مكتبات المثقفين 43
أحمد صبرة: الكتب ميتة ما لم يقرؤها أحد (حوار)
المكتبة أبرز معالم منازل الكتاب والمثقفين، بل ربما تتحول منازل بعضهم إلى مكتبات يعيشون فيها. وحول مكتبات المثقفين، وكم فقدوا منها في ترحالهم، وهل يُعير الكاتب كتبه أو ويستعيرها، وغيرها من المحاور تقدمها "الدستور" في سلسلة حوارات مكتبات المثقفين.
وفي الحلقة الـ43 من سلسلة حوارات مكتبات المثقفين، يحدثنا الكاتب الروائي أحمد صبرة، عن مكتبته وأول كتاب اقتناه، وما الكتاب الذي لا يستطيع الاستغناء عنه وأهم الكتب في مكتبته وغير ذلك.
ما أول كتاب اشتريته ومتى؟
الكتاب الأول الذي أذكر أني اشتريته هو "الكون الأحدب" لعبد الرحيم بدر، كنت آنذاك في الصف الأول الثانوي أوائل السبعينيات، اشتريت كتبا قبله في المرحلة الإعدادية، لكني لا أذكرها الآن. في هذه الفترة كنت شغوفا بالفلك وعلومه، وأقرأ كل ما أستطيع قراءته حوله، وما زلت حتى اليوم. وجدت الكتاب عند أحد باعة الكتب القديمة بمحطة مصر بالإسكندرية، وكان ثمنه 25 قرشا، ولم أكن أحمل وقتها في جيبي إلا 20 قرشا.
كنت أخطط أن أذهب بهذه القروش إلى إحدى السينمات القريبة في محطة الرمل، وأتناول وجبة، وأركب مواصلات بما سيتبقى منها. لكن الكتاب أغراني، وبقليل من "المحايلة" أو ربما كثير منها، رق قلب البائع، وأعطاني الكتاب بكل القروش التي معي. وكانت المعضلة، كيف أعود إلى بيتي في الورديان، والمسافة ليست قصيرة، كان يمكن أن أركب الترام، ولا أدفع الأجرة؛ أي "أزوغ" من الكمساري مثلما يفعل كثيرون، لكني نظرت إلى نفسي وإلى الكتاب الذي معي، وقلت لا ينبغي لك أن تفعل هذا ومعك الكتاب، أنت إنسان مثقف لا يجوز عليك هذا الأمر. قررت أن أعود إلى بيتي سيرا على قدميَّ، وقد كان.
لا أنسى هذا الكتاب لأني لم أنس الظروف المحيطة بشرائه، أثَّر فيَّ هذا الكتاب وقتها تأثيرا غير محدود، فقد كان يحاول تبسيط نظريتي النسبية: الخاصة والعامة لأينشتاين، ومن ضمن ما كان يقوله إن هناك قلة فقط في العالم هم الذين فهموا النظرية، ولأني فهمت الكتاب تماما بعد أن قرأته، فقد عددت نفسي من هذه القلة، وكنت مزهوا بنفسي أمام أصدقائي. كنت وقتها واحدا من الطلاب المسؤولين عن إذاعة المدرسة في مدرسة الورديان الثانوية العسكرية، وقررت أن أعرض وقتها يعض أفكار الكتاب للطلاب. أذكر أن فكرة من هذه الأفكار، حين عرضتها، أثارت سخرية مني ومن الكتاب بقيت معي حتى تخرجت من المدرسة. يتحدث المؤلف عن سرعة الضوء التي هي السرعة القصوى في الكون؛ 300 ألف كيلومتر في الثانية، وهي سرعة لا يبلغها أي جسم آخر، ثم إن أي جسم، كلما ازدادت سرعته، يتقلص زمنه، فإذا وصل إلى سرعة الضوء، وهذا مستحيل، فإن زمنه يصبح صفرا. لكن ماذا لو سافر شخص بأكثر من سرعة الضوء، هنا ينقلب الزمن ويتحول إلى سالب، بمعنى أن من يسافر اليوم بأكثر من سرعة الضوء، فسيعود بالأمس. هنا انفجرت طوابير الفصول ضحكا، حتى المدرسون. وأصبح يشار إليَّ بأنني ذلك الشخص الذي يقول إنك من الممكن أن تسافر اليوم وترجع "امبارح".
