لغز عودة "الفيلم الضَال" إلى يوسف شاهين بعد 30 عامًا
- كيف انتقلت ملكية الفيلم "الضائع" من مؤسسة السينما المصرية إلى "سينماتيك" فرنسا؟
- جماعة السينما الجديدة تتهم "شاهين" و"الشرقاوي" بإظهار مصر بلدًا مُنحلًا وهمجيًا
- نادية لطفي تنسب فيلمًا للروائي صبري موسى بدلًا من موسى صبري!
- "بولا" في مذكراتها تتهم يوسف شاهين بالتواطؤ ضد فيلمها، ونسيت أنه فيلمه أيضًا!
- ظهرت نسختان من الفيلم بطولة مديحة سالم ثم سعاد حسني، فأين نسخة "نادية"؟
- حلمي رفلة كان مشرفًا على إنتاج الفيلم، فجعلته نادية لطفي مخرجا له
- يوسف شاهين صرخ رافضًا: "أنا مش بقّال"، ثم فعلها
فيلم أخرجه يوسف شاهين بتشجيع ودعم من الرئيس جمال عبدالناصر، فصار فجأة سببًا في هروب "شاهين" خارج مصر.
3 نجمات تبادلن دور البطولة في 3 نُسخ من الفيلم، فكان حاصل ضربِهن في "خلّاط" مؤسسة السينما "سمك لبن تمر هندي".
فيلم كانت نسخته الأولى من تأليف روائي من "تشيكوسلوفاكيا"، والثانية من تأليف رئيس تحرير مصري، والثالثة من تأليف روائي مصري كبير، وبعد نصف قرن نَسَبناه خطأً أو سهوًا إلى روائي مصري آخَر!
إن كنت تعتقد في "النحس"؛ فقصة هذا الفيلم "الضال" وجبة مُشبِعة لخيالك!
بدأت "المتاهة" حين قرأت ما جاء في كتاب ممتع صدر حديثًا، يتناول سيرة "ساحر الكتابة" صبري موسى. وحزنت مع المؤلف على مصير ما وصفه بـ"الفيلم الضائع" الذي تم تصويره أثناء بناء السد العالي.
واستند المؤلف في هذه المعلومات إلى مصدر مهم جدا، هو شهادة نادية لطفي ذاتها، ومذكراتها التي روتها للمؤلف نفسه منذ عام 2005 تقريبًا، وأصدرها في كتاب عام 2021.
وفيها تقول نادية لطفي: سافرت مع أحمد مظهر والمخرج حلمي رفلة إلى أسوان لتصوير فيلم سينمائي كتب له السيناريو "صبري موسى". وخلال 40 يومًا، صوّرنا أحداث الفيلم في أجواء صعبة أثناء بناء السد العالي. وجلست أنا وأحمد مظهر بالقرب من الرئيس عبدالناصر والزعيم السوفيتي خروتشوف في منصة الاحتفال بتحويل مجرى نهر النيل.
وتصدمنا نادية لطفي بمصير الفيلم الذي لم يكتمل، ولم تعرف مصيره. والأكثر غرابة، فخرها بأنها لم تهتم ولم تستفسر عن سر توقف مشروع الفيلم. ورغم أن الحل بسيط جدًا، أن تسأل مخرج الفيلم بشكل مباشر، ولو من باب الفضول، إلا أنها فضّلت فتح الباب أمام "تفسيرات سمعتها"، مجرد "سمع".
من بين هذه التفسيرات، أن فيلمها تعرض للتواطؤ، بهدف التخلص منه لصالح فيلم آخر كان يستعد يوسف شاهين لتصويره في السد العالي أيضًا.
تعاطفت مع نادية لطفي بالطبع، وحزنت على مصير فيلم سينمائي يحوي "وثيقة بصرية" بهذه الأهمية. لكن الفضول أكلني، وأردت البحث في ما لدي من أرشيف صحفي محدود، لقراءة خبر أو الاستمتاع بصورة من هذا الفيلم الضائع.
