محمد الباز يكتب: سناء البيسى.. أم كلثوم الصحافة المصرية
مرة واحدة أسعدتنى أقدارى بالجلوس على مقربة منها.
مائدة عشاء عابرة فى واحدة من المناسبات الرسمية، التى يتبادل الموجودون فيها عبارات المجاملة فارغة المشاعر، سطحية الإحساس.
وجدتنى رغمًا عنى مأخوذًا بملامح السيدة التى تختزن عقودًا من أسرار وطن ومهنة وأجيال، جلست أستمع إليها مأخوذًا بتعبيرات وجهها التى تحاصرها ابتسامة لا تفارقها أبدًا، كنت أبحث عن هذا الطوفان الهائل الذى أحدثته فى الصحافة المصرية عندما تولت تأسيس ورئاسة تحرير مجلة «نصف الدنيا» فى فبراير من العام ١٩٩٠.
إنها هى.. سناء البيسى.
الاسم الذى يصعب علينا ترجمته فى كلمة واحدة، أو فى عبارة طالت أم قصرت مهما كانت بليغة ومكثفة وعميقة.. فحروفها تغلب كل المعانى وتتجاوزها.. والقصة تحتاج إلى راوٍ شعبى من الذين يُجيدون صياغة الملاحم الكبرى، ليقول لنا عن الذى كان.
عندما كانت سناء البيسى تخطط على أوراق صغيرة أعتقد أنها ما زالت تحتفظ بها - ملامح مجلتها التى قدر لها أن تكون ثورة فى عالم الصحافة المصرية، كنت على بُعد خطوات قليلة من كلية الإعلام جامعة القاهرة، باحثًا عن مرفأ آمن فى محيط صاخب لا أعرف عنه إلا ما يدينه ويشينه ويبدد أسطوريته التى يحملها أبناء البلاد البعيدة عن القاهرة بأضوائها وقسوة قلبها.. تعثرت فى الطريق قليلًا، لكننى كنت أتحين الفرصة للوصول.
فى نهايات العام ١٩٩٣ وصلت إلى القاهرة.. وكانت سناء قد وضعت قواعد المجلة التى أراد لها رئيس مجلس إدارة «الأهرام» أن تكون نسائية، فإذا بها تنفخ فيها من روحها فتحولها إلى مرجعية للثقافة والفن والأدب والفنون التشكيلية والتاريخ، واضعة حجر أساس لمدرسة صحفية جديدة، أهم ملامحها أن صحافة المرأة بها فارقت ما كانت عليه قبلها.
لم أفكر أبدًا فى الاقتراب، كنت أتحاشى أسوار المؤسسات الصحفية الكبيرة.
دخلت مرات قليلة الأهرام فاختنقت من برودة ممراتها الرخامية التى لا تحمل ودًا للغرباء.. فضلت أن أكون متابعًا عن قرب لما ينتجه الكبار انتظارًا لفرصة كنت أعرف حتمًا أنها ستأتى.
لا أعرف على وجه التحديد اللحظة التى أمسكت فيها باسم سناء البيسى، لكنى ما زلت أذكر جلسة عمر طاهر، رفيق الأيام الصعبة فى مدينة الطلبة بإمبابة، فى نهاية طرقة المجلس الأعلى للصحافة فى مبنى كورنيش النيل الذى احترق فى فوضى ٢٨ يناير ٢٠١١، وفقدنا يومها مكتبة هائلة يتحسر عليها الآن كل من استعانوا بها لتكوين وعيهم ورصيدهم المعرفى.
وجدت «طاهر» يضع إلى جواره حقيبة جلدية وبها نسخ من أعماله الصحفية التى كان يكتبها لجريدة «الدستور» التى عملنا بها فى إصدارها الأول، لم يفصح عمر عن كثير مما لديه عندما سألته: مصور موضوعاتك ليه؟، قال بحذر: عندى مقابلة مع الأستاذة علشان أشتغل معاها.
