الثعالب الصغيرة فى كروم الصعيد
لا فرح عندى يوازى وجودى لساعات فى الصعيد.. أى حتة فى الصعيد وبالأخص بين أصحابى وجيرانى وأهلى فى سوهاج.. بمجرد أن تمرق السيارة أو القطار خارج القاهرة.. خارج الحدود الضيقة أشعر بارتياح.. حدث كبير تجرى تفاصيله فى عروقى ومسام جلدى بمجرد أن أشم رائحة الصحراء.. الأخضر فى صحارى الصعيد على الجانبين لا يغسل عيونى فقط.. هو يغسل روحى من كل أوجاعها.
ثلاثة أيام فقط قضيتها متنقلًا ما بين قرى أسيوط وسوهاج.. تصادف أنها فى موسم حصاد.. هى ليست موسمًا واحدًا فقط.. هى مواسم متعددة.. موسم حصاد البلح.. والمانجو.. والرمان.. والذرة المبكرة.. ونجاح الأبناء فى الثانوية العامة.. والأخير صار الموسم الأصعب والأكثر قسوة منذ سنوات.. وصار عبورها إلى خطوة أبعد فرحًا نهنئ به الأهل والأحباب.
أفسدت الثعالب الصغيرة هناك فرحتى وفرحة الأهل.. المجاميع كبيرة وعالية نعم.. حتى تكاد تظن أن جميع الأبناء سيصبحون أطباء.. تحول الفرح إلى محزنة.. الكل لهث خلف مكان أو واسطة.. بعدما غرقوا أيامًا فى الوهم.. يعرف الكل أن نجاح الأبناء جاء بالغش.. حتى إنهم أطلقوا عليها ثانوية السماعات.. هذه المجاميع الكبيرة أدخلتهم فى متاهة أن كل هذه الأعداد لا مكان لها فى كليات الطب.. فإلى أين تذهب؟.. أحدهم أخبرنى بأنه مضطر لأن يدفع ربع مليون لسبع سنوات مقبلة غير المصاريف؛ لتحصل ابنته على مقعد فى كلية تريدها.. هذه الأرقام الخزعبلية أكبر من قدرات الرجل.. ربما يبيع أرضًا.. ربما يستعين بالابن الذى يعمل فى الخليج.
كنا فى واجب عزاء.. تحول العزاء إلى مندبة.. لقد بدأت نفس المدارس التى جرت فيها تلك المهزلة.. مهزلة السماعات.. فى استقبال الطلاب الجدد.. رفعت الفيزيتا إلى أرقام غير مسبوقة.. أسعار المدارس أغلى من القاهرة بمراحل.. هو الحال نفسه فى أسعار الشقق.. لقد تجاوزنا الملايين بمراحل.. لماذا يحدث ذلك الأمر فى محافظات فقيرة مثل سوهاج وأسيوط؟.. لا أحد يعرف.
لقد أخبرنى مسئول كبير هناك.. بأن مدينة كاملة اسمها «أخميم الجديدة» لا يسكنها إنسان واحد، رغم أنها موجودة منذ سنوات.. ورغم أن شققها محجوزة بالفعل.. الأحوزة العمرانية لا أحد يعرف حتى هذه اللحظة السر فى عدم الانتهاء منها.. وكأننا ندفع الأهالى دفعًا إلى المخالفة والبناء فى الأراضى الزراعية.. بالاستجابة لإتاوات بعض صغار الموظفين الذين صاروا أباطرة.. يتحدث الأهالى عن إتاوات يدفعونها صاغرين لتمرير هذه المخالفات التى يعرفون جيدًا أنها مخالفات.. مثلها مثل الغش بالسماعات.. أصبح الأمر مستساغًا.. فى ظل ندرة الأماكن الخالية للبناء وحاجة الأهل للسكن وتزويج الأبناء والبنات.
أذكر عندما كنا أطفالًا.. لم تكن هناك مبانٍ منفصلة لمن يريد الزواج.. هى حجرة وحيدة يسمونها الرواق فى منزل العائلة.. وبالطبع لا تحتاج لأكثر من سرير ودولاب وسحارة لحفظ الملابس والمقتنيات الخاصة.. الآن يحتاج الأبناء إلى شقق تكلف الملايين وأفراح تكلف الملايين لكن الفرح والسعادة نفسهما لا وجود لهما.