أعدت قراءة الكتاب منذ سنتين لأقارن فهمي له آنذاك بفهمي له الآن. ووجدته كتابا بسيطا ساذجا، ومقدار ما هو علمي فيه قليل.
ما أهم الكتب في مكتبتك؟
بجانب كتب الفلك، كنت شغوفا، وما زلت، بسير العظماء، وبالطبع، كانت "الأيام" لطه حسين أول ما أبحث عنه، أسرتني "الأيام"، خاصة في جزئها الأول، أسرتني لغتها، وروح التحدي والطموح والعناد فيها، وهذا الإصرار الذي جعل فتى صغيرا فقيرا ضريرا واحدا من أهم المفكرين المصريين في القرن العشرين. قادتني الأيام إلى اثنين من أهم كتب طه حسين: "مع المتنبي" و"الفتنة الكبرى"، أذكر أني استعرت الكتاب الأول من مكتبة المدرسة، وكنت أقرؤه في أثناء الحصص التي لا يتفاعل فيها المدرس مع الطلاب، أو أن تكون المواد سهلة الفهم اعتمادا على أني أجلس في الصف الأخير، ولن ينتبه لي المدرس، وقد حدث أن انتبه أحدهم، فأخذ مني الكتاب ونظر إلى عنوانه، ثم أعاده لي وهو يقول" "ليس غريبا على من يقول إن من يسافر اليوم قد يرجع بالأمس أن يقرأ طه حسين." ولا أدري، حتى الآن، هل كان يسخر مني أم يثني عليَّ؟
ثنائية طه حسين والعقاد، وأيهما أفضل وأهم، لم تظهر عندي في المرحلة الثانوية، إنما ظهرت بعد ذلك في المرحلة الجامعية في أثناء دراستي بقسم اللغة العربية-آداب الإسكندرية. لكن في تلك المرحلة، أي الثانوية، بدأت أقرأ ليوسف السباعي ومصطفى محمود وأنيس منصور، السباعي بسرده البسيط، ولغته السهلة التي كانت ممتعة لي في ذلك الوقت، الآن أراه روائيا متوسط الموهبة، نال شهرة لأسباب كثيرة ليس من بينها قدراته السردية، ومصطفى محمود بتوليفته بين قضايا العلم والدين، وبخاصة في كتبه "لغز الحياة" و"لغز الموت" و"حوار مع صديقي الملحد" وقبل ذلك كتابه الأول الذي بدا فيه ملحدا "الله والإنسان"، هذه التوليفة التي ظهرت في برنامجه الأشهر "العلم والإيمان" الذي كان يحظى بأعلى نسبة مشاهدة بين برامج التلفزيون، مردودها السلبي الآن أعلى بكثير من مردودها الإيجابي، مع ذلك، فإني أكن لهذا الرجل تقديرا واحتراما عاليا إنسانيا وفكريا، لكن هذا له حديث آخر. وأنيس منصور بحكايات العجيبة وأسلوبه الرشيق في كتبه "حول العالم في 200 يوم" و" الذين هبطوا من السماء" و"الذين صعدوا إلى السماء" و"أرواح وأشباح"، وكلها كتب لا تجعل منه مفكرا أو فيلسوفا كما كان يظن في نفسه، إضافة إلى اللغط الكبير الذي دار حول كثير من مروياته، والتي تقربها من المرويات الكاذبة. ما يقربني من أنيس منصور حتى الآن، هو حبنا المشترك لصوت فايزة أحمد، وهو حب يجعلني أسامحه في كل خطاياه.
لم يبق معي من كل الأسماء السابقة إلا طه حسين، كلما أعدت قراءة كتاب له، ازددت له تقديرا وعرفانا بفضله على الثقافة العربية. كل من سبق وكثيرون غيرهم، يظهر مثلهم لكل جيل، مثل أحمد خالد توفيق للجيل السابق، وربما الحالي. يغرزون في الشباب حب القراءة، ثم يذهبون، وتتلاشى آثارهم.
