على نحو مواكب للتطور التكنولوجى أو مناهض له.
وفى مهرجان هذا العام، يتلاقى ٢٥ عرضًا مسرحيًا من ١٩ دولة، فى عروض معظمها يختبر أفكارًا وتقنيات جديدة، ربما تعتمد على الجسد فقط أو الصوت أو السينوغرافيا، وتحتاج مثل تلك العروض أحيانًا إلى إرشاد وأعين خبيرة، لإضاءة مداخل فكرية تسمح بفهم أعمق لها، وهو ما نقدمه فى السطور التالية.
«صدى جدار الصمت».. رشا عبدالمنعم: تتبع تاريخى لمأساة فلسطين وتضحيات أبنائها
فى البداية دعونى أحدثكم عن عرض الافتتاح، فى العرض وعلى أنغام أغانى فيروز وأم كلثوم عن القدس وفلسطين، نراقب أبطال العرض الراقص «صدى جدار الصمت»، مصر، الذى قدمته فرقة الرقص الحديث، من تصميم وإخراج وليد عونى، والتى تقدم لوحات متتابعة تنقل رسالة تضامن قوية مع الشعب الفلسطينى، زادها قوة أنها تقدم فى افتتاح مهرجان دولى.
فى المشهد الافتتاحى نجد أجسادًا محبوسة داخل شرنقة قماشية، ثم بعد قليل تتخلص منها، لتتحول تلك الشرنقة إلى كفن يحملونه ويتحدون به العالم، ولسان حالهم يقول: «سنظل نقاوم حتى الموت»، فهم فى ظل ما يتعرضون له من قتل وظلم وإبادة جماعية صامدون، وعلى استعداد للتضحية بحياتهم وحياة أبنائهم، لأنهم لن يستسلموا أبدًا.
تمثل تلك الشرنقة كل محاولات الطمس وإخفاء الحقائق التى يقترفها النظام الرأسمالى الجديد، الذى يفضحه وليد عونى وفرقته فى العرض، مظهرًا استعداد هذا النظام للمتاجرة بكل شىء، حتى بجثث الضحايا، عبر صفقات السلاح وإدارة الحروب، ومرورًا بالمتاجرة عبر وسائل الإعلام والسوشيال ميديا، بصور متتابعة تستهلك الموت وتحول الإنسان المتشظى من أشلاء إلى أرقام، فضلًا عن جرائم هذا النظام الذى يقتل الإعلاميين من ناقلى الحقيقة، حتى يستطيع أن يروج لحقائق مقلوبة، تظهر الجلاد بصورة الضحية وتمحو الضحية تمامًا من الصورة.
ويتتبع العرض المأساة تتبعًا تاريخيًا، ويستعرض تاريخ القتل والاستعمار والطمع فى موارد الدول الأخرى تحت غطاء الدين، وتاريخ التخلى والصمت، وتاريخ جدار ينبنى ليعزل غزة، ثم جدار من الصمت يحيط الجدار الأسمنتى، ليصبح الجميع شريكًا فى الجرم، إلا أن هذا الصمت المتعمد وادعاء العمى لم تنتج عنه سوى بصيرة.. بصيرة وعى جديد بالقضية الفلسطينية لدى شعوب العالم أجمع.
وعبّر المؤدون بحضور جسدى قوى، فى لوحات متتابعة، عن قوة أرواح أهالى غزة، ما بين بقاء وفناء.. ما بين ضعف وقوة، فى ترنيمة عن الوجع والصمود، لنتيقن أنه- حتمًا وامتدادًا لروح المقاومة- سينهار ذات يوم جدار الصمت.
«فطائر التفاح».. أحمد خميس: لعبة إخراجية لبحث المعنى الباطنى لعلاقة الرجل والمرأة
يحاول عرض «فطائر التفاح»، من المغرب، الغوص فى ثنايا الروح ليكشف عن المعنى الباطنى لتلك العلاقة المعقدة بين الرجل والمرأة، زوجين كانا أم حبيبين أم كارهين لمنغصات حياتهما وانهزامهما معًا.
رجل تحطم تمامًا ويعلن منذ البداية عن أن تلك هى ليلته الأخيرة فى الحياة المريرة التى أصابته فى مقتل، حيث يهاجمه المرض اللعين، مع إدراكه ككاتب أن معظم ما قدمه لا يساوى شيئًا.
