المؤرخ خلف الميري يروي ذكرياته مع الثانوية العامة: البعبع الذي كنا نخافه (خاص)
يستعيد المؤرخ د. خلف الميري، ذكرياته مع الثانوية العامة، مشيرًا إلى أن الثانوية العامة، الحبل المشدود الذي كنا نمشي عليه، أو أنها البعبع الذي كنا نخافه، أو يُمثل الرعب لدينا، ولكن كل ذلك ينتهي ونحن نجلس حول المذياع نسمع المذيع ينطق رقم جلوسنا، عندها يتحول الانتظار والصمت المطبق إلى زغاريد تملأ الدار، ثم يكون علينا الانتظار الأيام القادمة بغية معرفة مؤشرات التنسيق وما تسفر عنه نتائج التوزيع.
قبل نصف قرن لم يكن أبناء الصعيد يقبلون على الثانوية العامة
وتحدث "الميري" لـ"الدستور" قائلًا: قد يكون ما أرويه هنا عن الثانوية العامة وذكرياتي معها مختلفًا بعض الشيء ارتباطًا بالبيئة، التي نشأت فيها والظروف المغايرة بين طبيعة الريف والمدينة، وخاصة إذا كان ذلك مرتبطًا بقلب الصعيد وإبان فترة زمنية تزيد عن النصف قرن، أي منذ سبعينيات القرن الماضي، فلم يكن الكثيرون من أبناء القرية يُقبلون علي الالتحاق بها مقارنة بالدبلومات الفنية التي كانوا يفضلونها لعدة أسباب منها ارتباط الخريج بالعمل الزراعي أو الحرفي الصناعي أو التجاري للعمل الإداري والمحاسبي، وكان يزيد من هذه الأفضلية أن القوي العاملة كانت سرعان ما تقوم بإرسال خطابات التعيين في غضون عام أو عامين، ويجد خريج هذا التعليم نفسه موظفا له قدره وراتبه الوظيفي، بينما زميله الذي التحق بالثانوية ها هو يكمل تعليمه بعد 4 أو 5 سنوات وينتظر الوظيفة بعدئذ، ومن ثم لم يكن هذا التكالب من أبناء الريف وأحيانا المدينة بنفس القدر الموجود الآن علي الالتحاق بالثانوية العامة.
أمر آخر يرينا كم كانت الثانوية العامة آنئذ بعبعًا، فقد كان جُل الاعتماد علي مدرسين المدرسة فقط وللأمانة والحقيقة فقد كانوا مخلصين في رسالتهم، ويؤدي غالبيتهم عمله على أكمل وجه إلا فيما ندر، ولم تكن هناك سناتر أو دروسًا خصوصية بمثل هذا الذي نراه الآن أو حتى قريبًا منه، وعلى العكس فقد كانت الدروس الخصوصية قليلة وفي بعض المواد، ولكن المشكلة أن المدرسة الثانوية كانت غالبًا واحدة وحيدة في المدينة فقط، ومن ثم كثافة الأعداد، وكانت قلة المواصلات وكذلك بُعد المسافة بين الأرياف والقري والنجوع مع المدينة تُمثل عائقا مُضيعا للوقت الأمر ينعكس سلبا علي تحصيل غالبيتهم لدروسه، ولذا كان البعض منهم يستأجرون سكنا مشتركا أو حجرة مستقلة في المدينة بعيدا عن الأسرة التي يذهبون لها نهاية كل أسبوع.
ويلفت "الميري" إلى: لقد كانت الثانوية العامة لها طبيعة خاصة آنئذ تبعًا لظروف أبناء كل بيئة، ولذلك لم يكن عجيبًا أنه عند ظهور نتيجة أبناء القرية كنا نجد الغالبية قد رسبوا وفي بعض الأحيان لم ينجح أحد، ومن ينجحوا على قلتهم تكون مجاميعهم دون المستوى الذي يؤهلهم للالتحاق بالكليات فيلتحقون بمعاهد متوسطة وفي بعض الأحيان عالية، اللهم إلا فيما ندر أن يحصل أحد أبناء القرية على مجموع يؤهله للالتحاق بإحدى كليات القمة، ولذا سيفكر أهل القرية في كيفية قهر هذا المستحيل البعبع، وخاصة أن كل قرية تفخر بتفوق أبنائها مقارنة بالأخريات، الأمر الذي سيجعلهم يفكرون في فتح قاعات وفصول المدرسة الإبتدائية الوحيدة الموجودة آنئذ في المساء، بعد عودة الطلاب الذين كانوا يساعدون ذويهم في الحقول ومختلف أشغالهم، واستغلال أشهر الأجازة الصيفية لتقديم شروحات للمقررات الدراسية مجانا لطلاب الشهادة الإعدادية حتي يمكنهم الحصول علي مجاميع تؤهلهم للالتحاق بالثانوية العامة، وكذلك شروح المقررات لطلاب المراحل الثلاث للثانوية العامة (الأولي والثانية والثالثة) الأمر الذي أوجد طفرة في ارتفاع مستوي ومجاميع أبناء القرية، لأنهم كانوا حين بدء الدراسة، قد درسوا أكثر من نصف المقررات، وكان هذا باعثًا لهم علي المُضي في البقية الباقية الأمر الذي جعل التفوق والنبوغ طبيعيا بينهم، وأصبح الالتحاق بسائر الكليات القمة أو سواها شيئًا يسيرًا..