كم مكتبة فقدت لظروف خارجة عن إرادتك؟
تضخمت مكتبتي، وأصبحت في حدود الآلاف من الكتب، وفي وقت ليس بعيدا جدا قررت أن أتبرع بجزء منها، ليس بسبب ضيق المكان، فمكتبتي موزعة على أكثر من مكان، لكن لأني وجدت أن هناك من يمكن الاستفادة بهذه الكتب مثلي. ولأني الآن تحولت إلى القراءة الرقمية بجانب الورقية، بحوزتي تابلت يحوي ما يقرب من سبع مئة كتاب، أحمله معي في أغلب الأحيان. تبرعت لأتليه الإسكندرية ببضع مئات من الكتب وقت أن كانت تشغل الفيلا الأنيقة بالأزاريطة، ولا أعلم إلى أين ذهبوا بالكتب، بعد أن طردوا من المكان، وببضع مئات أخرى لجمعية "مستقبل أفضل". وعرضت على صفحتي في الفيس بوك أن تأتي هيئة علمية تأخذ من عندي بضع مئات أخرى، لكن لم يأت أحد. ظني أن الكتب ميتة ما لم يقرؤها أحد، هي تبعث إلى الحياة حين يمسكها قارئ، ويتفاعل معها، دون ذلك، فهي مجموعة من الأوراق محفوظة في انتظار من يقدرها حق قدرها. ومن هذه الزاوية قررت أن أتخلص من أكبر جزء من مكتبتي، فلدي بديل عن هذه الكتب موجود معي أينما كنت، إضافة إلى أن كثيرا من هذه الكتب اشتريته، وظل بغلافه سنين طويلة، أو أني قرأت فيه بضع صفحات، ووجدت أنه أقل مما كنت أتوقع، أو أني اشتريته في وقت انشغالي بحقل معرفي ما، ثم تلاشى اهتمامي بهذا الحقل، وفي كل الأحوال، فهناك من هم يستحقون هذه الكتب أكثر مني، لا أحتفظ بالكتب للوجاهة الاجتماعية، أو لأجل أن يقال عني إنه صاحب مكتبة كبيرة كما كنت أسعى لذلك في بدايات القراءة الأولى.
ما الكتاب الذي لا يمكنك الاتستغناء عنه؟
هناك كتب عندي لا يمكن الاستغناء عنها، ولا التفكير في ذلك، ولأن عملي هو في تدريس العربية وآدابها، فإني لا يمكن الاستغناء عن الكتب الأساسية في النحو، وليس هناك كتاب محدد فيه، وفي حقل تاريخ الأدب لا يمكن الاستغناء عن كتب شوقي ضيف، وبالمناسبة، الجهد الذي قام به هذا الأستاذ العظيم تجد صداه في كل مكان يدرس العربية في أي بقعة من العالم، لا توجد جامعة في العالم تهتم بالعربية دون أن تجد كتب شوقي ضيف فيها، وكتاب "الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني، وفي حقل نظريات السرد لا يمكنني الاستغناء عن "معجم السرديات الذي أصدرته دار النشر "روتلدج" (لم يترجم إلى العربية حتى الآن)، وعن كتاب "طرائق تحليل السرد الروائي" الذي يحوي بحوثا لأهم من أصلوا لنظريات السرد المعاصرة، وفي حقل النظريات الأدبية هناك عدد كبير من الكتب لا يمكن الاستغناء عنها، لعل أهمها "نظرية الأدب" لرينيه ويلك، وهو كتاب هيمن على الدراسات الأدبية في جامعات أوربا وأمريكا مدة طويلة من الزمن، وكتاب "نظرية الأدب" (أيضا) لتيري إيجلتون.
أما خارج حقل التخصص، فالكتاب الذي لا أستغني عنه أبدا هو "مثنوي" لجلال الدين الرومي، وإعجابي بهذا الرجل وبأستاذه شمس الدين التبريزي لا ينقضي. في روايتي الأخيرة "فاطمة وما جنت" بعض آثار من روح هذا الرجل، حتى أني أسميت أحد أبطالها باسمه "جلال الدين". وأما الكتاب الآخر، فهو ليس كتابا واحدا، بل مجموعة أعمال الروائي الأهم في روسيا والعالم ديستوفيسكي، لا أمل من العودة إليه، ولا أمل من قراءته، وبخاصة "الجريمة والعقاب". وقد تأثرت به كثيرا في طريقة صياغة الحوارات وإدارتها في رواياتي.
