مدرسة فى خيمة.. مبادرات فلسطينية لتعليم أطفال غزة لإفشال مخططات الاحتلال نشر الجهل والأمية
لم يتوقف عمل آلة الحرب الإسرائيلية منذ السابع من أكتوبر الماضى، لتدخل شهرها العاشر، دون توقف، أو تمييز، بين أهداف عسكرية أو مدنية، بين منصات إطلاق الصواريخ أو مراكز الإيواء التى تتشكل غالبيتها من المدارس، التى حرصت الطائرات على دكها وتفجيرها بمن داخلها من أطفال ونساء ومرضى وأبرياء، لتسلب من أهالى غزة ليس فقط الحق فى الحياة والمأوى، ولكن أيضًا الحق فى التعليم.
وتمسكًا بالأمل فى غد أفضل، تعود فيه الأرض إلى أصحابها، ويعم السلام أرض السلام، أطلق أولياء أمور وشبان مبادرة لتعليم الأطفال فى خيام النزوح، لتفويت الفرصة على إسرائيل وإحباط مخططها لإفشاء الأمية والجهل بين أطفال غزة.
وتواصلت «الدستور» مع عدد من المتطوعين والمدرسين بمبادرة «التعليم فى الخيام»، بمنطقة دير البلح وسط قطاع غزة، للتعرف على كواليس إطلاق المبادرة والهدف منها وكيف نجح أصحابها فى التغلب على الصعوبات لتنفيذها، فى ظل نقص الإمكانات والأدوات والقصف العنيف المتكرر الذى تشهده مناطق متفرقة من قطاع غزة.
نهاد بعلوشة: حرقنا الكتب لطهى فتات الطعام.. وإسرائيل تشن حرب «تجهيل»
قالت نهاد سعيد بعلوشة، معلمة متطوعة ونازحة من شمال غزة إلى دير البلح، إن إسرائيل تشن حرب تجهيل متعمدة باستهداف المنشآت التعليمية فى قطاع غزة، حتى لا ينشأ جيل متعلم مثقف قادر على التصدى للفكر الصهيونى وإقامة دولة فلسطينية متقدمة ومتحضرة.
وأضافت، لـ«الدستور»، أنه منذ السابع من أكتوبر حين كان الطلاب يتجهزون للعودة للمدارس، بدأت حرب الإبادة الجماعية والإبادة التعليمية وهى مستمرة حتى الوقت الحاضر.
وتابعت: «الاحتلال يتعمد نشر الجهل والأمية بين الشعب الفلسطينى عامة، لأنه أيقن أن الغزيين يواصلون تعليمهم رغم الحصار الخانق منذ سبعة عشر عامًا، وأنهم قادرون على إثبات ذاتهم، فمنهم محللون سياسيون، وأطباء، ومفكرون، فكان استهداف التعليم من أهداف الحرب».
واستطردت: «حرموا آلاف الطلاب من حقهم فى التعليم بعد أن تضرر عدد كبير من المنشآت التعليمية والمدارس، وجرى تحويل المتبقى إلى أماكن إيواء للنازحين، وبعضها أصبح مقابر جماعية بعد أن فجرها الطيران الإسرائيلى فوق رءوس من فيها».
وأضافت: «كأم، حزينة جدًا على مستقبل أبنائى الثلاثة الذين أحرص على أن يستكملوا تعليمهم مهما كانت الظروف، فأنا لدىّ ولد وبنتان، الولد يحلم أن يصبح محاميًا، وإحدى البنتين تحلم أن تكون مترجمة لغة إنجليزية وفرنسية، والأخرى تريد أن تكون معلمة، ولكن منذ بداية الحرب وهم يفكرون فقط بالموت أكثر من الحياة».
