«العيال فهمت».. لعلاج الاكتئاب
دعك من محمد صبحى وأرضه المسطحة مثل أفكاره، ودعك من التكالب على السفر لتقديم مسرحيات معلبة سخية الإنتاج، وتوجه إلى مسرح ميامى فى وسط القاهرة، لمشاهدة العرض الجميل «العيال فهمت» من إنتاج الدولة، ليس فقط لكى تستمتع بعمل فنى رفيع المستوى، ولكن لكى تطمئن على جهاز المناعة القوى القادر على حماية الوجدان المصرى من القراصنة.
المسرحية التى كتبها طارق على وأحمد الملوانى، وأخرجها الموهوب الكبير شادى سرور، مستوحاة من مسرحية «صوت الموسيقى» الشهيرة المأخوذة هى الأخرى عن مذكرات الراهبة النمساوية ماريا، التى عثر عليها الفريق الغنائى الأمريكى رودجرز وهامرشتاين فى الخمسينيات، وقدمها المخرج الأمريكى روبرت وايز للسينما سنة ١٩٦٥، وقامت ببطولته جولى أندروز، ورشح لعشر جوائز أوسكار، حصل على نصفها، وفى مصر قدمت باسم «موسيقى فى الحى الغربى» بثلاثى أضواء المسرح، وحققت نجاحًا ملحوظًا سنة ١٩٧١. فى الفيلم الأمريكى تركت الراهبة الدير وتفرغت لتربية سبعة أطفال بعد رحيل أمهم، لانشغال والدهم الضابط البحرى، الذى يعتمد الصرامة فى تربيتهم كأنهم جنوده، وتتبدل الأحوال مع المربية التى نجحت من خلال الموسيقى فى اكتشاف مواهبهم وطاقاتهم المكبوتة، وصالحتهم على العالم. فى العرض الجديد الذى قدمه المسرح الكوميدى بقيادة ياسر الطوبجى، أنت أمام «صوت الموسيقى» الطازج المبهج، كتابة ذكية خفيفة الظل، كوميديا غير مفتعلة، أشعار مغزولة بمهارة دراماتورجى موهوب كتبها طارق على، تمثيل على أعلى مستوى، موسيقى وألحان لأحمد الناصر تستدعى اللحظات السعيدة والشجية ببساطة وبدون «حزق»، ديكور دافئ وذكى وبسيط للدكتور حمدى عطية، الأب هنا طيار وليس ضابطًا بحريًا، قام بدوره باقتدار رامى الطومبارى، وهو فنان كبير جدًا يستحق مكانة أكبر وسط نجوم مصر، أب قاسٍ جدًا، يعتقد أن مصائر أولاده مسئوليته، يعيشون فى «قفص» رسم حدوده، نجح الطومبارى فى القبض على الشخصية بمهارة شديدة، أثناء سفره يترك المهمة لـ«زكريا» الذى قام بدوره فنان كبير آخر هو عبدالمنعم رياض، رجل طيب، لا يملك ما يؤهله لتربية أطفال متنوعى الهوايات ومقهورين، ولكنه يملك مشاعر فطرية دافئة أقرب إلى مشاعر الأمهات، جعلته ينحاز فى النهاية إلى الأولاد على حساب مستقبله، قرر الأب الاستعانة بمربية، وبعد مقابلات كثيرة وقع الاختيار على «نغم»، التى كسبت ود الأطفال بروحها المتحررة وعشقها للموسيقى، الأب يحدد ما هى الموسيقى التى ينبغى أن يستمع إليها أولاده، وما هى الرياضة التى ينبغى أن يمارسوها، تأتى نغم لتفجر طاقاتهم وتربطهم بالواقع، وتساعد كل واحد فى التعبير عن نفسه بتلقائية، ولكى تستثمر هذا التحول تقرر أن تشارك معهم فى مسابقة غنائية، قبل ذلك فاجأ الأبناء الأب باحتفال جميل بعيد ميلاده، ورغم امتنانه وظهور جزء خفى من طيبته، فإنه تخلص من المربية الجميلة التى قامت بدورها باقتدار رنا سماحة حين عرف بأمر المسابقة، وحاول أن يعيد أطفاله إلى القفص الذى نصبه لهم، وعهد إلى زكريا بتنفيذ تعليماته أثناء سفره، ولكنه لم يسافر هذه المرة، ليكتشف أن أولاده ذهبوا للغناء مع نغم، فتحدث المواجهة مع زكريا فى مشهد من أجمل المشاهد على الإطلاق، بين موهبتين جبارتين، ينتهى بذهاب زكريا مع الحلم الكبير الذى يمثله توق الأولاد للحرية والغناء والأمل، نكتشف أيضًا أن الأب كان له حلم هو الآخر وهو التمثيل، ولكن أبوه أجهضه، فقرر أن يجهض أحلام أبنائه، فى النهاية يذهب إلى مكان المسابقة، ويكتشف أنه أخطأ، ورغم عدم الفوز، فإننا شعرنا بانتصار المشاعر البسيطة على «السلطة» الغشيمة التى تعتقد أنها تمتلك المصائر.. عرض جميل جدًا، «قطفة شباب زى الورد» أشاعوا البهجة على مدار ثلاث ساعات تقريبًا، بدون ملل وبدون ابتذال، كوميديا ذكية تنهل من تراث البداهة المصرى الخالص، لم نشعر بملل، ووسط الخط الأساسى يناقش العرض هموم معاصرة، مثل غناء المهرجانات، وبخفة ظل الممثل سعيد محمد «قرفة» تعرفنا على طريقة تفكير صناع هذا الغناء، وأيضًا الأدوار الصغيرة التى تخللت العرض كانت لها تأثير جميل جدًا، مثل دورى المربيتين اللتين تم استبعادهما وقامتا رانيا النجار الكوميديانة الجبارة بدور مربية «لاسعة»، ومنة الحسينى بدور المربية السجانة التى قام الأولاد بتطفيشها، وأيضًا دور محمود الهنيدى الذى حاول التغرير بعاشقة تصميم الأزياء، ودور إيهاب شهاب الذى قام بدور الجار «الرخم»، ورغم قلة المساحة فإن الفنانين الجميلين تركا أثرًا لا يمكن لمشاهدى العرض نسيانه، أما الأبناء فهم البهجة كلها، خفة ظل وانسجام كأنهم أشقاء فعلًا، وكنت أتمنى أن أكتب عن كل شخص على حدة، محمد على ونور شادى وجيسى أسامة وأحمد هشام ورحيم رزق وندى محمد وروضة عز العرب، «التى سعدت بمعرفة أنها ابنة صديقى وحبيبى الشاعر الكبير خميس عز العرب».. وهؤلاء بإذن الله سيكون لهم شأن عظيم فى المستقبل القريب.. أما رئيس البهجة الذى أبهرنا وأضاف على العرض المبهج بهجة من نوع خاص، فهو الطفل على شادى الذى لا تعرف كيف نجح المخرج فى إخراج هذه الإمكانات منه.. عرض أنصح بمشاهدته لأنه مضاد ناجع للاكتئاب.. ويبعث أيضًا على الأمل.