فرانكو بازاليا والحرية للمرضى النفسيين
تحتفى الأوساط الطبية، هذا العام، بمئوية ميلاد رائد الطب النفسى فرانكو بازاليا «١١ مارس ١٩٢٤- ٢٩ أغسطس ١٩٨٠»، وهو طبيب نفسى، وعالم أعصاب وبروفيسور إيطالى عُرف بمناصرته إغلاق المستشفيات النفسية، ويُعتبر رائد المفهوم الحديث للصحة النفسية. ويُعتبر بازاليا الطبيب النفسى الأكثر تأثيرًا فى القرن العشرين، وتكريمًا له تم تأسيس مركز يحمل اسمه فرانكو بازاليا فى أبوقير عام ٢٠١١، والمركز تابع لمستشفى المعمورة للطب النفسى.
قبل ثورة بازاليا، قاسى المرضى المصابون باضطرابات نفسية من سوء المعاملة، ومن الحبس خلف جدران المستشفيات النفسية لعقود طويلة، وظل إيداع مريض بمصحة نفسية يعنى فقدانه حريته، وعزله عن العالم لنهاية حياته. وقد استمرت هذه الفكرة حتى تحطمت على يد فرانكو بازاليا، فى ٢٥ فبراير ١٩٧٣، حين وافق على تحطيم أسوار المستشفى الذى يديره؛ للسماح بخروج مجسم كبير صنعه المرضى لحصان يدعى ماركو كالفو، وكان هذا الحصان يجر عربة الغسيل فى المستشفى النفسى فى مدينة إيطالية، وعندما تقدم فى العمر وأصبح بطىء الحركة، لا يقدر على العمل وجر العربة، قررت السلطات التخلص منه بقتله، لكن المرضى نزلاء ذلك المستشفى كتبوا رسالة يعترضون فيها على ذلك ويطالبون بتقاعد كريم للحصان، فاستجاب مسئولو المدينة، وقاموا ببيع الحصان لصيدلانى سمح له أن يقضى سنواته الأخيرة فى مزرعته حتى فارق الحياة.
بعد فترة من وفاة الحصان صنع المرضى تمثالًا عملاقًا من الورق المقوى للحصان، كان التمثال ضخمًا؛ ولم يتمكنوا من إخراجه من بوابة المستشفى، اقترح البعض تفكيكه وإعادة تركيبه خارج المصحة، لكن فرانك بازاليا، مدير المستشفى، قرر تحطيم الأسوار ليخرج التمثال كاملًا كما صنعه المرضى، ورافق التمثال مئات المرضى الراغبين فى العودة إلى المجتمع والخروج من أسر المستشفى النفسى.
لم تكن فكرة الدمج المجتمعى للمرضى لدى بازاليا وليدة هذه الواقعة، لكنها كانت فكرة دعا إليها مبكرًا، حيث شارك فى المؤتمر الدولى الأول للطب النفسى الاجتماعى، الذى عُقد فى لندن فى عام ١٩٦٤، ببحث عنوانه «تدمير المستشفى النفسى باعتباره مكانًا للإحالة المؤسساتية» وذكر أن «الطبيب النفسى اليوم قد اكتشف، على نحو مفاجئ، أن الخطوة الأولى نحو علاج المريض متمثلة فى عودته إلى الحرية التى- حتى هذه اللحظة- يسهم الطبيب النفسى نفسه فى حرمانه منها»، وأن «اكتشاف الحرية أوضح الأمور التى يمكن للطب النفسى التوصل إليها».
وفى عام ١٩٦٨ نشر بازاليا كتاب «المؤسسة مرفوضة» وتضمن الكتاب نقاشات مناهضة للتعسف المؤسساتى فى مجالات أخرى: المصانع، والجامعات والمدارس، وحقق هذا الكتاب نسبة قراءات واسعة النطاق.
وواصل فرانكو بازاليا جهوده من أجل حرية المرضى النفسيين وضمان معاملة لا تهدر إنسانيتهم حتى تمت الموافقة فى ١٩٧٨، على القانون المعروف باسم «قانون بازاليا»، وهو قانون يمثل تحولًا كبيرًا فى نهج العلاج فى الصحة النفسية وحقوق الأفراد الذين يعانون من أمراض نفسية فى إيطاليا، ومنه انتشرت الفكرة فى جميع أنحاء العالم، وكان الهدف من قانون بازاليا هو تعزيز نهج أكثر إنسانية وارتكازًا على المجتمع فى الرعاية الصحية النفسية، والتشجيع على إغلاق المستشفيات النفسية ودمج الأفراد الذين يعانون من أمراض نفسية فى معترك الحياة، كما يركز القانون على حقوق المرضى، ويسعى إلى القضاء على التمييز والوصمة المرتبطة بالأمراض النفسية.
أصبح بازاليا مشهورًا بإلغائه المستشفيات النفسية فى إيطاليا، التى وصمها باللا عقلانية على اعتبار الأمراض النفسية مكافئة لجميع الأمراض الأخرى.
فى عام ١٩٧٩، قبل عام واحد من وفاته، صرح فرانكو بازاليا فى أحد المؤتمرات، قائلًا: «نحن ضعفاء وننتمى إلى الأقلية، ولا يمكننا الفوز؛ لأن القوة تفوز دائمًا، لكن يمكننا فى أفضل الأحوال أن نقنع الآخرين بالقيم الفضلى، وفى اللحظة التى يقتنعون فيها، سنفوز، أى إننا ننشئ حالة تغيير يصعب العودة عنها».
وبعد مرور أربعة وأربعين عامًا على وفاة فرانكو بازاليا، ما زال العالم ينظر بتقدير لمساهمته فى علم النفس الاجتماعى، على الرغم من معارضة قطاع من الأطباء النفسيين فكرة إلغاء المستشفيات النفسية.
فقد أعربت عالمة الأعصاب الإيطالية، الحائزة على جائزة نوبل فى علم النفس أو الطب ريتا ليفى مونتالسينى عن إعجابها بفرانكو بازاليا، من خلال وصفه بمؤسس المفهوم الجديد للمرض النفسى، وبالعالم المتميز وبالإنسان الجيد الذى عايش المشكلة المأساوية للمرض النفسى بشكل حقيقى.
وصفت الطبيبة النفسية الأمريكية ورئيسة معهد علم الظواهر العالمى آنا تيريزا تيمينيكا «بازاليا» بأنه أكثر أطباء النفس الأوروبيين تأثيرًا وابتكارًا منذ فرويد.