المحرر الأدبى.. «ميكب أرتيست» النصوص والجندى المجهول فى كواليس دور النشر
بينما تحظى مهنة المحرر الأدبى بالتقدير فى الأوساط الثقافية الغربية، لا تزال على المستوى العربى تواجه الكثير من العقبات والتحديات، أبرزها إهمال معظم دور النشر التحرير الأدبى، ما يؤدى إلى إخراج العشرات، بل المئات من الكتب سنويًا التى تعانى الترهل والأخطاء والمشكلات الأسلوبية والتحريرية، إضافة إلى أن الكُتاب أنفسهم لا يستسيغون بسهولة أن يحذف آخرون من أعمالهم أو حتى يجروا تعديلات على المسار السردى أو الفكرى لكتاباتهم، علاوة على سوء الفهم الذى يحيط بإدراك محددات المهنة التى تتجاوز مسألة التصحيح اللغوى إلى إعادة تركيب العمل إن استلزم الأمر ذلك.
«الدستور» تواصلت مع بعض المحررين الأدبيين فى الوسط الثقافى، وأصحاب دور النشر، وعدد من الكتاب والمترجمين، لمعرفة كواليس المهنة، ودورها الحقيقى وأهميتها والعقبات التى تعترض طريق تفعيل دورها بدور النشر العربية.
قال الكاتب الروائى والمحرر الأدبى على قطب، الذى يعمل محررًا أدبيًا بدار «بيت الحكمة للثقافة» والفائزة بجائزة الشيخ زايد للكتاب ٢٠٢٤ فى فئة النشر والتقنيات الثقافية، إن دور المحرر الأدبى حاضر فى الثقافة العربية بالوقت الراهن بعد أن كان غائبًا لفترة. وأضاف أن المحرر يصنع جسرًا بين الكاتب والنص الذى كتبه وبين الكاتب ودار النشر من جهة أخرى، وأن عملية التحرير توافقية بين المحرر والكاتب، وتتوقف على المرحلة التى يظهر فيها المحرر فى العملية الإبداعية، بمعنى أن المحرر قد يبدأ عمله مع الكاتب منذ نشأة الفكرة، أو خلال عملية الكتابة نفسها، أو بعدما ينتهى الكاتب من عمله، ولكل مرحلة طبيعة عملها المختلفة.
وتابع: «من أبجديات التحرير الأدبى ألا يكون العمل قبل التدخل فيه رديئًا، وألا تنقص صاحبه الموهبة الحقيقية، وإلا تحول المحرر الأدبى إلى كاتب ظل، كما أنه من المهم ألا تُرى بصمات المحرر الأدبى فى المتن، فالعمل الإبداعى فى الأساس صوت فردى للكاتب نفسه، وظهور أى صوت آخر سيشتت القارئ ولن يضيف للعمل، بل سيأخذ منه، إذن فالمحرر يجب أن يتوارى تمامًا خلف المؤلف».
من جهتها قالت القاصة أميمة صبحى، التى تعمل فى مجال التحرير الأدبى والترجمة منذ سنوات، إنه ليس من حق المحرر أن يتدخل فى النص، موضحة: «النص ملك للكاتب، والمحرر فقط يقدم اقتراحات، ولكن من الممكن أن يتدخل المحرر إن كان بالنص ما يخالف سياسة دار النشر لأى سبب، ولكن باعتبارى كاتبة فأرى أن المحرر بالنسبة لى مجرد رأى استشارى، ومن حقى الموافقة عليه أو رفضه، فدور المحرر أن يساعد الكاتب فى نشر النص بأفضل صورة ممكنة، لأنه يعمل لصالح الكاتب والنص، ولذلك أقدم رأيى لجعل النص أفضل».
بدورها أكدت فاطمة البودى، مدير عام دار العين للنشر والتوزيع، الفائزة بجائزة الشيخ زايد للكتاب، العام الماضى، أهمية دور المحرر الأدبى، قائلة «أعلم من اطلاعى على دور النشر الأجنبية أهمية الدور الذى يلعبه المحرر الأدبى، فالتحرير ليس فقط للأعمال الأدبية والروائية، وإنما لكل قسم من أقسام المعرفة، فهناك محرر للكتب السياسية، وآخر للكتب الجغرافية أو التاريخية وهكذا، وخارج الوطن العربى يصل الأمر إلى أن لكل كاتب المحرر الخاص به الذى يعرف أسلوب الكاتب».
وأضافت: «حاليًا يعمل المحرر الأدبى بشكل أساسى على الأعمال الأدبية، ولكن أحيانًا يمكن أن أستعين بمستشار خاص أو عالم خاص فى بعض الكتب العلمية المتخصصة، وبشكل عام الاستعانة بالمحرر ضرورة وواجب، لإنتاج كتاب محترم فى مادته، وخال من الأخطاء التاريخية والعلمية».
وترى «البودى» أن المحرر الأدبى ينبغى أن يتمتع بثقافة تفوق ثقافة الكاتب نفسه، كما أنه على الكاتب أن يثق فى نفسه وفى المحرر الساعى لإنتاج أفضل نسخة من العمل، لافتة إلى أنه فى بعض الحالات القليلة رفض كُتاب التدخل فى نصوصهم، ما أدى لاعتذار الدار عن عدم نشر العمل.