قرأ السؤال فى عينى، قال: لما بيقولوا الأستاذ بيبقى الكلام على محمد حسنين هيكل، ولما بنقول الأستاذة يبقى الكلام على سناء البيسى.
لم تكن مهمة سناء البيسى هى إصدار مجلة تُضاف إلى طابور الإصدارات المتخصصة التى تسابقت المؤسسات الصحفية لتزحم السوق الصحفية بها، ولكنها كانت تمهد الطريق أمام أجيال جديدة لا تملك إلا موهبتها وبعض أحلام فى الصعود، أفسحت لهم من روحها دروبًا ومسالك كانت معقدة، وجلست تنتظر ما يجود به الغرس، وأعتقد أنها سعيدة الآن وهى تتابع أولادها الذين تربوا فى المجلة وهم الآن كتاب كبار وأصحاب تجارب مهمة فى الصحافة والكتابة... وربما فى الحياة أيضًا.
بعد ١٥عامًا تركت سناء البيسى رئاسة تحرير «نصف الدنيا».. لم تغلبها سنوات عمرها الستون، استمرت بدعم هائل من كل محبيها، لكن بعد سنوات كانت الريح السياسية عاتية فوجدت نفسها مضطرة إلى الرحيل عن العالم الذى نسجته من خيوط روحها، ورسمت خطوطه بفرشاتها التى لم تفارقها أبدًا.
كانت تتمنى أن يجلس على كرسيها واحدة من بناتها فى المجلة وهن كثيرات، وكن قادرات على توجيه السفينة العملاقة إلى مرفأ آمن، لكن كان للإدارة رأى آخر، فقد جاءت إلى المجلة الكاتبة الصحفية أفكار الخرادلى.. وعندما حطت على أرض المجلة ومن العدد الأول شعرت بأن شيئًا فى الروح تغير.. وأن أشياء فى أثاث البيت تبدلت.. ورغم أن هذه هى سنة الحياة والصحافة، لكن مَنْ قال إن كل السنن حسنة؟ لكنها على كل حال كانت تجربتها، بما لها وما عليها.
استوقفتنى جملة متوحشة فى رسالة سناء القصيرة المكثفة إلى «أفكار»، وهى الرسالة التى نشرتها واحتفت بها فى عددها الأول، قالت لها: خلى بالك من الولاد.
هذه هى العلاقة إذن، أم تترك وراءها أولادها دامعة العينين وهذا حتمى، مضطربة الفؤاد وهذا طبيعى، خائفة من المجهول وهذا منطقى، فلم تكن «نصف الدنيا» بالنسبة لسناء البيسى مجرد مجلة أصدرتها، لكنها بيت بنته وتعرف كل ركن فى أركانه جيدًا، وتخشى على من سكنوه إلى جوارها من الشتات.
قبل أن تحط سناء البيسى رحالها على شاطئ «نصف الدنيا»، كانت تحمل على كتفيها ٥٦ عامًا من التجربة الحياتية والمهنية، ولم يكن أمامها إلا أن تحتشد تمامًا لدورها الذى قيدته لها أقدارها.. كان التحدى صعبًا وكاملًا ومعقدًا، وكانت هى على قدره ومقداره.
المفارقة التى يمكن أن تتأملها هى أن سنوات عمرها الـ٥٦ التى دخلت بها إلى المجلة، يمكن أن تمثل رقمًا له دلالة مختلفة.
ففى العام ٥٦ كانت تجلس فى مدرجات قسم الصحافة بكلية الآداب جامعة القاهرة، فتاة مصرية يكتمل لها ١٩ عامًا أمام عملاق الصحافة المصرية وقتها مصطفى أمين الذى كان يلقى على طلابه محاضرة، وبطريقته العملية طلب منهم أن يكتبوا تقريرًا مكثفًا عن المحاضرة وما دار فيها.
