خلصنا يا يسوع.. الأقباط يُحيون خميس العهد والجمعة العظيمة بالقداسات والفعاليات

تحتفل الكنيسة الأرثوذكسية، برئاسة البابا تواضروس الثانى، بابا الإسكندرية بطريرك الكرازة المرقسية، اليوم، بحلول خميس العهد، والجمعة العظيمة.

ويتضمن خميس العهد والجمعة العظيمة عددًا من الصلوات والفعاليات المقدسة، التى تقام على مدار اليومين، والتى نستعرضها خلال السطور التالية.

إطلاق «زفة يهوذا الخائن» مع ترتيل لحن «يوداس» التبكيتى

قال برسوم ميلاد، باحث كنسى، لـ«الدستور»، إن الكنيسة دائمًا ما تستهل خميس العهد بصلاة باكر التى تشهد أمرًا فريدًا لا يحدث إلا بها، وهو «زفة يهوذا الخائن»، وهو طقس عبارة عن مشهد تمثيلى يبدأ بإلباس أحد الشمامسة تونية، وهى الجلباب الأبيض الذى يرتديه الكهنة فى الصلوات الكنسية، وتكون هذه التونية بالمقلوب، ويسير بشكل عكسى، أى أنه يمشى بظهره، كما يدور الكهنة والشمامسة أمامه وهم يرتلون لحنًا تبكيتيًا، يسمى لحن يوداس الذى يقول «يهوذا يهوذا مخالف الناموس»، وتكون هذه الزفة عكس بقية الزفات الكنسية التى تبدأ من الناحية اليمنى، بينما تبدأ هى من الناحية اليسرى.

وأشار إلى أن زفات الكنيسة عامة تسير عكس عقارب الساعة، لأن الكنيسة لا تسير وفق معايير العالم ومبادئه، بل إنها تستوحى مبادئها من السماء، إلا زفة «يهوذا الخائن» الذى سار مع العالم، لذا فتكون زفته مع عقارب الساعة وليس عكسها.

«صلاة اللقان»: كاهن يغسل أقدام المصلين محاكاة للمسيح

قال الباحث بيشوى وديع، إن «صلاة اللقان» تعتبر أهم طقوس قداس «خميس العهد»، وخلالها يرتل الكاهن النص الكتابى الذى يشرح كيفية حدوث واقعة «اللقان» المتمثلة فى غسل المسيح أرجل تلاميذه الاثنى عشر، ورفض «بطرس» هذا الفعل تواضعًا منه، وهى توضح قيمة الغُسل الذى نفذه المسيح.

وبعد قراءة ذلك النص، يُلبس أحد الكهنة كاهنًا زميلًا، حزامًا قرمزى اللون من الوسط، ثم يمسح ذلك الكاهن أقدام المصلين بالمياه، مستخدمًا الإزار الذى يرتديه، وبالنسبة للسيدات يمسحهن من معاصم أياديهن.

وتكرر الكنيسة صلوات اللقان ٣ مرات فى العام، وتحديدًا فى عيد الغطاس وخميس العهد وعيد الرسل، ويحتفظ الأقباط بجزء من هذه المياه المصلى عليها، ويستخدمونها فى منازلهم، حيث يؤمن الأقباط بقدراتها على الشفاء من الأمراض وإخراج الشياطين.

أقصر قداس دون صلاة صلح

قال مايكل سمير، خادم متخصص فى تدريس المواد الطقسية، إن قداس خميس العهد أقصر قداس قد يشهده أى فرد على وجه الأرض، لأن الكنيسة تلغى منه أمورًا متعددة، ويقدم خلاله الحمل صامتًا دون صلاة مزامير فى الساعة الثالثة والسادسة والتاسعة.

وأضاف: «لا تقال بعض الألحان مثل (الليلويا فاى بى بى إيوؤ) و(سوتيس آمين)، ويطوف الكاهن بالبخور دون تقبيل ودون أن يُقرأ الكاثوليكون ولا الإبركسيس ولا السنكسار».

