غلاف بلا عنوان
جلس على أرضية غرفته مستندًا بظهره إلى سريره يلملم الأوراق المبعثرة هنا وهناك. احتار كيف سيرتب كل ذلك؟ كانت الأوراق فى حالة فوضى كروحه الهائمة فى الحياة، اكتشف أن هناك فصولًا مفقودة وأوراقًا ضائعة، وحاول بلا جدوى أن يبحث عن عنوان الغلاف ولكنه لم يجده، لقد فقد المعنى والهوية والاسم. ولكن حالة النسيان التى كان ينتهجها مع كل ألم يشعر به جعلته ينسى أجزاء بل فصولًا من حياته بكل الشخوص، ففى كل مرحلة كان يصل إليها ويشعر فيها بالألم كان يتخذ النسيان منهجًا. حتى أن الأطباء حذروه من أنه قد يفقد ذاكرته يومًا ما، لم يعرف أيفرح لذلك أم يحزن! هل يفرح لأنه سينسى كل الألم الذى شعر به يومًا ما؛ أم يحزن لأنه لم يجد عنوان الغلاف، ولم يستطع ترتيب فوضى أوراقه، خاصة أن زمام الأمور ما زالت بين يديه؟
سرح بفكره بعيدًا، وحاول أن يقيم نفسه وسألها صامتًا: هل كان الآخرون هم سبب كل الألم الذى يشعر به؟ ليس هذا معقولًا. ربما كانت شخصيته وطبيعته الإنسانية هما الدافع لذلك الاستغلال البشرى الذى تعرض له بكل الصور، يقولون عنه طيب القلب ويصفونه بصفات جميلة، فهل كانوا يعنونها حقًا؟ أم وجب عليهم استبدال الطيبة بالسذاجة، وأن يختاروا له لقب الرجل المغفل، بل والأكثر تغفيلًا على وجه الأرض؟ ربما لو وصفوه بما يستحق لبدل من حاله، فالوحدة التى عاش فيها تكاد تكون قاتلة، مما دفعه للانغماس فى حياة الآخرين، وحرص على سماع مشاكلهم حتى ينسى متاعبه، وشاركهم الضحك وحضر مناسباتهم، وكان بحق رجل المواقف، حتى ينزع نفسه من مرض التفكير اللعين المسيطر على عقله ليل نهار. لكنه وصف أفعاله بالأنانية، لأنه لم يختلط بالطيبين أو بالحقراء لاكتساب معارف أو صداقات، لكى ينسلخ عن تلك الهموم التى طالما أثقلت كاهله وأوجعت قلبه.
تنهد بعمق وأطلق آه طويلة مسموعة، ثم رجع برأسه للوراء قبل أن يتأمل سقف غرفة للحظة، وعاود التطلع إلى الأوراق الملقاة على الأرض هنا وهناك. ابتسم ابتسامة ألم، ثم تنهد ثانية وهو يمسح دموعه المنسابة على خديه، وظل هكذا ساعات وساعات جالسًا على الأرض مستندًا بظهره على سريره، ذلك الصديق المخلص، الذى طالما تحمله ليالى طويلة، حتى عثرت عليه ابنته فى الصباح الباكر وهو على هذا الوضع، ممسكًا بإحدى أوراقه، ولكن روحه هذه المرة أصبحت تهيم فى عالم آخر، ربما لتستكمل مسيرة أخرى من العذاب.