يوسف القعيد: الغيطانى دافع عن مصر والهوية على الجبهة وفى أعماله الأدبية (حوار)
- صداقتنا بدأت من جلسات نجيب محفوظ في مقهى ريش وامتدت حتى وفاته
- أهدينا محمود أمين العالم نسخة من مجموعة "أوراق شاب عاش منذ ألف عام" فعرض علينا العمل في "أخبار اليوم"
- كان يحلم بإنجاز عمل أدبي عن حياة المؤرخ المصري ابن إياس على غرار رائعته "الزيني بركات"
- إنشاء متحف يحمل اسمه في حي الحسين سأعتبره تكريمًا لي ولصديق عمري
ذات نهار من نهارات عام 1969، حصل المجند محمد يوسف يوسف القعيد، ابن محافظة البحيرة، الذى كان يقضى فترة تجنيده في القاهرة، على إذن إجازة لمدة 24 ساعة فقط، على أن يعود إلى كتيبته فور انتهاء المدة، وقتها كانت القاهرة تبحث عن نهار بعد أن خيمت عليها أجواء النكسة، في تلك اللحظة قرر "القعيد" أن يقصد مقهى "ريش" بمنطقة وسط البلد، حيث الجلسات الأدبية التي يتوسطها نجيب محفوظ، وما يصاحبها من أجواء بهجة تنقشع فيها ولو لمدة قليلة غيوم النكسة المريرة.
حين دخل المجند يوسف القعيد مقهى "ريش" لفت نظره شاب يجلس إلى جوار نجيب محفوظ، ملامحه توحي بأنه من صعيد مصر، يدعى جمال أحمد الغيطاني، عمره يتراوح بين 23 و24 سنة، ويعمل موظفًا بشركة النسيج.
وقتها كان "الغيطاني" يردد كلمات "عدى النهار" للعندليب الأسمر بصوت هامس طمعًا في نهار يأتي، كما كتب عبدالرحمن الأبنودي، فما كان من "القعيد" سوى أن التفت نحوه ومد يده له وعرفه بنفسه.
ورغم أن "القعيد" من وجه بحري، و"الغيطاني" من وجه قبلي، إلا أن حبهما للكتابة ولهذا الوطن كان بمثابة وشائج الأخوة التي جمعت بينهما منذ تلك اللحظة، حيث لم يفترقا ولأكثر من نصف قرن، ومن هنا بدأت رحلة "القعيد" مع "الشاب الذي عاش منذ ألف عام"، من مقهى "ريش" إلى الجبهة، والتي نرصدها في لقائنا مع الروائي الكبير يوسف القعيد في ذكرى ميلاد جمال الغيطاني؛ وإلي نص الحوار:
كيف أسهمت صداقتك مع الغيطاني في بروز اسميكما في عالم الأدب سريعًا؟
حين قابلت جمال الغيطاني لأول مرة لم يكن قد صدر لي أو له أعمال أدبية، وقتها كنا شبابًا نبحث عن أنفسنا، ووجدنا في جلسات الأديب نجيب محفوظ في مقهى ريش فرصة لندخل عالم الأدب، فذهبنا إلى هناك وتعرفنا على كبار الأدباء والشعراء، ونمت علاقتي بجمال أكثر.
وقتها أسسنا معًا ومع سمير ندا مشروع كتاب الطليعة لننشر أعمالنا الأدبية، وبالفعل صدرت مجموعته القصصية "أوراق شاب عاش ألف عام" أولًا، ثم روايتي "الحداد"، في السلسلة التي كان يرأس تحريرها سمير ندا، ابن شبرا، الذى كان أكثر حماسًا منا للفكرة فتركنا له إدارة المشروع بالكامل.
ونُشر لـ"ندا" عمل أدبي، ثم نشرنا فى الطليعة عملًا آخر لمجيد طوبيا، ولكن للأسف لم يستمر المشروع طويلًا، وهو خسارة فادحة، وأعتقد أن عليّ التزامًا تجاه هذا المشروع يحتم علي التأريخ له وإلقاء الضوء عليه.