بعفويتها التى ولدت معها كتبت سناء ضمن تقريرها «حضر الأستاذ مصطفى أمين ليلقى علينا محاضرة لم أفهم معظمها، لأنه كان ينفث كلماته بين أنفاس سيجارته التى غرسها بين شفتيه مع الدخان».
بعبقرية كشاف النجوم التى كان يملكها مصطفى أمين اصطحب معه سناء البيسى إلى «أخبار اليوم»- التى كان عمرها ١١ عامًا بعد صدورها فى العام ١٩٤٥- لتكون فصلًا جديدًا فى حياة الصحافة المصرية، وعلامة من علاماتها.
هدوء الطالبة الجامعية لم يمنعها من التفاعل مع مدرسة الإثارة الصحفية الصاخبة التى أسسها مصطفى أمين وجعل منها منهجًا ومسلكًا يعبره من يريدون أن يكون لهم شأن فى مهنة لا تعرف الهدوء أو الخمول أو الكسل، وكان طبيعيًا أن تصعد سناء حتى تصبح رئيسة لقسم المرأة فى مجلة «آخر ساعة» أحد إصدارات المؤسسة العريقة مستدفئة بونس زوجها الفنان الكبير منير كنعان.
ولأن الصحافة لا تعيش فى مأمن أبدًا فى ظل سياسة متقلبة ومفاجئة، فقد وجدت سناء نفسها فى مطب مهنى كبير فى منتصف الستينيات بسبب محاولات تغيير هوية أخبار اليوم، دخلها اليساريون والاشتراكيون، الذين لم يكن همهم تطوير المهنة والصعود بالمؤسسة، بقدر ما شغلهم مطاردة أبناء مصطفى أمين الذى دخل السجن متهمًا فى قضية تجسس، وهى القضية التى لا تزال ملغزة إلى الآن.
لم تجد سناء البيسى أمامها سوى باب هيكل، فطرقته عبر زوجها، وكان هيكل كريمًا بما يكفى، فأصدر قرارًا بتعيينها فى الأهرام، بعد أن أصبحت حياتها فى أخبار اليوم مستحيلة.
كان انتقال سناء البيسى إلى الأهرام مولدًا جديدًا، فى المؤسسة الكبيرة واصلت عملها بشغف، لكن الأهم من ذلك أنها وجدت نفسها وسط عالم من الفكر والأدب والثقافة بناه هيكل الذى لم يترك كاتبًا كبيرًا، ولا مفكرًا له وزن، ولا مثقفًا صاحب طريقة إلا وضمه للأهرام.
تخيل نفسك هاربًا من جحيم السياسة التى تُفسد روح المهنة، لتجد نفسك مجاورًا لتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ولويس عوض وبطرس غالى وحسين فوزى والدكتورة عائشة عبدالرحمن.
وتخيل أكثر أن تطالع وأنت جالس فى مكتبك بصحيفتك وجوه زوارها من القذافى إلى الملك حسين.. ثم فجأة تجد الرئيس عبدالناصر وبصحبته الرئيس السادات يدخلان عليك مكتبك.
اترك ذلك كله وتخيل أكثر وأكثر أن تكون فى صحبة هيكل.. القطب الأكبر فى حياتنا الصحفية.
أسمعك تقول الآن إن سناء البيسى حتمًا كانت محظوظة حينما وجدت نفسها فى هذا المكان وبين كل هؤلاء.. لن أعارضك أو أتهمك بأنك تبالغ، بل سأزيدك من الشعر بيتًا، فقبل أن تصل سفينة سناء إلى ميناء الصحافة الكبير أسعدها زمنها بأن تحضر بعض جلسات صالون العقاد الكبير فى بيته بمصر الجديدة، وأن تكون واحدة من أعضاء اجتماع الكاتب الكبير يحيى حقى الأسبوعى بطلاب قسم الصحافة بكلية الآداب.