وامرأة تحاول جهد طاقتها أن تعيد حبيبها لعنفوان العلاقة الرومانتيكية دون جدوى، وهى تدرك تمامًا أن المرض يسحب الهواء من حياتهما، لكنها تقاوم قدر الإمكان، وهو مشغول بمراقبة تجربة اللا شىء التى أفنى فيها عمره، وكل منهما يحاول التفسير واكتشاف المعنى.
الجديد فى الحكاية المقدمة هو تفسير المخرج لتلك العلاقة المتوترة، إذ حول المغربى الجاد «عبدالجبار خمران» الزوج والزوجة لأربعة أشخاص على خشبة المسرح، وقسّم ألوان زى المرأة بين الأحمر والأسود، فى إشارة دالة على عنفوان العلاقة وموتها الحتمى أو المتوقع.
وبهذه اللعبة الإخراجية التى تميل لشعرية المسرح، بمعناها الجديد، تم تقسيم الأفعال وردود الأفعال، بحيث تدب الحياة على خشبة المسرح بشكل مختلف، مع الأخذ فى الاعتبار أن التيمة الدرامية المقدمة من قِبل المؤلف تتطور بمنطق متوقع نحو موت بطلها الكاتب، الذى أصيب بمرض عضال ويتوقع وفاته بين لحظة وأخرى.
ومن ثم، بدت اللعبة الإخراجية منحازة لفكرة «كيف أقول»، وهى طريقة ملفتة تمامًا للمنهجيات المتطورة فى تناول العمل الدرامى، وتحاول أن تتوسل بفنون الأداء، مثل الحركة والأداء التمثيلى وتبادل ردود الأفعال، مع وجود موسيقى حية مشوقة، وطريقة تمثيل جادة تجذب المتلقى لفك شفرات الحكاية وما يمكن أن تطرحه من جديد.
وذلك الإرباك والتمسك باللعب الشيق حوّلا حكاية آدم وزوجته لحكاية غير ممسوكة ومن الصعب توقع تطورها، إذ انزاحت المعرفة المتوقعة وأعطيت الفرصة للعناصر المكملة كى تلعب دورها فى الطرح الجمالى.
«باب. ب. ل».. محمد عبدالوارث: لغة الجسد لإعادة اكتشاف أسطورة «برج بابل»
تساءلت كثيرًا عن ذلك العرض الألمانى «باب. ب. ل»، فما الذى يريده الألمان من «بابل» المعروفة لدينا فى الشرق كإحدى الحضارات القديمة والشهيرة، والتى كان منها إحدى عجائب الدنيا السبع وهى حدائق بابل المعلقة، وظل السؤال فى عقلى معلقًا حتى بعد نهاية العرض، الذى ينتمى لنوعية العروض الراقصة، والذى تقدمه فرقة الباليه التابعة لمسرح «تريير».
إن كلمة «بابل» باللغة الأكادية تعنى «باب الإله»، وهى تطلق على حضارة بابل القديمة بالعراق، أو بلاد ما بين النهرين.
وإذا بحثت أكثر ستجد أن كلمة «بابل» تستخدم مجازيًا لوصف حالة من الارتباك والفوضى، وغالبًا ما ترتبط باختلاف اللغات وعدم قدرة الأشخاص على التواصل مع بعضهم البعض.
ضع كل تلك المعانى مع بعضها، وابحث عن قصة «برج بابل»، المعروفة فى المسيحية واليهودية، ستجد فى «سفر التكوين الفصل ١١» أنه تم بناء البرج فى أرض شعار «بابل» بعد فترة وجيزة من الطوفان العظيم، وأنه قد دار فى خلد من بنوه الوصول به إلى السماء، ولكن الإله الأزلى فرق الألسن، أى «بلبلها»، حسب «سفر التكوين»، ليمنعهم من تحقيق أمنيتهم، وشتتهم بعدئذٍ فى مغارب الأرض ومشارقها ليعمروا الأرض وتتكون لغاتهم.
