رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

جريمة العصر.. هنا شمال غزة: الناجون من القصف يموتون من الجوع

جريدة الدستور

أطفال عبارة عن هياكل عظمية، ورجال ونساء لا يجدون إلا حشائش الأرض وأعلاف الحيوانات يسدون بها رمقهم، ومسنون غير قادرين على الحركة يفارقون الحياة فى أماكنهم، هذا هو المشهد الآن فى شمال غزة الذى يحوى نحو ٧٠٠ ألف نسمة، الذين يتعرضون للموت البطىء بسلاح التجويع الذى يستخدمه الاحتلال الإسرائيلى ضد الشعب الفلسطينى.

وحسب مصادر طبية، ارتفعت حصيلة الوفيات من الأطفال فقط نتيجة سوء التغذية إلى ٤١ حالة، فيما يعانى أكثر من ٢٥٠ طفلًا آخرين الموت البطىء مع نفاد الطعام والألبان، وسط نقص حاد فى المواد الغذائية والخضروات، نتيجة استمرار إغلاق الاحتلال المعابر الحدودية وعدم دخول الشاحنات إلى الشمال.

«الدستور» تستعرض شهادات صادمة ومروعة لأهل شمال قطاع غزة حول ما يعانونه من أهوال، وما يواجهونه من مجاعة قاسية ونزوح مستمر.

 

بسام خليل: أوراق الشجر لم تعد موجودة.. ولجأنا لأعلاف الحيوانات للإفلات من الموت

قال الصحفى الفلسطينى، بسام خليل، إن الاحتلال الإسرائيلى يتعمد تجويع سكان غزة، خاصة فى شمال القطاع لإجبارهم على النزوح باتجاه الجنوب. وأضاف: «الموت يترقبنا فى كل لحظة بسبب المجاعة والنزوح المستمر من مكان إلى مكان تحت تهديد القصف وتدمير البيوت».

وأوضح «بسام» أن الاحتلال الإسرائيلى يجبر سكان شمال غزة على النزوح إلى الجنوب، لكنهم يرفضون ويتمسكون بالبقاء فى بيوتهم وأحيائهم السكنية، لأن النزوح لجنوب قطاع غزة مطلب وهدف إسرائيلى، والفلسطينيون من أهل الشمال يرفضون النزوح للجنوب، لهذا يطلق عليهم سكان القطاع الصامدين بالشمال.

وتابع: «أهلنا وبيوتنا غاليين علينا لا نتركها للعدو يدخلها بسلام، وموجودون رغمًا عنه، لأن وجودنا يقهرهم، فالعدو دبر المجاعة ليستطيع السيطرة على مناطق شمال قطاع غزة، ليسهل عليه التوغل البرى فيها، لأن العدو حين يريد دخول منطقة ما فى شمال قطاع غزة يكون مطالبًا أولًا بإخلائها من السكان وهو عبء كبير عليه».

واستطرد «بسام»: «بعد نزوحنا من المنطقة التى يريدون دخولها، يعيثون فيها فسادًا وتدميرًا، ويهدمون البيوت، ويأخذون نصيبهم من المقاومة، ومن ثم ينسحبون، ونعود مرة أخرى للمكان، نعيش فى خيمة أو مدرسة».

وقال: «أهل غزة من قديم الأزل عنيدون مثل أجدادهم، وهم أقرب شبهًا بالفراعنة الأشداء، وقطاع غزة يحوى عدة معابر ومنافذ، أحدها معبر رفح البرى، وهو بيننا وبين مصر الشقيقة، ومعبر إيريز ومعبر كرم أبوسالم، وجميع هذه المعابر تحت سيطرة الاحتلال الإسرائيلى عدا معبر رفح».

وأضاف «بسام»: «توفير الأكل والشرب كان يعتمد فى المقام الأول والأخير على المخزون الموجود داخل قطاع غزة وشماله، أما المحاصيل الزراعية فاختفت من الأسواق بفعل اجتياح آليات الاحتلال الأراضى الزراعية، والحصار الذى يفرضه علينا من جميع الجهات، والتدمير المتعمد للبنية التحتية والمخازن والمحال التجارية الكبرى».