كانت سناء محظوظة بالفعل، لكن من قال إن الحظ يصادف من لا يستحقونه؟
أنصفتها الأقدار، لأنها صاحبة موهبة عملاقة، ربما بالقدر الذى لم تستوعبه هى نفسها، لكن كل من عملوا معها كانوا يعرفون ذلك.
كانت سناء البيسى تعرف جيدًا ما تستطيعه، وقليلون فى حياتنا من يدركون حجم ما يملكون، وربما لهذا تحملت ضغط الرئيس السادات الذى حاول أن يجرها إلى ما أراد، ففى السبعينيات عرض عليها أن تكون رئيسة لتحرير مجلة «حواء» فاعتصمت بقدرتها على الرفض، حاول مرة أخرى، فعرض عليها رئاسة قسم المرأة فى جريدة «مايو» التى صنعت على عينيه، لكنها اعتصمت بقدرتها على الصمت.
كانت تعرف أن السادات غضب من محاولتها الابتعاد عما يريد أو يخطط له، لكنها كانت تتمسك ببيتها الكبير فى الأهرام، ربما لأنها كانت تعرف أن محطتها الكبيرة لم تأت بعد، وأن الأقدار التى أنصفتها تدخر لها التجربة الكبيرة... فرحلتها حتمًا ستتوج بما يناسبها.
كان هناك رافد آخر من روافد تكوين شخصية سناء ليس المهنية هذه المرة ولكن الإنسانية، وهو الرافد الذى أعانها فى إنجاح تجربة «نصف الدنيا».
فى السبعينيات كان يُلح عليها خاطر خدمة زملائها من الصحفيين، لم تكن تعرف طريقًا ممهدًا أو معبدًا لذلك، جاءتها النصيحة ممن تثق فيهم بأن ترشح نفسها لعضوية مجلس نقابة الصحفيين، فتكون لها منصة تعمل من خلالها، تخوفت قليلًا، فقد منحت نفسها بالكلية للصحافة، لم تكن لها خبرة بالانتخابات والمنافسات التى تحكمها الكواليس والتربيطات، ومع ذلك رشحت نفسها وربحت مقعدًا فى مجلس النقابة، وكانت على قدر المسئولية تمامًا.
دخلت سناء إلى «نصف الدنيا» وهى بنت مهنة مخلصة يميزها أن ما تفعله تباشره بقلب وضمير، وبنت مجتمع تعرف أنه يحتاج إلى ما يعينه، ولذلك لم تقدم صحافة مختلفة، بل أخذت بيد من يحتاج، طبطبت عليه وجبرت بخاطره.
يقولون إن كلًا منا لا يحصل على ما يستحقه فقط، ولكن على ما يشبهه أيضًا، وكانت مجلة «نصف الدنيا» تشبه سناء تمامًا.
دخلت سناء إلى «نصف الدنيا» وهى بنت مهنة مخلصة يميزها أن ما تفعله تباشره بقلب وضمير، وبنت مجتمع تعرف أنه يحتاج إلى ما يعينه، ولذلك لم تقدم صحافة مختلفة، بل أخذت بيد من يحتاج، طبطبت عليه وجبرت بخاطره.
يقولون إن كلًا منا لا يحصل على ما يستحقه فقط، ولكن على ما يشبهه أيضًا، وكانت مجلة «نصف الدنيا» تشبه سناء تمامًا.
من حقك أن تتعجب أن فكرة إصدار هذه المجلة برئاستها بدأت فى بداية الثمانينيات، أى قبل صدورها الفعلى بعشر سنوات، لكن يزول عجبك عندما تعرف أن «نصف الدنيا» حتمًا كانت نصيبها من الدنيا، فقد انتظرها نصيبها حتى صدرت المجلة فى بداية التسعينيات.. لتبدأ الرحلة الكبيرة فى حياتها.
خمسة عشر عامًا لو حاولت أن تضع إنجاز سناء البيسى فى «نصف الدنيا» على حافة توصيف يلخصه، ستجد نفسك أمام كلمة واحدة فقط، هى «ذاكرة».