وتابعت: «من هنا جاءت فكرة مبادرة تعليم الخيام، وحاولت فى البداية أن أروى لهم عن شخصيات عربية وفلسطينية رغم مصاعب الحياة، إلا أنها كانت لها بصمة علمية واضحة، فأنا حاليًا كل ما أفكر به هو كيف أستعيد عقل أطفالى المستنير، فاشتريت لهم قصص الأطفال وبعض الدفاتر والأقلام لأبدأ خطوة إيجابية رغم الدمار، خوفًا على مستقبلهم، فكانت خطوة إيجابية بالفعل والتحق بها أبناء إخوتى وبعض من الأطفال المرافقين لأسرهم التى نزحت معنا».
وقالت: «فى الجلسة الأولى دعوت الأطفال إلى الخيمة وأحضروا بعض الأوراق المتوافرة لتدوين المعلومات التى يتلقونها، ولكن كانت الظروف أقسى منهم ومن عيونهم التى تدمع كلما تذكروا مقاعدهم الدراسية، بينما يفترشون الأرض وسط الركام بسبب عدم توافر الأثاث المدرسى المناسب بعد أن حرقت إسرائيل الأخضر واليابس فى غزة، واضطر الأهالى لحرق الكتب والكراسات تحت أوانى الطهى لإعداد القليل من الطعام كلما أمكن فعل ذلك».
وتابعت: «أناملهم الصغيرة ترتجف حين يحاولون الكتابة ويتحول الشغف بالتعليم إلى خوف ورعب بسبب أصوات الانفجارات والرصاص التى لا تتوقف ليل نهار فى كل أنحاء غزة، لذا نطالب مؤسسات حقوق الطفل التى نسمع بها بالوقوف بجانب الطفل الفلسطينى الذى من حقه التعليم مثل باقى أطفال العالم».
وأوضحت: «نطالب هذه المؤسسات بتوفير أماكن آمنة للطلاب والمستلزمات التعليمية وتوفير أيام تعليمية للترفيه والألعاب بأقل القليل فى هذه الظروف الصعبة؛ حتى يتمكن الطفل من استعادة عقله المتوازن القادر على استيعاب التعليم والبعد عن التفكير السلبى الذى يفكر به كل طفل بأنه سيموت أو سيصاب بإعاقة مدى الحياة، لأن إعادة إعمار غزة وإعادة بناء منظومة التعليم والتعافى من الآثار النفسية للحرب ستستغرق سنوات».
سائد أبوعيطة: المبادرات تنقذ أولادنا من التسول
أكد سائد أبوعيطة، ولى أمر، أن الخيام التعليمية مهمة، لأنها أنقذت الأطفال من التسول.
وأوضح «أبوعيطة»: «الكثير من الأطفال تحولوا لمتسولين وباعة متجولين بملابس ممزقة، لأن الأهم هو الحصول على الحاجات الأساسية مثل المياه والغذاء والمأوى، حتى لو كان خيمة متهالكة، وحتى العلاج غير متوافر والمرضى والجرحى معظمهم فى المخيمات بحاجة للرعاية الطبية بعد سقوط منظومتى الصحة والتعليم».
وأضاف: «أنا مع اتساع رقعة الخيام التعليمية لأنها الوسيلة الوحيدة حتى بعد انتهاء الحرب، لأنه من المستحيل إعادة المنظومة التعليمية إلى طبيعتها فى ظل تشرد وتدمير المؤسسات التعليمية واستخدام المدارس كمأوى للمشردين».
معلمة: الأهالى تبرعوا لشراء المستلزمات المدرسية
ذكرت «ن. ب»، تدرس اللغة العربية للأطفال، أن الصغار تأثروا نفسيًا بما شهدوه من مذابح خلال العدوان على غزة، ورأينا أنه لا بد من تعليمهم حتى لا يخسروا كل شىء.
وأكدت المعلمة الفلسطينية، التى فضلت عدم الكشف عن هويتها، أن تنفيذ الفكرة لم يكن سهلًا، خاصة بسب عدم توافر متطلبات المدرسة، كالكتب المدرسية والأقلام والدفاتر، وغيرها من اللوازم.