فما الذى حدث لتركيبة الصعيد وغيّر أحواله إلى هذا الحد.. حد قبول منطق الغش والرشوة.. والمخالفة.. أى مخالفة.. صار لها قانون عرفى أكبر بكثير من أى رقابة أو تجريم.. وهذه سكة خطر تحتاج إلى تدخل عاجل وحاسم.
بعض هذه الثعالب الصغيرة فى تلك الكروم تجاوزت المحليات هذه المرة والتعليم إلى الرى.. وهذا خطر شديد.. بعض موظفى الرى، فى جرجا تحديدًا، يتلاعبون بالأهالى وأراضيهم وزراعاتهم.. يمسكون عن إطلاق المياه بالقدر الكافى حتى يستغيثوا.. فلا شىء يفجع الفلاح أكثر من بوار زراعته.. ثم يطلبون الإتاوات.. ومن يدفع تمر المياه فى الترع والمصارف التى تؤدى إلى غيطه.. ومن لا يدفع فليمت زرعه عطشًا.
الناس فرحون بوجود المحافظين الجدد ونوابهم فى الشارع.. بتدخلهم لحل مشكلات عاجلة فى الصحة والمرور والمخابز وغيرها.. لكن هذا الوباء يحتاج إلى تدخل سريع قبل أن يستفحل.. لأنه سيؤدى حتمًا لمشكلات اجتماعية لا نحتاجها.
لا دليل عندى على ما يردده الأهالى عن تلك الإتاوات.. لكن الواقع موجود.. المياه المحبوسة عن أراضٍ بعينها فى ترع بعينها دليل كافٍ، وأسماؤها وصورها موجودة لمن يريد.
بعض هؤلاء الصغار.. عندهم من الحجج ما يدفع عنهم التهم عند السؤال.. أبسطها أن مخلفات الترع هى السبب.. وأن تلك الأمور مسئولية المحليات.. وبعض الحجج تفتح أبوابها للشائعات التى نحن فى غنى عنها، فضلًا عن كونها غير صحيحة من الأساس.. التعامل مع هذه الثعالب الصغيرة لا يحتاج إلى مجرد نقل مسئول من موقع إلى آخر.. يحتاج إلى تفعيل الرقابة المجتمعية أولًا.. وتحفيزها على المقاومة.. لأن الاستسلام تحت ضغط الحاجة يصل بنا إلى نفس النتيجة التى وصلنا إليها فى قبول الغش بالسماعات أو بغيرها والتكالب على ذات المدارس المشبوهة التى وجدتها فرصة فرفعت المصاريف إلى أرقام أسطورية دون أى مساءلة من الوزارة المعنية..
فرح الناس بالتغيير أمر طيب.. وحالة من الرضا لمحتها فى حديث الأصدقاء هناك عن أداء الوزيرة منال عوض.. هى لم تزر الصعيد حتى هذه اللحظة لكنهم يتابعونها جيدًا.. ويتحدثون عن حركة المحليات.. وعن التغيير هنا أو هناك.. نفس الأمر بالنسبة للمستشفيات الصغيرة.. وهذا أمر طيب أيضًا.. لكن لاحظت أن بعض هؤلاء المنقولين لا يملكون من أمرهم شيئًا.. على سبيل المثال تعانى سوهاج من نقص حاد فى حضانات الأطفال.. بالتحديد الحضانات السناب.. وتصل قيمة ما يدفعه الطفل المريض فى الليلة الواحدة إلى ثلاثة آلاف جنيه.. الغريب فى الأمر أن عددًا كبيرًا من مستشفيات القرى تتوافر به هذه الحضانات، لكنها مركونة فى الكراتين منذ سنوات، وأغلبها جاء عن طريق التبرعات.. ذلك أنها لا تجد أطباء أو ممرضين أو شبكات لتشغيلها.. فلماذا تظل فى المخازن ولا تتم الاستفادة منها فى مستشفيات المدن المجهزة.. والمكدسة بالأطباء الذين لا يذهبون للمستشفيات فى الغالب.. مثل هذه الأمور ليست مسئولة من مدير مستشفى صغير.. ولن يحلها نقله إلى موقع آخر.. الأمر يحتاج إلى معلومات.. إلى مراجعة شاملة لما نملك وما نحتاج وإعادة التوزيع بما يحقق الخدمة للناس.
على كل حال.. الصعيد عامر.. وبيوته وكرومه عامرة بأهلة الطيبين وستظل كذلك ولن يفسدها عبث بعض الثعالب الصغيرة قطعًا.