وتابع: «لم يعد هناك أى مخزون من المحاصيل الزراعية، والاعتماد الكلى على المساعدات فقط أو ما يُسمح بدخوله للقطاع، وحالة الجوع وصلت إلى أقصى درجاتها قبل فترة وجيزة، فأصبح الأطفال والكبار يموتون بسبب الجوع وسوء التغذية، واضطررنا إلى تناول أوراق الشجر التى كانت تنمو بفعل المطر وسط الأحياء فى الأماكن الخضراء فى المدينة، ولكن حاليًا حتى أوراق الشجر أصبحت باهظة الثمن، ولم يعد هناك أى مصدر للوقود لإشعال النار وطهى الطعام».

وأوضح «بسام» أنه بعد استهلاك واختفاء أوراق الشجر، لجأ الناس فى شمال قطاع غزة إلى أعلاف الحيوانات مثل الحمير والأرانب، فطحنوها واستخدموها كدقيق ليسدوا جوعهم رغم طعمها السيئ للغاية، لكنهم مضطرون لذلك فى صراع من أجل البقاء.

وقال إن الاحتلال سمح بدخول شاحنات الدقيق إلى شمال غزة، دون وقود أو ماء نظيف، ليكون من الصعب تحويله إلى خبز، كما أنه رفض إدخال حليب الأطفال، والسكر، وغيرهما من المواد والسلع الأساسية.

وأشار «بسام» إلى أن الكميات القليلة من الطعام جعلت أسعاره مرتفعة للغاية، كما أن المياه غير صالحة للشرب، بعدما دمر الاحتلال البنية التحتية، ومقومات الحياة لم تعد موجودة فى الشمال. وتابع: «مع فقدان المواطنين أهم الركائز الأساسية للحياة من الماء والسكر والملح والمواد التموينية، أصبحنا فى مواجهة مجاعة أخرى مخيفة غير المجاعة الأولى، فلا يوجد فيتامينات ولا حليب للأطفال ولا توجد خضروات وألياف وأى مساعدات للهضم، والصحة بدأت تتدهور بشكل حاد».

وأوضح أن المستشفيات منعدمة الخدمات، والمستشفى الوحيد فى مدينة غزة هو «المعمدانى» الذى توغل الاحتلال بالقرب منه، ولا يوجد فيه أى خدمات طبية سوى الإسعافات الأولية. ودلل الكاتب الصحفى على هذا الأمر بأنه لو دخل إلى المستشفى رجل مصاب بنزيف فى الدماغ، فنهايته معروفة وهى «الموت»، والقدم لو أصيبت فقدر صاحبها «البتر» المباشر، فلا توجد مقومات تساعد الأطباء على توفير العلاج للمرضى، كما أن عدد الأطباء أصبح قليلًا بعد اعتقال عدد منهم وإيقاف مستشفى الشفاء.

أما عن عمليات النزوح التى تتم فى الفترة الأخيرة بشكل مكثف، فقال «بسام»: «دخل الاحتلال منطقة الشجاعية والتفاح وهى مناطق شرقية بالقرب من الحدود، فتوغل فى هذه المناطق حتى منتصف مدينة غزة بالقرب من شارع صلاح الدين، فأجبر الناس على النزوح دون أى سبب، حتى من كان عنده جزء من الدقيق والمعلبات فقده، وخرجوا دون أوانٍ ولا ملابس، إلى مناطق غريبة، وكانت ظروفهم صعبة للغاية، حيث أجريت لقاءات مع عدد منهم، وعرفت منهم تفاصيل مأساوية».

وأكد أن ما يحدث فى شمال غزة هو «موت حقيقى»، موت من القصف وموت من الجوع، ففى فصل الصيف الحار لا يوجد حتى أوراق الشجر التى كانت تنمو من قبل، بسبب طبيعة الجو فى غزة، ولا توجد مصادر طاقة سوى الطاقة الشمسية وتكون شحيحة ومكلفة للغاية.

أما بخصوص احتياجات المواطنين هناك، فأوضح أن المطلب الأول والأخير فى كل مقابلة ولقاء مع الناس فى كل مكان أطفال ورجال ونساء وكبار السن هو إيقاف هذه الحرب الصعبة، ويقولون: «لا نستطيع الصبر على الجوع وفقدنا الكثير من الأهل، أوقفوا الحرب أولًا وأخيرًا».