وأكمل: «لا يصلى الكاهن صلاة الصلح لأجل قُبلة يهوذا، ثم لا يقول المصلون مفردة المجمع ولا الترحيم، بل يقولون لحن (كما كان)، ويتناولون من الأسرار فى الساعة التاسعة أو بعد الغروب كما ورد فى الدسقولية، حتى لا يكون للمسيحيين شركة مع اليهود فى أكلهم الفصح وقت الغروب، وأثناء التوزيع لا يُقال المزمور ١٥٠ كذلك».

القبلات ممنوعة لعدم التشبه بـ«يهوذا»

قال الشماس الكنسى ريمون عزيز، إن الأيام الأخيرة من أسبوع الآلام، بدءًا من الأربعاء، مرورًا بـ«خميس العهد»، ووصولًا لـ«الجمعة العظيمة»، تشهد منع السلام باستخدام القبُلات فى الكنيسة، موضحًا أن السبب فى ذلك هو عدم التشبه بـ«يهوذا الأسخريوطى»، الذى كان من تلاميذ المسيح، واتفق على تسليمه للرومان مقابل ثمن بخس، يُقدر بثلاثين من الفضة فقط، وهو ثمن كان يُباع به العبيد آنذاك.

وأضاف: «تمنع الكنيسة القبطية الأرثوذكسية استخدام القبلات فى السلام داخل الكنائس، حتى لا يتشبه الناس بـ(قبلة يهوذا)، التى كانت العلامة التى عرف بها اليهود والرومان حقيقة شخص المسيح، لأنهم لم يكونوا يعرفون شكله وخشوا من القبض على أى شخص آخر».

رفض عادة شرب الخل للتشبه بمعاناة المسيح

قال نادر فوزى، أستاذ الدراسات الكتابية، إن الكنيسة القبطية الأرثوذكسية نهت الأقباط عدة مرات عن عادة شرب الخل، التى اعتاد البعض عليها فى يوم الجمعة العظيمة، للتشبه بما تعرض له المسيح على الصليب.

وأضاف: «المسيح طلب مياهًا للشرب، إلا أن الجنود الرومان من فيض قسوتهم أعطوه خلًا ليشربه بدلًا من المياه».

وأوضح أن فعل المسيح حمل مضمونًا رائعًا يشير إلى محبته للنفس البشرية.

ترتيل لحن الألف نوتة موسيقية

أوضح المرتل حربى منير، مدير مدرسة «أفا بافلى» لتأهيل الشمامسة، أن الكنيسة تشهد خلال يومى خميس العهد والجمعة العظيمة أطول ألحانها على الإطلاق، وهما لحنا «أفتشينون»، فى يوم الخميس، و«بيك إثرونوس»، فى يوم الجمعة، مشيرًا إلى أن اللحنين لهما نفس النوتة الموسيقية، ولا خلاف بينهما إلا فى الكلمات.

وقال: «كلمات كل من اللحنين مقتبسة من المزامير، التى كتبها نبى الله داوود، وتحمل فى طياتها تنبؤات عن آلام المسيح، فيقول لحن (أفتشينون): «كلامه ألين من الدهن وهو نصال.. فلو كان العدو عيرنى إذًا لاحتملت.. ولو أن مبغضى عظم على الكلام لاختفيت منه»، فيما يقول لحن «بيك إثرونوس»: «كرسيك يا الله إلى دهر الدهور.. قضيب الاستقامة هو قضيب ملكك.. طوبى للذى يتفهم فى أمر المسكين والفقير.. فى اليوم السوء ينجيه الرب».

وعن سبب تسمية اللحنين، أوضح المرتل الكنسى أن الاسمين يرجعان إلى الترجمة القبطية لكلمات المزمورين، لافتًا إلى أن مدة اللحن تطول إلى نصف الساعة تقريبًا فى المرة الواحدة، لذا يسمى بلحن «الألف نوتة موسيقية»، خاصة أنه يمر بالعديد من المقامات الموسيقية المستوحاة من الألحان المصرية القديمة، وهو ما تسبب أيضًا فى تسميته باللحن الشامى، لأنه مستوحى من سكان جبل شامة بالأقصر.