الخبر اليقين
ولأن تحويل مجرى نهر النيل تم في مايو 1964، بدأت البحث في أرشيف مجلة "الكواكب" الفنية، مطلع ذلك العام. وكان أول ما عثرت عليه، خبرًا نُشر في نهاية شهر مارس 1964، تحت عنوان: "بطلة ثانية تتزوّج مهندسًا بالسد العالي"، مع صورة مُبهجة لنادية لطفي.
كتب محرر مجلة "الكواكب" أن نادية لطفي ستسافر إلى أسوان لتصوير فيلم تدور أحداثه حول السد العالي، خلال الفترة بين 12 أبريل و15 مايو، لافتا إلى أن نادية لطفي تؤدي دور فتاة من المعادي، في فيلم كتب قصته: "موسى صبري"، دون الكشف عن اسم المخرج!
موسى صبري، وليس صبري موسى؟!
هل أخطأ محرر "الكواكب" أم اختلط الأمر على ذاكرة نادية لطفي لاحقًا؟
قبل هذا الخبر بأسبوعين، كان موسى صبري رئيس تحرير جريدة الأخبار يحتفل بصدور كتابه الجديد: "قصة ملك و4 وزارات"، الذي حقق نجاحًا واسعًا. لكن يبدو أن قصته التي كتبها عن السد العالي كانت على العكس من ذلك، سيئة الحظ!
ربما تقول معي إن القصة لموسى صبري، لكن ماذا يمنع أن يكون السيناريو لصبري موسى؟
تنفي لنا هذا الاستنتاج مجلة "آخر ساعة"، التي نشرت عددًا خاص بمناسبة تحويل مجرى النيل، جاء في إحدى صفحاته هذا العنوان: "فيلم تدور أحداثه عندما تغرق أنفاق السد"، وتتصدّر الصفحة صورة للكاتب الصحفي موسى صبري مع تعليق: "موسى صبري صاحب القصة"، مع إشارة إلى أن السيناريو يكتبه "سمير نصري".
إذن فالأرشيف يخبرنا أن لا علاقة لصبري موسى بالفيلم الضائع من قريب أو بعيد، بعكس ما روته لنا "بولا محمد مصطفى شفيق" في مذكراتها.
شاهين ضد شاهين
لكن المفارقة الأكثر إثارة للدهشة، أن مخرج فيلم نادية لطفي هو نفسه يوسف شاهين، وليس حلمي رفلة، كما تقول في مذكراتها أيضًا!
هو يوسف شاهين المخرج الذي تتهمه نادية لطفي في مذكراتها بأنه كان صاحب مصلحة في الإطاحة بفيلمها عن السد العالي لصالح فيلمه هو!
كيف ذلك، وفيلم يوسف شاهين هو نفسه فيلم نادية لطفي، تحت عنوان "غدًا تبدأ الحياة"؟
وكيف يخرج حلمي رفلة فيلما لنادية لطفي عام 1964، وهو لم يمارس الإخراج بين عامي 1962 و1967، في ظل توليه مسؤوليات قيادية في "سينما القطاع العام" بعد التأميم، بحسب ما ذكرته ابنته السيدة نادية حلمي رفلة في تصريحات صحفية حديثة لأستاذنا الكاتب الصحفي أيمن الحكيم؟
كان المخرج حلمي رفلة في أسوان بالفعل وقت تحويل مجرى النيل، لكن ليس بصفته مخرجًا للفيلم، وإنما بصفة ومهام أخرى نعرفها من تغطية صحفية مطولة للكاتب الصحفي عبدالنور خليل، نشرتها "الكواكب" في مايو 1964 تحت عنوان "أنفاق السد تتحول إلى بلاتوه".
وفي ختامها يقول عبدالنور خليل: "أطرف ما علق بذهني، هو منظر حلمي رفلة الذي يشرف على إنتاج الفيلم، وهو يركب قاربًا صغيرًا لينتقل إلى الضفة الأخرى للنيل، بحثًا عن غرف فندقية لإقامة فريق الفيلم".
فكيف حوّلته نادية لطفي في مذكراتها إلى مخرج فيلم "غدًا تبدأ الحياة"؟!
