رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سؤال الجدوى؟

مرت أمس ذكرى شهيد الكلمة المفكر فرج فودة رحمة الله عليه، ومساء اليوم السابق عليها كنا فى صحبة المفكر والكاتب د. خالد منتصر، التقينا فى صالون «علمانيون» بوسط البلد على مناقشة سيرته الذاتية «خلف خطوط الذاكرة»، وفى سياق المداخلات طرح سؤال الجدوى نفسه مجددًا، وهو سؤال مشاكس أحيانًا محبط فى كل وقت، ويشغل فقط أصحاب الآمال والطموحات الكبرى فى الارتقاء بالإنسان نحو الأفضل، ومنحه فرص الحياة كاملة فى سياق أنه إنسان ليس ملاكًا ولا شيطانًا، إنسان يصيب ويخطئ وفى كل الأحوال يجتهد.
أصحاب المشروعات الحقيقية يجتهدون اجتهادًا متواصلًا ومستمرًا وعلى كل الأصعدة فى سبيل تحقيق هدف أو حتى بعض هدف، يؤمنون فى كل وقت بأن الحراك هو الحل فيما يتعلق بالارتقاء بعقل الإنسان وثقافته وسلوكه وآدميته، أما السكون فليس من طبيعة الكون بأى حالٍ من الأحوال، لا يشغلهم صوت أو صدى قدر ما يهتمون بمسحة أمل أو ضوء خافت يظهر وسط عتمة حالكة السواد أحيانًا.
سؤال الجدوى قاتل، فقط إذا استسلم له هؤلاء الموعودون بعذاب اجتهاد تغيير الواقع، كل شىء فى حياتنا منطلقه عقلية الواحد منا، إذا انطلقت منها سلبًا ضاقت عليك السبل وإن رحبت، وعلى العكس إذا انطلقت منها إيجابًا انفرجت أمامك السبل وإن ضاقت، هكذا سنة الله فى كونه وخلقه، الحراك قطعًا إيجابى والسكون قولًا واحدًا سلبى، فلا تستعجل عائد اجتهادك وتأكد أنه قادم لا محالة، اغرس بذرتك وتأكد أن حصادها حاضر حتمًا فى وقته حتى وإن غبت.
عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين، بكل مشروعه الفكرى التنويرى التاريخى المهول بالغ الأثر، شغله سؤال الجدوى فى نهاية حياته، بل وعبر عن قلقه الشديد من ضياع عمره سدى فيما نادى به، أكتوبر الماضى مرت خمسون عامًا على وفاته، فاكتشفنا أنه ومشروعه إلى هذا الحد يشغل الدنيا والناس، هرعوا إلى إعادة طبع أعماله بعدما شاعت حقوقها، ولولا أن القراء من مختلف الأجيال يقبلون عليها ما فكر الناشرون فى إعادة نشرها، لاك أحدهم فقط سيرته جدًا أو هزلًا فى مناسبة تحتفى بمشروعه وتدشن مشروعًا جديدًا يبنى على ما أسس، فلم يجد سوى هبة رجلٍ واحد من جموع الناس على اختلاف مستوياتهم الاجتماعية والفكرية تدافع عن الرجل وقيمته ومكانته، قد يختلف معه أو عليه أحد، لكن الجميع يراه إحدى آيات الله المعجزة فى خلقه فلا مساس.
مشروع فرج فودة كلفه حياته، يتم أبناءه وعرض مستقبل أسرة لمهب الريح لولا ستر الله، فهل يجزم أحد بأنه لم تكن هناك جدوى من اجتهاد فرج فودة فى حياته؟!.. قطعًا لا فالأثر استمر وإن غاب الرجل، سيرته حاضرة وفكره أكثر حضورًا كنقطة تحول هامة واصل بعدها آخرون، وهكذا الأيام، وقبل هذا وذاك وبعدهما عدد لا حصر له من ورثة الأنبياء، خلفاء الله فى أرضه المستخلفون فى خلقه.
فإذا كنت صاحب مشروع، وإيمانك به حقيقى فلا تستسلم أبدًا لسؤال الجدوى، وإذا أهدافك كبيرة لا تخض معارك صغيرة، ولا تسمح لأحد بأن يحدد لك أطر فعلك وعطائك، فلا نمطية حاكمة من أى نوع، لا يُشترط الحراك ضمن جماعة أو مؤسسة، ولا تعتمد المناظرات وسيلة قاطعة لإثبات الحجة فلا أحد على حقٍ أو على باطلٍ فى المطلق، الاجتهاد كله نسبى فيما هو نسبى، فقط على الجميع أن يجتهد كل فى موقعه، ولنترك الحراك يؤتى ثماره مع الوقت، وصدى الحراك فى دائرة صغيرة حولك يضمن لك اتساعها مع الوقت، وكل شىء فى الحياة مدفوع الثمن، احذر فقط سؤال الجدوى.