فيما أشار الباحث الكنسى مرقس ميلاد إلى أن ألحان يوم الجمعة العظيمة تشهد أيضًا ترتيل لحن «أمونوجنيس»، الذى يقال بعد الساعة السادسة، موضحًا أنه لحن يونانى فى كلماته.

ليلة أبو غالمسيس.. سهرة فى قبر يسوع

الإيبذياكون كريستوفر فريد قال إنه بعد انتهاء الجمعة العظيمة يعود الأقباط إلى الكنيسة مُجددًا، فى تمام الساعة العاشرة مساءً، ليسهروا طيلة الليل فى تسبحات وصلوات كبرى، تتخللها قراءة سفر كامل من أسفار الإنجيل، يسمى بسفر الرؤيا، وطبقًا للغة اليونانية يعنى أبو كالبسيس، وعُربت وأصبحت أبو غالمسيس». وأوضح «فريد»: «يرمز ذلك إلى بقاء المسيح فى القبر من الجمعة للسبت، فيسهر الأقباط معه، ليُختتم اليوم بالقداس الإلهى صبيحة اليوم التالى».

المسليات أبرز الممنوعات

قال القائد المسرحى عادل فايز، إن أبرز عادات الأقباط فى يوم الجمعة العظيمة هو عدم مشاهدة التلفاز نهائيًا أو سماع الأغنيات أو العيش فى الأجواء المفرحة؛ فيتعامل الأقباط نفس معاملة من توفى لديه أحد عزيز على قلبه.

وأضاف «فايز»: «يندر أن تجد أحدًا يتناول المسليات أو المياه الغازية أو الحلوى. ويرتدى النسوة اللون الأسود فى أثناء ذهابهن للكنيسة، كما يحصل الأقباط على إجازة من أعمالهم للذهاب إلى الصلاة».

الطعمية والنابت.. الأكلات الرسمية فى أيام النسك

أوضح مرقس حنا، عضو المجلس الكنسى، أن من بين أشهر الأكلات التى يأكلها الأقباط فى يوم الجمعة العظيمة الفول النابت والطعمية، لأنهما أكلتان سريعتا التحضير، خاصة أن الأقباط يكونون فى هذه الأيام مشغولين بالصلوات والنسك والزهد، مع الامتناع عن تناول الأطعمة المُجهزة.

وقال: «فى ظل ذلك، يبحث الأقباط عن تناول أسرع الأطعمة التى يمكن تحضيرها، ومن هنا يأتى الإقبال على شوربة الفول النابت، وأكل الطعمية».

التكفين والدفن على أنغام «جنازات فرعونية»

جورج فهمى، القائد الكشفى، قال إن يوم الجمعة العظيمة يختتم بطقس الدفنة والتكفين، عبر تكفين صورة المسيح ودفنها وهى مغطاة بالورود والأطياب على غرار ما فعله القديس يوسف الرامى والقديس نيقوديموس، مع جسد السيد المسيح.

وأضاف «فهمى»: «فى أثناء ذلك يرتل لحن الجلجثة، الذى كان فى الأصل لحنًا فرعونيًا قديمًا كان يستخدم فى جنازات الملوك».

البابا شنودة.. الحاضر الغائب بقصائده فى الجمعة العظيمة

أشار المرنم عماد عادل إلى أنه لا يمكن أن تمر الجمعة دون أن يتذكر الأقباط البابا الراحل شنودة الثالث، الذى كتب أشهر القصائد التى تتلى فى يوم الجمعة العظيمة، وهى قصيدة من ألحان باراباس.