وعن السبب وراء تهميش دور المحرر، تقول البودى: «أرى أن تهميش دور المحرر يعود إلى الخلط بين مهنة المحرر الأدبى والمصحح اللغوى، فالمصحح لا يتدخل فى بناء النص، بل يهتم بالأمور اللغوية والنحوية فقط، ولكن المحرر له حق التدخل فى النص بتكثيف بعض الأجزاء أو حذفها، وهناك محررون يعدون قائمة بالتعديلات المطلوبة ويقدمونها إلى المؤلف، فيجرى المؤلف التعديلات المطلوبة ويعود للمحرر، وهى الطريقة المفضلة بالنسبة إلىّ».
وتعتبر البودى أن الحاجة الملحة فى السنوات الأخيرة لدور المحرر الأدبى تدل على انحدار جودة الكتابة التى تقدم لدور النشر، فثمة فيض من الكتابات الرديئة تفرض على لجان القراءة بدور النشر التدقيق فى اختيار الأعمال المناسبة وسط هذا الزخم من الأعمال غير الجيدة.
وقالت سهيلة رمضان، محررة أدبية بـ«الرواق للنشر والتوزيع»، الدار الفائزة بجائزة أفضل ناشر عربى بمعرض القاهرة الدولى للكتاب ٢٠٢٤، إن مهنة التحرير الأدبى غير معروفة وغير موجودة بكثرة، ما يسبب الكثير من الالتباس فى فهمها لدى الكثيرين.
وأضافت: «يمكننا اعتبار المحرر الأدبى هو القارئ الأول للنص، ولكنه قارئ مدقق، فقد يكون مسئولًا عن تحرير رواية لكاتب يتشارك معه لغته الأم، وفى هذه الحالة يقدم تعليقاته عن تركيبة الشخصيات، ومدى قوة الحبكة أو ضعفها، والفقرات أو الجمل الزائدة على الحاجة أو التى تضعف الحبكة.
ترى «رمضان» أن المحرر الأدبى يجب أن يكون دارسًا بدرجة كافية تقنيات الكتابة، وأنواع الأدب والنقد، وما إلى ذلك. أما المحرر فى الترجمة، فينبغى أن يكون وسيطًا بين المترجم والنص، ووسيطًا بين النص والقراء، وأن يجعل النص المترجم مقروءًا ومفهومًا، ما لا يتنافى مع أسلوب الكاتب.
وتابعت: «يوجد أسلوبان فى التعامل مع النص المترجم، الأول أن يقرأ المحرر النص المترجم فقط ويقول تعديلاته اللغوية، والثانى أن يقرأ النص المترجم والنص الأصلى، ويتابع مع المترجم مدى التزامه بكل ما فى النص»، مشيرة إلى أنها تفضل الأسلوب الثانى ولا تحبذ أن تلجأ دار النشر إلى حذف فقرات من النصوص الأصلية؛ لأن هذا يتنافى مع أمانة الترجمة.
وقال المترجم محمد الفولى، الحائز مؤخرًا على جائزة جابر عصفور للترجمة عن رواية «الوحش» لكارمن مولا، إن مهنة المحرر الأدبى فى الوطن العربى لا تزال بحاجة إلى تطوير.
وفيما يتعلق بعلاقة المحرر الأدبى بالمترجم، أوضح أن الفيصل بين المترجم والمحرر هو النص الأصلى، إذ يجب أن يطلع المحرر على النص الأصلى، أو على الأقل على نص وسيط يفهم منه النص الأصلى إن أراد أن يُغير شيئًا ما فى عمل المترجم، وأن من يفعلون هذا فى سوق النشر فى العالم العربى قليلون.
وتابع: «بالنسبة إلى أى شخص يُطلق على نفسه محررًا أدبيًا ويُغير فى عمل المترجم دون أن يطلع على النص الأصلى، أو على الأقل، نص وسيط، فهو لا محرر أدبيًا ولا يحزنون، وهذا لكيلا نتحدث عن المدققين اللغويين الذين يتخطون حدود مهنتهم، ولا يهتمون بالأخطاء الإملائية والنحوية فحسب، كما يتطلب مسماهم الوظيفى، وتجدهم يمارسون تغييرات فجة، إذ يبدلون ألفاظًا وجملًا وتعبيرات استخدمها المؤلف لغرض معين ونقلها المترجم، كما هى للحفاظ على روح النص».
واستطرد: «الشىء الغريب أنهم يبدلون الألفاظ والجمل لمجرد أنها لا تروقهم أو انحيازًا لمبدأ أن البلاغة والفصاحة فوق أى شىء وهو توجه قد يمسخ النص ويشوه روحه الأصلية، لأن كل الكتابات الجيدة ليست جزلة أصلًا، ومبدأ أن الجزالة فوق كل شىء والنظر إليها باعتبارها مكمن الجمال الوحيد، هو غول قبيح يُفسد تعرفنا على أشكال أخرى للكتابة تسعى الترجمة الأمينة لإيصالها إلينا».
واختتم: «باختصار إذا كان المحرر الأدبى محررًا حقيقيًا، فالمسئولية مشتركة بينه وبين المترجم فى اختيار الألفاظ المناسبة بعد أن يتناقشا بخصوص أى خلافات فى وجهات النظر، ويجب أن تكون الغلبة فى النهاية لصاحب المبررات الأقوى».