ما السر وراء جولة الغيطاني التاريخية فى الزمان والمكان وارتباطه الشديد بابن إياس وجولتك أنت فى التاريخ وارتباطك بالجبرتي؟
جمال عاش فى حي الحسين في 3 درب الطبلاوي، متفرع من قصر الشوق، المكان الذى يحمل عنوان رواية نجيب محفوظ الشهيرة، الجزء الثاني من ثلاثيته، وبالتالي تحول بقصد أو من دون إلى كائن مشبع بالتاريخ.
وحين زرته في بيته لأول مرة وجدت لديه مكتبة نادرة وعظيمة، لم يكن لدى أقراننا وقتها واحدة مثلها، وكنت مجندًا في تلك الفترة ومن الصعب أن يكون لدي مكتبة مثلها وكنت أستعير الكتب منه.
وتعرفت على والده ووالدته وإخوته، كما عاصرته فى كل الأحداث المؤلمة التي ألمت به مثل وفاة أشقائه ووالده ووالدته، وسافر "الغيطاني" إلى قريتي وتعرف على أبي ووالدتي رحمهما الله، وربطتنا علاقة صداقة وأخوة أسرية دائمة.
هل تذكر أهم الأماكن التي كانت تجمعكما سويًا ويفضلها الغيطاني مثل الأحياء التاريخية والمعارض الفنية والندوات الأدبية؟
لقاءاتنا كانت دون اتفاق، والبيت الوحيد الذى كان مفتوحًا لي فى القاهرة بعد وحدتي العسكرية كان بيت "الغيطاني" بالجمالية، وكنت أتردد عليه كثيرًا بموعد ومن دون موعد وكنا نجلس على مقهى "الفيشاوي"، وكان يشرح لي معالم المنطقة لأنه يحفظ كل ما فيها، وهنا أود أن أشير إلى أن من يقرأ أعماله الأولى سيكتشف أنه كان عارفًا بخبايا معرفة لم يسبقه إليها أحد ما عدا نجيب محفوظ وأعماله، وأهمها الثلاثية.
وكيف دافع الغيطاني عن مصر والمصريين من خلال مجموعاته القصصية؟
بعد صدور مجموعته الأولى "أوراق شاب" ذهبنا إلى الأستاذ محمود أمين العالم، في مؤسسة أخبار اليوم، لنهديه نسخة منها، وقتها عرض علينا العمل فى مؤسسة أخبار اليوم، وبالفعل ترك "الغيطاني" عمله في مؤسسة النسيج، التي كان يعمل بها، والتحق بأخبار اليوم، ليكون صحفيًا، واختار أن يعمل محررًا عسكريًا، أما أنا فكنت جنديًا في تلك الفترة.
دافع "الغيطاني" عن مصر والهوية المصرية من خلال عمله محررًا عسكريًا في أخبار اليوم ثم تأسيس أول جريدة ثقافية أدبية في الوطن العربي وفي العالم الثالث هي "أخبار الأدب"، التي كانت وستكون وستظل من أنجح المطبوعات الأدبية التي تعد منبرًا وطنيًا دافع عن مصر والمصريين وهويتهم.
هل فكر الغيطاني ذات يوم في التوقف عن الكتابة الإبداعية؟
أعتقد أن الوقت الذى عمل فيه محررًا عسكريًا من الجبهة، مع المصور جاد الكريم، ابتعد قليلًا عن الكتابة الابداعية، وهنا أود أن أشير إلى أن من يقرأ كتابه المهم "المصريون والحرب" سيكتشف أنه عمل إبداعي بالدرجة الأولى من خلال معايشته للضباط والجنود، وسعدت القوات المسلحة به لجديته وإخلاصه النادر لمدرسة العسكرية المصرية.
كما أن شقيقه إسماعيل أصبح ضابطًا في القوات المسلحة بسبب المناخ الذي أشاعه "الغيطاني" عن العسكرية المصرية وما وثقه على الجبهة في كل أعماله.