وأضاف «عماد»: «باراباس هذا كان مُجرمًا فظًا لا يُطاق، ومع ذلك طلب اليهود أن يُفرج عنه نظير أن يُصلب السيد المسيح، إذ كان الوالى الرومانى بيلاطس البنطى من عادته أن يُفرج لليهود عن أحد المساجين كهدية فى عيد الفصح، إلا أنهم طلبوا أن يُفرج عن باراباس الذى لطالما تسبب فى أذيتهم وأسرهم، على أن يُصلب السيد المسيح».

وتابع: «يتخيل البابا الراحل شنودة الثالث فى قصيدته من ألحان باراباس، أن باراباس يتساءل: لماذا هذا البار معلقًا على الصليب؟، فى إشارة إلى السيد المسيح، بينما هو المخطئ حر يتباهى بحريته كرجل طليق».

دورات جنائزية فى الكنيسة القبطية بالقدس

قال القمص يسطس الأورشليمى، راعى الكنيسة القبطية الأرثوذكسية بالقدس، إنه فى يوم الجمعة العظيمة يبدأ الأقباط صلوات البصخة المقدسة من الساعة الرابعة صباحًا حتى يدخل الموكب الرسمى الساعة الحادية عشرة.

وأضاف «الأورشليمى»: «ثم يكمل الأقباط صلوات هذا اليوم العظيم طيلة اليوم داخل الكنيسة، كما يضعون المقاعد ويفرشون الأبسطة والسجاجيد أمام الكنيسة القبطية بالقيامة وحولها لراحة المصلين، ثم يقومون بين الساعة الخامسة والسابعة مساءً بدورة احتفالية تسمى دورة الجناز، ويطوفون بموكبهم وهم يرتلون الصلوات ويلقون العظات فى هيكل حبس المسيح بالقيامة، ثم هيكل لونجبينوس الجندى، ثم إلى هيكل الأقباط، وبعد انتهاء الصلوات تختم الدورة ثم يعود الكل إلى البطريركية فى موكب رسمى».

وتابع: «أما دورة الجناز العام فى الجمعة العظيمة، فتقام بين ٥ و٧ مساءً بأرجاء كنيسة القيامة، وينقسم الموكب عدة أقسام؛ أولًا يتقدم حاملو الصلبان والبوارق، ثم تلبس فتيات الكنيسة القبطية بالأراضى المقدسة الملابس البيضاء ويرنمن تراتيل جنائزية».

وأكمل: «يأتى من خلفهن الشمامسة وهم يرتدون التون البيضاء والبدراشنات الجنائزية ذات اللون البنفسجى، ثم يأتى من بعدهم الآباء الرهبان ويرتدون الصدر الجنائزية، ومن فوقها البرانس الجنائزية، ثم يأتى خلفهم المطران بملابس كهنوتية جنائزية وأمام حامل الأناجيل وحامل الشمعدانات وحامل الشوارى، ويضع فوق رأسه العمامة وفوقها البرنس الجنائزى وبيده الحية النحاسية ومدلى منها شريط أسود».

400 سجدة للتوبة والاعتراف بالخطايا 

قال مينا إسحق، الخادم الكنسى، إن من أبرز العلامات الخاصة بيوم الجمعة العظيمة «السجود ٤٠٠ مرة». وأوضح «إسحق»: «السجود أو الميطانية- هو مصطلح يونانى للسجود- دليل على التوبة؛ إذ ينزل الإنسان كمن يهدم ذاته المتشامخة والعالية وينزل بأنفه المتعالية والمتشامخة حسب لغة البشر، إلى الأرض، مُتضعًا ومُقرًا ومُعترفًا بخطاياه التى اقترفها وارتكبها فى حق الله». وتابع: «لذلك وبما إن يوم الجمعة العظيمة هو اليوم الأكبر للتوبة، فتقوم الكنيسة بعمل ٤٠٠ ميطانية، بمعدل ١٠٠ فى كل اتجاه الشرق والغرب واليسار واليمين، ما يوحى بإعلان التوبة فى كل مكان وعن كل خطية ارتكبها الإنسان بقصد أو عن دون قصد».