وقد كان كل ذلك بعد «طوفان نوح»، أى أن كل تلك الأحداث كانت بغرض إعادة تشكيل العالم، وربما كان هذا التشتت سببًا بعد ذلك فى التواصل بينهم، فنجد فى كل الحضارات القديمة بعد الطوفان طقوسًا كانت لغتها الأساسية هى «لغة الجسد».
أفراد فريق العرض اجتهدوا كثيرًا، سواء فى البحث أو فى تكوين عرضهم، ليعيدوا الأسطورة القديمة، ويعيدوا اكتشاف عالمهم من خلال الجسد والرقص والأصوات، إذ إن لغة التواصل اللفظية فى هذا العالم تحتاج إلى مراجعة، فعلى الجميع التواصل وعدم الارتباك حتى مع اختلاف اللغات والكلمات.
ويبدأ العرض «باب. ب. ل» بجسد الراقصين فى تشكيل أقرب للبرج، الذى يبدو متينًا، لكنه فى النهاية ينهار بانهيار أجسادهم، وهو ما يفسر بداية القصة وفشل البنائين فى بناء البرج.
تعد نهاية العرض فهمًا واضحًا وجليًا من فريق العمل لما ورد فى «سفر التكوين»، فلم يُرد الإله الأزلى والسرمدى أن يشتت الإنسان بعد «طوفان نوح»، ولم يُرد لهم أن يجتمعوا فى مدينة واحدة، وهى «بابل»، كما أراد أهلها فى ذلك الوقت، بل أراد أن تعمر الأرض من خلال كل مجموعة، بلغتها وبطريقتها، كعادة عملية البناء التى تختلف من مكان لآخر ومن تربة أرض لتربة أرض أخرى، وهو ما يجعل فكرة العيش باجتماع الجميع فى مكان واحد فكرة مستحيلة، وهذا ما جعل التشتت أساس التواصل بينهم لتعمير هذه الأرض. وظهرت هذه الفكرة فى ختام العرض، من خلال اجتماع أجسادهم مع البانوهات المستخدمة، ليكونوا برجًا، ليس «برج بابل» هذه المرة، ولكنه برج جديد، أساسه الاختلاف الذى يمكن تقبله، والأجساد التى لا تعلم سوى لغة التواصل بينها ولا فارق فيه بين أبيض وأسود، ولا مكان فيه للفوضى والارتباك، إنه إعادة اكتشاف للغة عامة، يستطيع الجميع من خلالها التقارب والتواصل فى عالم واحد دون حروب ومشاحنات، فهكذا أراد الإله، وهكذا قدم صناع العمل.
«حيث لا يرانى أحد».. محمد علام: مرثية الإنسان المعاصر ومعالجة سريالية لأسطورة «سيزيف»
فى عرض «حيث لا يرانى أحد»، مصر، تم طرح معالجة شديدة الحساسية حول جدوى إنسان القرن الحادى والعشرين، وكيفية صعوبة تحديد موقعه فى ظل ذوبانه داخل نسيج المؤسسات البيروقراطية والتى تشكل ما نعرفه باسم «الحضارة».
تبدأ أحداث العرض بشخص يرتدى زيًا رماديًا باليًا، مرصعًا بالتروس فى أغلب نسيجه، يتحرك بصعوبة، سنعرفه فيما بعد باسم «عقرب الثوانى القديم»، ويخبر المشاهدين المتحلقين حول ساعة مرسومة على الأرض بحجم الصالة بأنه ملّ دورانه المنتظم طوال عشرين عامًا، وفى نفس اللحظة يدخل شاب فى زى أبيض اللون، طالبًا الالتحاق بوظيفة «عقرب الثوانى» وبعد اجتياز امتحان القبول يتسلم وظيفته من «عقرب الثوانى القديم» الذى يحذره فى نهاية المطاف أن الوظيفة ستجعله يفقد أحباءه وشعوره بالعالم الخارجى وسينتهى به كل شىء إلى وحدة موحشة.
يعتمد محمود صلاح، مخرج ومؤلف العرض، على أسلوب سريالى، يبدأ من طرح عالم فوق الواقع، يضخ شخصياته فى تلاحم خارج سياق زمنى محدد خارج تصاعد درامى محدد، كل ما فى الأمر أن هناك لحظة من البوح يمر بها عامل من قيامه بعمل «لا جدوى له»، بل إن حياته وهو يدور، ويدور دون أن يشعر به أحد ودون أن تمثل حياته قيمة له أو لأى شخص آخر الآن.