وأشارت إلى أنه بتكاتف الأهالى بدأت فى تجميع تبرعات لشراء المستلزمات المدرسية البسيطة، مثل الكراسات والأقلام وغيرهما، حتى بدأت فى الفعل، مشيرة إلى أن وضع الأطفال تحسن كثيرًا، فقد كانوا يلعبون وسط الركام.
سامح أبودية: نريد دعمًا دوليًا لتعميم الفكرة ومساندة الأطفال
أوضح سامح أبودية، أحد أولياء الأمور، أن أبناءه ذهبوا لخيمة التعلم فى دير البلح، مؤكدًا أن التعليم يخفف عن الأطفال ما يرونه من كوارث.
وقال «أبودية»: «ابنى الكبير سنه ١٢ عامًا، وسجلت له بجمعية داخل مدرسة للنازحين، وبدأ بجلسات إرشاد نفسى وحلقات دعم نفسى عقب غياب أكثر من ٩ أشهر عن المدارس والحياة الطبيعية بسبب الحرب والقصف المستمر، وبعدها بدأ حلقات تعليمية بمختلف المواد الدراسية».
وأكد أن تلك المبادرات مهمة للغاية فى الفترة الحالية، لكسر الروتين اليومى الصعب الذى يعيشه الأطفال بسبب الحرب: «الصغار تحولوا لكبار بسبب الحرب.. يقفون بالساعات فى طوابير المياه والطعام».
وتابع: «كريم ابنى الصغير لم يبلغ الثامنة من عمره، التحق أيضًا بالخيام التعليمية، ورسموا على وجهه بألوان مبهجة فى إحدى جلسات الدعم النفسى ووزعوا عليهم شنطًا بها بعض الأدوات والحلويات وزجاجات المياه الصغيرة فى محاولة لرسم البسمة على وجوههم مرة أخرى.. أقل شىء الآن يؤثر فى أطفالنا، حتى ولو كان زجاجة مياه أو قطعة حلوى».
وشدد على أن الخيام مفيدة جدًا للأطفال، حتى لا ينسوا التعليم، معربًا عن فرحته كولى أمر بما يحدث، ومتمنيًا أن تستمر تلك المبادرات، حتى لا ينسى الأطفال طفولتهم.
وأعرب عن أمله فى أن تستمر تلك الجهود، وتزيد، لتكون فى كل المناطق، ويكون لها دعم من المؤسسات المعنية والحكومة والجهات الخارجية، لأن الأطفال هم الفئة الأكثر تضررًا فى الحرب وهم بحاجة لتدخل سريع جدًا.
هدى أبوصبرة: نعلمهم اللغة والحساب رغم عدم وجود مقاعد
أكدت هدى أحمد أبوصبرة، حاصلة على بكالوريوس أصول دين، أنها عملت بمجال التدريس قبل الحرب، لمدة ٣ سنوات، للمرحلتين الابتدائية والإعدادية.
وأضافت «هدى»: «فى الحرب تطوعت فى تنظيم فعاليات ترفيهية وتعليمية للأطفال، وتطوعت فى مستشفى شهداء الأقصى كممرضة، لكننى توقفت بعدما تعرضت لحادث سير، ثم بدأت فى تنفيذ مبادرة (الصف التعليمى) لتدريس المناهج المدرسية».
وتابعت: «نفذت مبادرة (الصف التعليمى) فى خيمة متواضعة بمدينة دير البلح بجهد شخصى، بسبب رغبة الأطفال فى التعلم، رغم عدم وجود مقاعد دراسية أو كتب مدرسية، ولكن وفرت سبورة صغيرة وبعض الطباشير لشرح الدروس، كما وفرت بعض الكتب المدرسية، ووفر لنا مواطن آخر من المخيم بعض الدفاتر والكراسات والأوراق لمساعدة الأطفال فى الكتابة».