كما أن مطالبهم متمثلة فى توفير المسكن، فمناطق الشجاعية والتفاح والرمال، شهدت تدمير أكثر من ٨٠٪ من المنازل تدميرًا كليًا، وهو أمر مخيف، ومطالبهم حاليًا هى توفير أماكن إيواء، وإدخال البضائع والسكر والفيتامينات للأطفال والحليب للرضع والمواد الغذائية اللازمة.

وقال «بسام»: «عائلات كثيرة شطبت من السجل المدنى بالكامل تشمل الخمسين فردًا وأكثر، حيث كانت هناك منطقة بها ٦ طوابق مليئة بالناس مسحت وتم قصفها بالكامل».

وأضاف: «أطفالى وأنا نعانى التهاب الصدر واللوزتين بسبب الغبار والأتربة نتيجة القصف المتواصل ولا يوجد أى دواء يسعفنا أو فيتامينات تقوينا، وأتمنى أن يصل صوتى لكل العالم، لأن الحياة أصبحت مستحيلة».

واختتم: «فقدت عملى وشركتى وحياتى وفقدت أحبابى وأصحابى، وابن عمى، وسيارتى، كما كنت عضوًا بمهرجان دولى مميز يسلط الضوء على معاناة الأسرى، وكان موعد انطلاقه ١٧ أكتوبر، لكن تبخر كل التعب والأموال التى وضعناها بسبب الحرب، التى دمرت ذكرياتنا ومحت الشوارع والأماكن الأثرية التى تعنى لكل حر ووطنى الكثير والكثير».

منى: أطفالى يصرخون من الجوع ويرفضون تناول الخبز المصنوع من العلف.. ولا حيلة لى غير البكاء

حكت «منى»، تقطن فى شمال القطاع، أن الوضع كارثى بمعنى الكلمة فى الشمال، مضيفة أنها أم لـ٤ أطفال، بينهم طفلة رضيعة تعانى من سوء التغذية وتحتاج لنوع معين من الغذاء.

وأضافت: «أطفالى لا أجد لهم أى أطعمة مفيدة، فلا حليب ولا خضروات ولا فواكه ولا سمك ولا لحوم ولا حتى البيض موجود، لألجأ إلى الفيتامينات لكنها هى الأخرى غير متوافرة».

و«منى» أم مرهفة المشاعر، لا تتحمل رؤية أطفالها يعانون، فتبكى كثيرًا عليهم، خاصة أنهم منذ أكثر من ٥ أشهر يقل وزنهم بشكل ملحوظ ويتوقف نموهم وأصبحت وجوههم شاحبة صفراء اللون.

وقالت: «أطفالى نفسهم فى كل شىء وأنا مش قادرة أوفر لهم أى شىء، حتى المسليات للأطفال غير موجودة، لا البسكويت ولا الشوكولاتة ولا أى شىء، الحمد لله على كل شىء، أنا بنتى تضيع أمام عيونى وكل يوم تفقد وزنها وصحتها».

وأكملت: «والله لم نكن هكذا، وطوال عمرنا نعيش فى عز ونعز أولادنا، وكان زوجى يعمل ويجلب لنا كل ما نشتهى ويأخذنا للتنزه، حتى ابنتى المريضة سافرت بها العام الماضى لمعالجتها فى مصر، وكنا سنكمل علاجها فى تونس أو تركيا، لكن أتت الحرب، وأوقفت حياتنا وحرمت أطفالى من الحياة، بعدما كانوا يفعلون كل ما يشتهون، يدرسون بمدارس خاصة، ويأكلون كل شىء، لينقلب بهم الحال مشردين بعدما قصف البيت وتوقفت المدارس وبدأت المجاعة».

وأكملت: «ابنى الكبير عمره ١١ سنة يقول لى (عمرى يماما ماتخيلت إنو أسكن بمدرستى وأنام وآكل وأشرب بصفى)، فضاع مستقبلهم وكل تحويشة عمرنا التى حوشناها لهم من بيوت وأراضى راحت والحمد لله».