هل تعير كتبك لأحد وهل تستعيدها أم لا ترد إليك، وهل تستعير كتب من الأصدقاء وهل تعيدها؟
لا يمكنني أن أمتنع عن إعارة كتبي لأصدقائي الأعزاء، بعضهم يردها، وأكثرهم لا يفعل. آخر من لم يفعل صديق مغربي أخذ مني السيرة الذاتية لإيهاب حسن "خارج مصر" بترجمة السيد إمام، وظلت معه سنتين، دون أن أطالبه بها، ولما احتجت إليها استأذنته أن آخذها منه لبضعة أيام (وهي في الحقيقة ملكي)، ثم سأعيدها له، وقد وافق على هذا الشرط. وقد وفيت بوعدي، وأعدتها، وفي إجازة لي إلى مصر ذهبت إلى دار العين "ناشر الكتاب" وأخذت منهم نسخة أخرى. لا أغضب ممن يستولون على كتبي، فأنا أفعل مثلهم. وقد كنت في فترة متأثرا برأي ليوسف السباعي يقول فيه إن سرقة الكتب حلال، قال ذلك وهو وزير للثقافة، وأذكر أنه جاء إلى الإسكندرية بعد أن قال هذا الرأي يفتتح قصرا للثقافة في أحد الأحياء الشعبية، وكان القصر يحتل "بدروم" أحد "بلوكات" المساكن الشعبية في هذا الحي. ولما رآه السباعي قال: هذا ليس قصرا للثقافة، بل "خُن"، بضم الخاء، للثقافة، لم أكن أسرق الكتب بالطبع، بل كنت أفعل أمرا سيئا آخر، فهذا القصر "الخن" كان يغرق بالمياه وقت أن ينزل مطر شديد على الإسكندرية، والنتيجة أن هناك ما يتلف من محتويات القصر. يبدو أن مدير القصر التفت إلى أنه يمكن أن يستفيد من هذا الأمر بطريقته، فكان يبيع لنا كتب القصر، ويعدها مما أتلفه المطر، وظل هذا الأمر سنين حتى وشى به أحد الموظفين.
هل تحدد ميزانية لتزويد مكتبتك موسميا في مناسبات كمعرض الكتاب؟
بعد أن تخرجت من الجامعة، وعينت معيدا، وأصبح البحث العلمي عملي الأساسي، كنت أحدد ميزانية سنوية لشراء الكتب مواكبة لمعرض الكتاب في القاهرة، كما كنت مسؤولا عن شراء الكتب لقسم اللغة العربية من المعرض بضع سنوات، الآن لا أشتري كتب التخصص إلا في أحوال شديدة الندرة، جوجل أصبح فيه كل شيء، أما ما أشتريه فهو الروايات، وأحب أن أقتني روايات لكتاب أمريكا اللاتينية، وبخاصة خوسيه ساراماجو، وماريو فارجاس يوسا، الأول روايته التي أثارت جدلا كبيرا "الإنجيل يرويه المسيح"، والثاني في روايته البديعة "حفة التيس".
هل فكرت أن تستغني عن مكتبتك أو كتبت وصية بشأنها؟
لن أوصي بمكتبتي لأي أحد أو أي جهة، فليأخذها من يأخذها. بعض الناس يقول لي فلتجعل مكتبتك في مكان واحد باسمك، أي جامعة أو جهة علمية، ولا أظن أني سأفعل، فمكتبة رجل مثل العقاد أو زكي نجيب محمود أو طه حسين تستحق لأننا من خلالها يمكن التعرف على المنابع الفكرية التي كونت هؤلاء، أما أنا وأغلب جيلي فلسنا شيئا حتى يتذكرنا الناس، سنترك العالم في حال أسوأ مما كان عليه وقت أن جئنا إليه، فما قيمة أن تنسب هذه المكتبة إليَّ أو إلى غيرى. الكتب التي اقتنيتها ستصل حتما إلى شخص ربما يحدث تأثيرا في هذا العالم أكثر مما فعلت.