ما الذي أضافه الغيطاني للصحافة الثقافية خاصة من خلال تجربته أخبار الأدب؟
هو مؤسس أول صحيفة أدبية أسبوعية فى الوطن العربي كله كما أشرت من قبل، وأنا لا تسعفني الذاكرة لأقطع إن كانت الفكرة له أم أنها فكرة محمود أمين العالم، لكن صدور أخبار الأدب كان حدثًا ثقافيًا مهمًا، وكانت متفردة على مستوى الوطن العربي.
ما المشروع الأدبي الذى كان يتمنى الغيطاني أن ينجزه ولم يسعفه الوقت؟
جمال الغيطاني كان يخطط لكتابة عمل أدبي عن المؤرخ المصري "ابن إياس"، حيث كانت علاقته إنسانية نادرة جدًا بأثره، وهو ما كشفه لي وتلمسته فيه بداية من سكنه فى حي الحسين، وحرصه على جمع كل طبعات "بدائع الزهور في وقائع الدهور" بمكتبته فى بيته.
كان يأمل أن يؤلف كتابًا أدبيًا عن ابن إياس وليس كتابًا أكاديميًا، على غرار رائعته "الزيني بركات" لكن القدر لم يمهله.
قلت فى لقاء تليفزيوني إنك تعلمت من الغيطاني قيمة الصداقة والعمل، فما الذى تعلمه منك؟
الغيطاني من مركز جهينة بمحافظة سوهاج أي من أعماق الصعيد، وأنا من قرية الضهرية التابعة لمركز إيتاي البارود بمحافظة البحيرة، أي من وجه بحري، وحين سافر معي إلى قريتي كانت المرة الأولى التي رأى فيها ريف الدلتا، وتعرف على أهل القرية والعزبة التي كان والدي يزرع فيها -عزبة عبدالقوي سمك.
كان صعيديًا يحب قريته ويكتب عنها فى قصصه ورواياته؛ وما أود أن أؤكد عليه أننا كنا أبناء جيل الستينيات نقرأ أعمال بعضنا قبل نشرها، وهو يقرأ أعمالي قبل نشرها ونتبادل الكتب وجمعتنا علاقة أخوة وصداقة استمرت إلى وفاته، وبعد وفاته، نتواصل مع شقيقه المهندس اللواء إسماعيل الغيطاني حتى اليوم، وشقيقته نوال التى توفيت العام الماضى، كنت موجودًا فى عزائها وكأنها أختي أنا.
طالبت اللواء إسماعيل الغيطاني بكتابة شهادة شقيقه عن حرب أكتوبر المجيدة، هل من استجابة؟
شقيق جمال الغيطاني ليس كاتبًا رغم أن لديه مكتبة بها أحدث الإصدارات، وأعتقد أنه لم يمارس الكتابة الأدبية من قبل، ويبدو أنه اكتفى أن شقيقه جمال الغيطاني كان كاتبًا كبيرًا، ومن منبركم أجدد دعوتي إليه ليكتب تجربته في قواتنا المسلحة العظيمة من نكسة يونيو إلى مصر أكتوبر، وأن يدون شهادته عن عمله كضابط في القوات المسلحة وعن شقيقه جمال الغيطاني الذى يعتبر أحد مؤسسى الصحافة العسكرية في مصر، وأنا أحيي جريدة "الدستور" على تذكرها للغيطاني والكتابة عنه دون مناسبة، وأتمنى أن يسعفني الوقت وأن أكتب عن صديق العمر عملًا أدبيًا يليق به.
هناك متحف صغير يضم متعلقات الغيطاني ومكتبته بالقرب من متحف نجيب محفوظ، هل ترى هذه الخطوة كافية لتخليد اسمه وتكريمه؟
أتمنى أن يقام لجمال الغيطاني متحف فى الجمالية لأنها المنطقة التى أحبها وعاش فيها وكانت روحه تشع أثناء وجوده هناك، وأرجو من وزيرة الثقافة الدكتورة نيفين الكيلاني، أن تتبنى هذه الأمنية المشتركة، لأن رؤية هذا المتحف سأعتبرها تكريمًا لي ولصديق عمري.