لقد جعلت من مجلتها حافظة لذاكرة أمة، وذلك تحديدًا من خلال الحوارات التى نُشرت مع رموز المجتمع المصرى، ومن خلال الملفات الخاصة «النصف الآخر» التى كانت تقدم من خلالها سيرة ومسيرة من صنعوا لهذا الوطن مجده.
حاول أن تستعيد وجوه من كتبوا فى «نصف الدنيا»، ومن كتبت عنهم، ستجد نفسك أمام كنز لا يفنى من المعرفة والثقافة والأسرار والتاريخ والتذوق والإحساس.. كل ذلك نسجته سناء بهدوء شديد وكأنها تعزف لحنًا تحبه دون أن تمل منه أو تكل من تكراره.
هل أتجاوز الواقع لو قلت إنها سيدة الصحافة المصرية الأولى؟
لن أتجاوز أى واقع على الإطلاق.
وهل أتجاوز إذا قلت إنها بالنسبة لى ولأجيال كثيرة تمامًا مثل أم كلثوم فى عالم الغناء؟
سأكون بذلك معبرًا عن الواقع تمامًا.
فكما لا يستطيع أحد أن يحيط بما قدمته أم كلثوم، فلا أحد يستطيع أن يحيط بأسرار سناء البيسى فى الصنعة التى لا يمكن أن يلحظها إلا من يعيشون فى مطابخ الصحف وورشها.
سناء البيسى أسطى من أسطوات مهنة الصحافة.
ضع تجربتها قبل «نصف الدنيا» جانبًا، وتأمل فقط ما حدث خلال خمسة عشر عامًا.
تشغلنى التجارب الصحفية كثيرًا، وأعرف أنه حتى الآن لم يكتب أحد عن تجارب الكبار الصحفية بما يليق بها، أو لأكن أكثر دقة، لم يكتب أحد بشكل صحيح عن هذه التجارب.
نحن نعرف محمد التابعى، هيكل، مصطفى وعلى أمين، أحمد بهاء الدين، إحسان عبدالقدوس وغيرهم كصحفيين، لكن لم يقل أحد لنا ملامح مدارسهم المهنية، عطاءاتهم التى يمكن أن تتحول إلى خبرة للأجيال التى تتعاقب على المهنة.
هناك ملمح مهم جدًا من ملامح مدرسة سناء البيسى الصحفية، وهى أنها رائدة صحافة التفاصيل.. تشغلها جدًا وتحرص عليها جدًا وتبقيها على صفحاتها جدًا، وكأنها تقول للناس إن التفاصيل التى يمكن أن تكون مزعجة، نقدر على تحويلها إلى مصدر بهجة، المهم هو كيف نكتشفها ونعرضها.
استطاعت سناء أن تقتحمنا بـ«نصف الدنيا» من خلال صيغة صحفية خاصة بها وحدها، أعتقد أن أحدًا لم يسبقها إليها، ولم يلتحق أحد بها حتى الآن، وهى القدرة على تحويل الأفكار الصغيرة التى لا يمكن أن يلتفت إليها أحد إلى ملفات ضخمة وثرية ومثيرة للإعجاب قبل الجدل.. تخيل أنها أعدت عددًا كاملًا من مجلتها عن البلكونة.
وضعت سناء البيسى يدها على أكتاف الكبار فى مجلتها، لم يكتبوا لها فقط، بل استحضرتهم فى حوارات غير تقليدية، لا يجريها محررو المجلة، بل يكونون شهودًا عليها، وكم كان لافتًا قدرتها على إقناعهم بأن يسجلوا اعترافاتهم عندها وحدها.
أعتقد أن عدد «نصف الدنيا» الذى احتفلت به سناء بمرور عشر سنوات على الصدور، وجلس فيه كبار النجوم على «شيزلونج» مريح يتحدثون كما لم يتحدثوا من قبل، واحد من أهم الأعداد الخاصة فى تاريخ الصحافة المصرية كلها، ثم إنه لم يعكس ثقل سناء المهنى فقط، ولكن عكس أيضًا ثقة الجميع فيها.