كانت نادية لطفي في عام 1964 بطلة لستة أفلام دفعة واحدة، حتى أن "الأهرام" نشرت خبرًا قبل سفر نادية إلى أسوان مباشرة، يفيد بأنها تذهب إلى ستوديو مصر يوميًا لاستكمال تصوير فيلمها الشهير مع سعاد حسني: "للرجال فقط". فهل كان زحام أفلامها في ذلك العام، زاد من ارتباك ذاكرتها؟
أم كان بين نادية لطفي ويوسف شاهين غضبًا مكتومًا تسبب بمرور السنوات في أن يختلق عقلها "نظرية مؤامرة" غير منطقية، لاتهام شاهين بأنه تواطأ لإفشال فيلمه، قبل أن يكون فيلمها هي؟
ماذا لو كانت نادية لطفي سألت يوسف شاهين عن مصير الفيلم بكل بساطة؟ بدلًا من المكابرة، والوقوع في فخ هذه الاستنتاجات البوليسية؟
ولكي نشارك شاهين دهشته، فقد نشرت المجلات الفنية إعلانات فيلم "غدًا تبدأ الحياة" بالفعل، ومنها إعلان شركة "فليمنتاج"، الذي جاء فيه: الشركة العربية للإنتاج السينمائي العربي تفخر بتقديم الإنتاج الرائع لموسم 1964/1965، فيلم "غدا تبدأ الحياة"، بطولة نادية لطفي وأحمد مظهر، وإخراج يوسف شاهين!
ألم تقرأ أو تشاهد نادية لطفي هذا الإعلان في الصحف والمجلات وقتها؟
ألم تذكّرها هذه الإعلانات أن مخرج فيلمها الضائع هو نفسه يوسف شاهين، الموجود اسمه إلى جوار اسمها وصورتها مباشرة في الإعلانات؟
لا صبري ولا موسى!
قبل نحو 20 عامًا على نشر مذكرات نادية لطفي، نشرت صحيفة الحياة اللندنية خبرًا عام 1999 حول عرض إحدى نسخ فيلم يوسف شاهين عن السد العالي في باريس، وأجرى الكاتب الصحفي محمد دياب حوارًا بالغ الأهمية مع شاهين حول الفيلم ومصيره. سنعرف من سياقه، أن تصورات نادية لطفي عن زميلها كانت على العكس تماما مما جرى له ولها، ولفيلميهما!
نكتشف في الحوار، أن يوسف شاهين يعترف بأن قصة موسى صبري لم تعجبه لأنها لا تتفق مع قناعاته. فقرر وضعها جانبًا، هكذا بكل بساطة. إذن، لا صبري موسى، ولا حتى موسى صبري هو الآخر باتت له أي علاقة واقعية بفيلمنا الضائع.
كتب يوسف شاهين سيناريو مختلف عن رواية موسى صبري، وقدّمه للرقابة، وحصل على الموافقة، واختار الممثلين: نادية لطفي وأحمد مظهر وسناء جميل وسيف عبدالرحمن، وسافر لتصوير بعض مشاهد الفيلم في أسوان.
يقول شاهين: بعد عودتي إلى القاهرة، طلبني رئيس مؤسسة السينما، وفي مكتبه وجدته جالسًا مع موسى صبري وعلامات عدم الارتياح بادية على وجهيهما. وبادرني رئيس المؤسسة قائلًا: "أنت بتصوّر إيه، الرقابة لم تعطك تصريح السيناريو؟". قلت إن التصريح معي، ونسخة السيناريو بحوزتك. وأنتم عارفين أنني لا أعمل على قصة موسى صبري! فرد رئيس المؤسسة: أنت عاوز تفكر على كيفك يا أستاذ؟ فقلت له: أمّال عاوزني أفكر على كيفك أنت؟ ثم وجهت إليه كلمات قليلة الأدب!
وبحسب رواية يوسف شاهين، فإن هذا الصِدام كان سببًا في حرمان فيلمه "الناصر صلاح الدين" من جوائز السينما التي وزّعتها وزارة الثقافة في سبتمبر من ذلك العام.