وأوضحت أنها تدرس مناهج مادتىّ اللغة العربية والرياضيات للصفوف الأول والثانى والثالث والرابع الابتدائى، وتشارك فى تنفيذ فعاليات ترفيهية، باللعب والرسم لتحسين نفسية الأطفال بسبب ظروف الحرب القاسية والمؤلمة.
وأشارت إلى أن الأطفال سعداء وكانوا يشتاقون للتعلم، فهم لم ينتظموا فى صفوف منذ قصف الاحتلال مدارسهم، والأهل كذلك سعداء، ويشكروننى.
وقالت: «أتمنى أن ينال الطفل الفلسطينى حقه فى التعلم ويعيش فى أمان مثل باقى أطفال العالم، ونطمح فى أن يتم الاهتمام بالعلم والتعليم فى ظل حرب الإبادة الجماعية التى يرتكبها الاحتلال».
ولفتت إلى أن الأطفال يدرسون الرياضيات واللغة العربية والعلوم والقرآن الكريم والإنجليزية، فضلًا عن حصص الرسم والموسيقى والغناء، لمساعدة الأطفال فى تخطى الأزمة النفسية.
أطفال: نحن أطباء ورجال أمن المستقبل.. ولن نتخلى عن العودة لبيوتنا
كما التقت «الدستور» عبر تقنية «الفيديو كونفرانس»، مجموعة من الأطفال الصغار خلال إحدى الحصص داخل خيمة، وقال الطفل بلال أحمد، نازح من شمال غزة، لم يتجاوز الـ٦ سنوات: «جاى على بالى أروح لغزة، وأرجع لدراستى مرة أخرى، وأتمنى أن أصبح شرطيًا فى المستقبل».
فيما قالت منة أبوشعبان، طفلة صغيرة لم تتجاوز العاشرة من عمرها، إنها تحلم بالمستقبل وأن تصبح طبيبة أسنان، معربة عن أملها فى أن تعود لمدينتها غزة مرة أخرى، قائلة «ندرس فى خيمة حاليًا، ونفسى نرجع على بيوتنا مرة أخرى».
وقالت سما أبوسليم، نازحة من غزة «اشتقت لمدرستى كثيرًا ولأصدقائى، وسعيدة بدراستى داخل الخيمة بدير البلح حتى لا أنسى ما تعلمته، وأتمنى أن تخلص الحرب وأن نعود مرة أخرى لبيوتنا وحياتنا».
رامز الصورى: يمر الصغار بـ«تفريغ نفسى» قبل التعلم
قال رامز الصورى، من الشجاعية فى شمال غزة، إن مدرسة دير اللاتينية بغزة أنشأت أكواخًا خشبية لتعليم الطلاب أساسيات المناهج لجميع المستويات التعليمية، لكن يظل الوضع الأمنى هو العائق، فهذه الحصص متوقفة بسبب استمرار القصف ونزوح الآلاف من الأهالى إلى الجنوب.
وأضاف «الصورى»: «أهل غزة ينهضون من بين الركام، ونريد بناء جيل كامل متكامل، متسلح بالعلم، وهنا نتحدث عن البنية الأساسية لمدينة غزة الراسخة، وأود أن أشير إلى أن نسبة الأمية معدومة، وأغلب شباب غزة من الطبقات المثقفة، وجميعهم من حملة الشهادات، سواء كانت بكالوريوس أو ماجستير أو دكتوراه».
وتابع: «هذه الجهود تأتى إيمانًا بأهمية العلم فى ظل الحرب، وعملت إحدى مدارس البطريركية اللاتينية بغزة لتنظيم دروس استدراكية للأطفال، بإشراف أكفأ المعلمات والمعلمين من ذوى الخبرة المديدة فى التدريس، وتتم مراجعة أربع مواد تعليمية أساسية؛ اللغة الإنجليزية واللغة العربية والرياضيات والعلوم، وأشار إلى أنه يجرى أيضًا عمل برامج تفريغ نفسى للأطفال حتى سن ١٦ عامًا».