وواصلت: «وضع الأسواق فى شمال قطاع غزة كارثى، وهى خالية من أى مواد أساسية مثل الأرز والمكرونة والعدس وجميع البقوليات، وإن صادف ووجدوا شيئًا فالأسعار مرتفعة بشكل لا يوصف».

أما الصيدليات، فتكشف «منى» عن أن أغلبها استهدفته ودمرته قوات الاحتلال الإسرائيلى، وإن وجدوا صيدلية فلا يوجد بها سوى كمامات ومسكنات بسيطة، لذلك لو مرض أحد أطفالها تغلى لهم الأعشاب.

والحياة فى شمال القطاع لم تتوقف فقط، بل عُدمت فى عيون «منى»، قائلة: «العالم الخارجى يعتقد أننا نكذب، لكننا والله فى كارثة، نحن كل يوم ننتظر الصاروخ يأتى علينا، ونسمع كل يوم أصوات القصف، فنحضن بعضنا بعضًا، حتى يجدونا بجانب بعضنا لو تم قصفنا واستشهدنا».

ولدى «منى» ابن عمره ٤ سنوات، يصحو كل يوم يطلب منها الحليب الذى كان يحب أن يشربه، منذ شهور طويلة، وما زال الطفل يطلب من أمه نفس الشىء، فتذهب وتغلى له النشا بالماء فيأكل منه هو وإخواته وتقول لهم بقلب أم مكسور: «معلش يماما والله اليهود أخدو كل الحليب والسكر».

وأردفت: لكن الآن حتى النشا انقطع أيضًا، وأطفالى عندما يبكون ألهيهم بالألعاب حتى ينسوا الأكل، وكلما قالوا لى: «ماما اشتقنا للموز، ماما نفسنا فى التفاح، ماما أشتهى شوكولاتة وبسكوت»، أظل ألهيهم بعض الوقت، لكن مؤكد لا ينسون.

وتابعت: «فى مرة ابنى الصغير طلب منى خبزة بيضاء بالزعتر، فصنعت له واحدة من علف الحيوانات، لكنه لم يتقبلها، وظل يقول: «ريحتو مش حلوة حطى ريحة عليه يماما»، فيتقطع قلبى من حديثه، وهو وإخوته الذين كنت أضع لهم ما يشتهون من فواكه وكيك وسندوتشات بـ«لانش بوكس» عند ذهابهم للمدرسة والروضة، لنشرب الآن مياه الأمطار الملوثة، ونأكل مرة واحدة فى اليوم طعامًا لا يسمن ولا يغنى من جوع، وإن لم يوجد الطعام والشراب، فلا أحد لنا سوى الله، تمر علينا أيام نقضيها فى الصيام وأولادى طوال اليوم فى بكاء، وأنا أبكى معهم، لأنى لا أعرف ماذا أفعل.

وكشفت «منى» عن أنها نزحت مع أطفالها وزوجها نحو ٧ مرات، بين المدارس والبيوت والمستشفيات، مرة منها عندما بدأ الغزو البرى من قوات الاحتلال، ووقت نزوحها كانت ترى وأطفالها الشهداء والجثث على الأرض، فتغطى عيون الصغار.

و«منى» امرأة حامل الآن، رغم أنها لم تكن تريد الحمل فى هذا الوضع، لكن مع عدم توافر الأدوية وحبوب منع الحمل صارت تحمل جنينًا فى بطنها لا تعلم ماذا سيكون مصيره، مع عدم وجود أى غذاء صحى ولا فيتامينات.

وقالت إنه إن كان الطعام غير موجود، فبالطبع النظافة الشخصية أصبحت صعبة فى ظل عدم وجود مياه ولا كهرباء، فيظلون بالأسبوعين وما يزيد بدون استحمام، ولا يدخلون دورات المياه كثيرًا لقضاء الحاجة لعدم توفر المياه.

وأكملت: «الأولاد يعتقدون أننا نمنع عنهم الطعام، وليس أن اليهود هم من حرمونا منه، فأراهم بأم عينى وقد أصابهم الإسهال وشحوب الوجه وارتفاع درجات الحرارة، حتى الحشرات أكلت أجسامهم وأصابتهم بالبكتيريا والالتهابات بسبب الأماكن غير النظيفة التى نقطن بها».