وعلى العكس من هذا الموقف الذي يُظهر يوسف شاهين كفنان "قليل الحيلة" في مواجهة أصحاب القرار، نجد نادية لطفي في مذكراتها تكاد تصف يوسف شاهين بأن "إيده طايلة"، وتدلل على ذلك بأن من حظّها أن فيلميها النظارة السوداء للمخرج حسام الدين مصطفى، والناصر صلاح الدين ليوسف شاهين، كانا مرشحين لتمثيل مصر في مسابقة الأوسكار. وتشكلت لجنة من كبار السينمائيين لاختيار فيلم واحد للمشاركة الدولية، "وما أن تسربت أخبار عن فوز فيلم النظارة السوداء بفرصة الترشيح، اعترض يوسف شاهين، وأقام الدنيا، وطلب إعادة الاستفتاء، ليكون الترشيح من نصيب فيلمه، وهو ما قد كان"!
منفى اختياري
المهم، أن الصِدام مع مؤسسة السينما، بسبب فيلم السد العالي، ورّط يوسف شاهين في الشعور بالمرارة، وقال في حواره لجريدة الحياة: "قلت لنفسي: لن استطيع ان أقف في وجه السلطة، وعدت إلى منزلي، وألقيت بأثاثه من الشباك، ونفيت نفسي إلى لبنان"!
وبدا وكأن مشروع فيلم يوسف شاهين عن السد العالي قد غرق تحت مياه النيل، حتى أن مجلة "الكواكب" نشرت خبرًا عن مشروع جديد لإنتاج فيلم مشترك بين مصر وإيطاليا عن السد العالي بعنوان "غرام في النيل"، كتب قصته كمال الملّاخ، حول مهندس بالسد العالي يقع في غرام فتاة سودانية!
كما نشرت المجلة ذاتها خبرًا "ترويجيًا" عن المخرج الأمريكي "جوشوا لوجان" بوصفه مخرجًا عالميًا يزور القاهرة، بحثًا عن قصة درامية تصلح لإنتاج فيلم عالمي عن السد العالي، بشرط أن يكون الفيلم "إنتاج مشترك" ليهتم به الأجانب!
لاحقًا، عاد يوسف شاهين إلى مصر بطلب من الرئيس جمال عبدالناصر، نقله إليه محمد حسنين هيكل ووزير الثقافة عبدالقادر حاتم. وبدأ في محاولات إعادة "الفيلم الضائع" إلى الحياة. فكتب سيناريو جديد، عن قصة عبدالرحمن الشرقاوي، بالتعاون مع مؤلف سوفيتي. واختار أبطالًا جُدد للنسخة الجديدة من الفيلم، هم: صلاح ذو الفقار ومديحة سالم، بدلًا من أحمد مظهر ونادية لطفي. إلى جانب زوزو ماضي وعماد حمدي.
وانتهى الفيلم، لتبدأ الصدمة الجديدة.
"أنا مش بقال"
عُرض الفيلم بعنوان "الناس والنيل" في عرض خاص عام 1968، فاعترض المسؤولون السوفييت بدعوى أن فيلم يوسف شاهين أظهر النوبة أكثر جمالًا من موسكو، حسب تعبيره. كما اعترض مسؤولو مؤسسة السينما المصرية على مضمون الفيلم، بدعوى أنه يقلل من شأن المهندس المصري لصالح المهندس الروسي في بناء السد العالي.
وفي سبتمبر 1968 نشرت "الكواكب" نقدًا عنيفًا لفيلم "الناس والنيل" في إحدى صفحاتها الأسبوعية بعنوان "مجلة الغاضبين"، وكانت تشرف عليها "جماعة السينما الجديدة". وجاء فيها: "من غير المعقول أن يكون فيلم الناس والنيل هو نفسه الفيلم الذي تجاوزت تكاليفه ربع مليون جنيه، واشترك في تأليفه الكاتب التقدمي عبدالرحمن الشرقاوي. لا يمكن أن يكون هذا المسخ المشوّه من صُنع الإنتاج المشترك التقدمي بين القاهرة وموسكو".