هذه الثقة هى التى جعلت نجيب محفوظ ينشر لديها بشكل خاص وحصرى «أحلام فترة النقاهة»، رافضًا عروضًا جاءته بالملايين من منصات إعلامية مصرية وعربية، بل كان يترك لها أن تفك طلاسم خطه الذى أصابته الطعنة الغادرة التى حاول متطرف مهووس أن يقطف روحه بها، وعندما كان يتعذر عليها قراءة كلمة أو فك شفرتها، تعود إليه، فتجده بثقته فيها يقول لها: اكتبيها بطريقتك.
قد تبحث عن أسباب غير منطقية لظاهرة سناء البيسى، سأقول لك: لا تُرهق نفسك فى ذلك، فجميع أسبابها منطقية تمامًا، لكن يمكننى أن أضيف إلى كل ما ستضعه أمامك سببًا بالنسبة لى مهمًا جدًا، وهو الخيال.
لا يستطيع أحد أن ينجح حتى لو كان عمله بسيطًا جدًا، إلا إذا كان يملك خيالًا، وكلما كان هذا الخيال رحبًا جامحًا، كان قدر النجاح كبيرًا.
زاحمت الكتابة عند سناء موهبتها الكبيرة وهى الرسم، فنانة تشكيلية تطوع الفرشاة والألوان، كما تطوع الكلمات تمامًا.. تميل إلى رسم الزهور وبعث الروح فى الخيول التى تحبها حد العشق فى لوحاتها.. ورغم أن الكتابة غلبتها، إلا أنها لم تأخذها تمامًا من محرابها التشكيلى.. حملته معها، ليس بتخصيص مساحة للفن التشكيلى على صفحات «نصف الدنيا» ولكن من خلال إطلاق العنان للخيال فى كل فكرة وعبارة ولوحة وصورة وغلاف.
الخيال كان أنيسًا لسناء ومؤنسًا لها عندما تركت «نصف الدنيا».. لتبدأ رحلة أخرى من الإبداع عبر مقالاتها الأسبوعية فى جريدة الأهرام، وهى المقالات التى أقابلها فى كتبها الأخيرة «سيرة الحبايب- مصر يا ولاد- عالم اليقين».
حجزت سناء البيسى لنفسها مقعدًا خاصًا فى عربة كتّاب المقالات المؤثرين فى تاريخ مهنتنا، وقد عرفت أنها نجحت نجاحًا لا يضاهيه نجاح، عندما توقفت عن كتابة هذه المقالات بعض الوقت، فجاءتها رسالة من خادم مسجد فى شبرا الخيمة يطمئن عليها، ويقول لها: بلاش تغيبى علينا يا ستنا.
هل يمكن أن نلخص حال سناء البيسى المتفرد فى بلاط صاحبة الجلالة بكلمة بعد أن لخصنا تجربتها فى «نصف الدنيا» بكلمة؟.
لن أجد أفضل من كلمة نجيب محفوظ لها: «بطريقتك».
هى بالفعل صاحبة طريقة.. ولن أكون مبالغًا للمرة الأخيرة عندما أقول إنها «شيخة طريقة» فى الصحافة والحياة، مشرقة ومقبلة ومتدفقة، وإذا أردتم أن تعرفوا جيدًا روحها المحلقة فراجعوا بعض تفاصيل شخصيات سعاد حسنى فى مسلسلها «هى وهو» الذى كتبت قصصه.. سناء الجادة المرحة الملتزمة المبدعة، بنت البلد الجدعة، أم دم خفيف.
هذا كل شىء، فأن تكون متفردًا تعمل ما لا يستطيع أن يعمله غيرك، فمعنى ذلك أنك وصلت إلى أعلى مراقى التحقق، وهذا هو ما جرى لسناء البيسى تمامًا.
نشر الخميس 7 فبراير 2019