تتماس قصة العرض مع العديد من المعالجات الدرامية التى تناولت عدم جدوى الحياة باعتباره المصير الذى يؤول له الإنسان المعاصر، الذى لم تعد له قيمة تذكر، كما طرح ألبير كامو فى رواية «الغريب»، أو التفكير فيما يجعلنا قادرين على قبول ما هو غير مقبول، فننسى إنسانيتنا أو نضعها جانبًا، بالضبط كما فعل برنارد داكوستا فى نص «صانعة الساعات إيفا براون»، ويمكن اعتبار عرض «حيث لا يرانى أحد» إحدى المعالجات المغايرة لأسطورة «سيزيف» الإغريقية ولكن فى معالجة سريالية.
اعتمد العرض على تقنيات فنية تبعدنا- نحن المشاهدين- عن الواقع التقليدى، من خلال تقديم عالم عقارب الساعة التى تعيش حياة مفعمة باليأس والإحباط، تحمل هزائم عديدة فى ذكرياتها التى تضيع وتتبخر مع دورانها المنضبط والمستمر إلى ما لا نهاية.
«المصعد».. منار خالد: مفردات تعبّر عن القلق والتوتر
فى رقعة محددة وسط الخشبة يرتكز عليها ٣ ممثلين ويدور بداخلها العرض بأكمله، وكأنها حيز شفاف وإطار يحد من الحركة لا يمكن الخروج منه، هكذا بدأ العرض الرومانى «Elevator» أو «المصعد»، بافتتاحية ذات طابع خانق، حيث خشبة مسرح متسعة بأكملها، بينما أجساد ثلاثة من الممثلين الرجال داخل إطار وهمى لا خروج منه، وذلك بالتماس مع اسم العرض «المصعد» الذى يشير بالضرورة إلى المكان المعروف، وذلك الإطار ضيق المساحة، المتوافق مع المساحة ذاتها التى يقف فيها الممثلون، علاوة على ماهية ذلك المكان بذاته الذى يُعد آلة مكانية تساعد فى نقل الأشخاص أو ربما البضائع بين الطوابق المتفاوتة الارتفاعات، يجرى تشغيله عادة بواسطة محركات كهربائية، وبالتالى فالمكان، وفقًا لاسم العرض، يحمل هو الآخر مفردات خانقة لا تختلف عن اختيار الحيز الضيق على الخشبة من وجود مجموعة أشخاص داخل مكان واحد وإغلاق الباب والتحكم فى الوزن مع احتماليات توقفه أو تعطله عن العمل وما يترتب عليه من حالات اختناق أكبر.
وبالنظر فى معطيات العرض وعنصر الملابس الثابت الذى لا يتغير، وهو عبارة عن «بذلة»، وما تحمله هى الأخرى من إشارات نحو الالتزام والمقابلات الرسمية والعمل، وكذلك إشارات تتماس مع الحيز الضيق وعناصر الاختناق من قيود فى الحركة تختلف عن الملابس اليومية الأكثر مرونة، ومنها تكون هناك بداية ذات شفرات موضحة عن الحالة العامة التى يحاول العرض أن يدور فى فلكها. اعتمد الإخراج على تشكيل مشاهد حركية من قالب حركات اعتيادية يومية لرسم لوحة منفصلة عن الأخرى، فمثلًا بالاتساق مع عنصر الملابس المتمثل فى البذلة، يوقّع أحدهم على ورقة وهمية بشكل متكرر، لذا غلبت ثيمة تكرار الحركات على العرض بأكمله بهدف تصدير تلك الحالة الخانقة والاعتيادية معًا، وفى خلفيتها موسيقى تعتمد على تصدير حالة التوتر والترقب، كما اعتمدت حركات الجسد جميعها على التحريك المبالغ فيه للرأس والأرجل والأقدام، فهو ليس برقص به أريحية تعبيرية بل اهتزاز مستمر.
عرض «Elevator» من إنتاج شركة M studio، بطولة: ديك زولتان وسزكريينيس لازلو وفريس ناجى أتيلا، وتصميم الرقصات والموسيقى لـ«فهير فيرينس».