وامتلأ نقد الفيلم بتعبيرات من نوعية: نظهر في الفيلم كأننا همج وبدائيون سُذّج في بلد مُنحل. كيف يشترك الشرقاوي وشاهين في تشويه شعبنا العظيم؟
ماذا كان رد فعل يوسف شاهين؟
هل هرب إلى لبنان من جديد؟
نكاد نسمع صوته في حواره مع محمد دياب في "الحياة": صرخت في الجميع، إيه ده؟ هو أنا بقال؟ ده عاوز حتة جبنة أكتر من ده؟ الفيلم عاجبني، وراضي عنه. فكانت النتيجة أن وضعوا الفيلم على الرف، وطلبوا مني تصوير فيلم جديد تكون بطلته سعاد حسني! كيف أغيّر أبطال فيلم تم تصويره بالفعل؟
مُعجزة أم كارثة؟
بعد عام على الصِدام الجديد بين يوسف شاهين ومؤسسة السينما، ووضع الفيلم على الرف، نقرأ في مقال قصير للصحفي والسيناريست أحمد صالح في مجلة "الكواكب" بتاريخ 19 فبراير 1969: "شكرًا لمبادرة المسؤولين بالاستجابة لما نادينا به هنا. فقد صدر قرار هذا الأسبوع يقضي بحذف المشاهد الضارة بقوميتنا وحضارتنا في الفيلم المصري السوفيتي الناس والنيل، وإعادة تصويرها بما يتفق وواقعنا الحضاري"!
ولعل السيناريست أحمد صالح كان سعيدًا وهو يشاهد النسخة الجديدة من "الناس والنيل" لاحقًا! النسخة التي تتفق مع "واقعه الحضاري"!
بكل ثقة يقول شاهين: "صنعت معجزة وأخذت مشاهد تسجيلية صورناها لبناء السد، ومشاهد الممثلين الروس التي صورت في الاتحاد السوفيتي، وأضفتها إلى الفيلم الجديد، بأبطال جدد، هم: سعاد حسني وعزت العلايلي ومحمود المليجي".
لكن من يشاهد هذه النسخة من الفيلم، لن يجد أي معجزة، وإنما كارثة فنية بكل الأبعاد. "توليفة" لا تحترم أي عقل. مشاهد مترجمة، وبعدها مشاهد بدوبلاج، ثم مشاهد بتعليق يشبه التعليق الإذاعي في البرنامج الشهير "راديو سينما"! ولا علاقة بين مشاهد موسكو ومشاهد أسوان. فضلا عن سذاجة العلاقة بين الأبطال. وعدم منطقية ردود أفعال بعض شخصيات الفيلم، نظرا لحذف مشاهد كاملة من الفيلم الأصلي، الذي لم يكن هو الآخر في أحسن حال. عَبث مُعتّق!
لهذا دفع يوسف شاهين التهمة عن نفسه، بقوله: "لم أكن سعيدا أبدا بالفيلم، لأنه مش فيلمي، إنما كان "طلبيّة" تشبه خدمة توصيل الطلبات للمنازل، وكأنهم يطلبون "بيتزا" وليس فيلمًا. أنا مليش دعوة به، كنت باعمل حاجة أنا مش فاهمها"!
وكمشاهد قد يستفزه مستوى الفيلم في النسختين، ربما لا تجد في نفسك الجرأة على توجيه اللوم كاملًا للمخرج والسيناريست بطبيعة الحال. لأن "السيستم" كان أغبى من الجميع!
نبتدي منين الحكاية؟
كانت وزارة الثقافة والإرشاد قد وجّهت دعوة إلى كاتب من "تشيكوسلوفاكيا"، إحدى دول الاتحاد السوفيتي في ذلك الوقت، لزيارة السد العالي لمدة 15 يومًا، ليكتب قصة سينمائية عنه. لكن قصة الكاتب التشيكي لم تعجب مسؤولي السينما في بلادنا. (مع الوضع في الاعتبار، احتمال أن تكون مؤسسة السينما عادت لاستخدام أجزاء من هذه القصة نفسها في النسخة النهائية من الفيلم بعد سنوات، بالتنسيق مع يوسف شاهين).