لم يكن مجموع 90٪ حتى في الأحلام الخيالية
في هذه البيئة الريفية وبين هدوء وجمال الطبيعة نشأ صاحبنا، وتفتحت حاسته الإبداعية على كتابة الشعر منذ مرحلة الإعدادية، وتطلع بآماله أن يُصبح كاتبًا أو شاعرًا وسبيله في ذلك الالتحاق بإحدى الكليات أو الأقسام التي تصقله في هذا الصدد، ومن ثم فقد حدد هدفه مُسبقا والتحق بالقسم الأدبي أو الشعبة الأدبية وحصل صاحبنا في اللغة العربية علي الدرجة النهائية بعد إضافة المستوي الرفيع (55+5)، وعلي مجموع كلي يقارب 75%، وكان هذا شيئا كبيرا، لأن الأول علي الجمهورية في الأدبي لا يتعد التسعين في المائة، وفي العلمي قد يزيد عن هذه النسبة بقليل، ولم تكن هناك حتي مجرد أحلام في المجاميع الخيالية التي تقارب أو تقترب من المائة في المائة، ومن ثم اختار كلية الآداب جامعة المنيا حيث المحافظة التي ينتمي إليها ويقطنها وعائلته، ويراوده الأمل في الالتحاق بقسم اللغة العربية، بُغية صقل موهبته بالدراسة الأكاديمية، وأمام شباك الرغبات حيث استمارة اختيار القسم تحدث المفاجأة، فقد أبلغه رئيس شئون الطلاب أنه سيحصل علي مكافأة التفوق في المجموع الكلي ومكافأة التميز في اللغة العربية، ولكن يجب عليه أن يُوقع إقرارا بأنه يقبل العمل مُدرسا للغة العربية ولا يُغادر البلاد لمدة خمس سنوات، وهنا يثور صاحبنا في أنه يريد الثقافة والمعرفة دون قيود أو يلزم نفسه بإقرار من هذا القبيل، لأنه يأمل في سريرته أن يُصبح أديبا أو كاتبا رصينا، واحتدم النقاش الصعيدي دون جدوي، ومن ثم اتخذ صاحبنا قراره سريعا بالتحول إلي الالتحاق بقسم التاريخ رغبة في مزيد من الثقافة والمعرفة.
إذاعة مجاميع الثانوية العامة بالراديو
ونعود إلى لحظة إعلان النتيجة، فقد كان أحد شباب القرية يذهب مُحملا بأرقام جلوس أبنائها وبرفقته بعض أقرباء الطلاب، وأذكر أن الذي كان يقوم بذلك من أبناء القرية - عليه رحمة الله - إعتاد هذا العمل التطوعي لعدة سنوات، وكان نموذجًا فريدًا في الإيثار وحب الآخرين، ومن المفارقات أنه هو نفسه كان قد رسب في إحدى السنوات ومع ذلك كان سعيدا وهو يخبر الآخرين بنجاحهم ومجاميعهم وكان من بينهم أخيه الأصغر، ونعود إلي الفرحة الكبرى بإعلان النتيجة وسماعها حين الالتفاف حول المذياع حيث كان يتم إذاعة أرقام جلوس الناجحين في إذاعة الشعب علي ما أذكر، وهي التي ستحل محلها إذاعة الشباب والرياضة بعدئذ، وكانت تستغرق اليوم بأكمله ويتم نطقها بأسماء المدارس في المحافظات، ومعها الانطلاقة الكبرى بالزغاريد الذي تسجل وتؤكد اللحظة الخالدة لزوال البعبع.