وبعد رفض قصة المؤلف التشيكي، دخل موسى صبري على الخط، وعرض على نجيب محفوظ قصة بعنوان "صانع الحب" تدور أحداثها في السد العالي، فأعجب بها نجيب محفوظ إعجابًا شديدًا وطالب بإنتاجها للسينما، بحسب تصريحات موسى صبري لمجلة "آخر ساعة" منتصف عام 1964.
كمال الشيخ أولًا
وأسندت مؤسسة السينما مهمة إخراج الفيلم إلى كمال الشيخ أولًا، ونظرًا لانشغاله، تدخّل الدكتور عبدالقادر حاتم وزير الثقافة بتكليف يوسف شاهين بإخراج الفيلم، وقال له "ننتظر منك نجاحًا لا يقل عن فيلم الناصر صلاح الدين".
وكتب السيناريو الأول كل من يوسف شاهين ومساعده سمير نصري، فتغيّر اسم الفيلم إلى "غدًا تبدأ الحياة". وكان من المنتظر أن يُعرض الفيلم في أكتوبر 1964 على الأكثر. لكن تدخلات "سينما البقّالين" في القاهرة وموسكو عطّلت الفيلم إلى 1968، ثم إلى 1972.
وفي 1999، ظهرت في فرنسا نسخة فيلم "الناس والنيل" التي أغضبت المصريين والسوفييت على السواء. وهي النسخة التي كان أبطالها صلاح ذو الفقار ومديحة سالم وعماد حمدي وزوزو ماضي. عبّر يوسف شاهين عن فرحته الشديدة بعودة فيلمه الضال: "الناس والنيل".
لغز النسخة الممنوعة
لكن كيف انتقلت نسخة الفيلم الأصلية من "رفوف المنع" في مؤسسة السينما المصرية عام 1968، إلى معامل السينما الفرنسية، بعد أكثر من 30 عامًا على اختفائها؟
يقدم يوسف شاهين تفسيرًا نصف غامض لهذا اللغز، فيقول "إنهم" في باريس اكتشفوا "بالصدفة" عام 1994 وجود نسخة واحدة "بوزيتيف" من فيلم الناس والنيل في الأرشيف السينمائي الفرنسي. ومن حُسن الحظ أن الفيلم كان مصورًا على أفلام خام روسية الصنع وهي بطيئة التلف مقارنة بالخام الأمريكي.
وتواصل "السينماتيك الفرنسي" مع شاهين، وأخبروه: "حرام الفيلم ده يختفي من الوجود، وهو فيلم عن السد العالي وليس مجرد حكاية رومانسية". واقترحوا عليه عمل "نيجاتيف" بديل من هذه النسخة "البوزيتيف"، على أن يتحملوا هم التكلفة العالية.
وبذلك يرى يوسف شاهين أن النسخة الأصلية المرممة من "الناس والنيل" أصبحت ملكًا شخصيًا له وللسينماتيك الفرنسي، "بما أن المنتجين المصري والسوفيتي رفضوه"!
ولأن الفيلم بات ملكًا لشاهين، قرر أن يطلق على فيلمه العائد إلى الحياة اسمًا جديدا بعد 30 عامًا على عرضه الأول، فاختار له اسم: "النيل والحياة" بدلًا من "الناس والنيل"، بدلا من "غدًا تبدأ الحياة"، بدلا من "صانع الحب"!
والسؤال الآن..
أين نجد نص القصة أو الرواية التي كتبها موسى صبري بعنوان "صانع الحب"، أو "غدا تبدأ الحياة"، بعد أن رآها يوسف شاهين لا تتفق مع قناعاته؟
وأين نجد اللقطات والمشاهد الملونة الأصلية التي أخرجها يوسف شاهين في النسخة الأولى من الفيلم، بطولة نادية لطفي وأحمد مظهر؟ والتي ظهر فيها الرئيس عبدالناصر والزعيم السوفيتي خروتشوف أثناء إعطاء إشارة تحويل مجرى النيل؟
أين نجدها، ومن نسأل؟
هل في مخازن وزارة الثقافة وورثة "مؤسسة السينما"؟ أم في شركة إنتاج يوسف شاهين "أفلام مصر العالمية"؟
ابحث مع "الشركة"!