شخصيات روائية 16
محمد صالح البحر: "إبراهيم العبراني" لا يزال يقبع بداخلي ويمشي بجواري
تحدث الكاتب محمد صالح البحر، عن شخصيته الروائية “إبراهيم العبراني”، بطل روايته “حقيبة الرسول”، والتي صدرت في نسختها الأولى عن دار العين للنشر عام 2010.
وفي مستهل حديثه، قال البحر في تصريحات خاصة لـ“الدستور”، إن الشخصية هي أساس أي عمل روائي، ومكونه الرئيسي، ومن المستحيل تخيل أية رواية بلا شخصيات تُدير أحداثها، وتحمل رؤيتها إلى المتلقي، لذلك تتساوى كل الروايات في قدرتها على خلق الشخصيات الروائية، لكن النادر الذي يميز رواية عن أخرى، هو قدرة الروائي على أن تتحول إحدى شخصياته إلى "شخص روائي"، يتجسد منها كائنا حيّا، فينتقل من صفحات الرواية إلى الواقع الفعلي لحياة الناس، ليصير رمزا أو مثالا يدل على قضية ما، أو يشير إلى صفة بعينها، حتى أن الناس ـ في تعاقب الأجيال ـ ينسون أنه كان مجرد شخصية بإحدى الروايات، بلا وجود فعلي في الحياة، وهو ما حدث مثلا مع شخصية "السيد أحمد عبد الجواد" لنجيب محفوظ.
وتابع البحر: “ربما الآن، في عصر الميديا التي لا تشبع، لا نستطيع أن نراهن على هذا الأمر، فذيوع أي شيء مرهون بوقت قصير للغاية، والميديا تحتاج كل يوم إلى أحداث جديدة تشغل بها حياة الناس، أو توجههم وتلهيهم بها، والروايات وأصحابها ليسوا بمنأى عن هذا الأمر الواقع، المفروض بقوة السلاح الأبرز للحضارة الحديثة، لا سبيل لمقاومته، ومع ذلك لا تكف الرواية عن بعث نوادرها من الشخصيات، حتى لو اقتصر تأثير وجودهم وذيوعهم على فئة محددة من القراء، أو تقلص للسيطرة على كيان الكُتاب الذين خلقوهم فقط، وهو ما حدث لي مع أكثر من شخصية من شخصيات رواياتي”.
وأوضح: “إبراهيم العبراني” في رواية "حقيبة الرسول" لم يكن من المفترض أن يكون بطلا للرواية، بل الابن “إسماعيل” الذي يقوم بدور الراوي، ويخوض صراعا قبليا مريرا مع والد حبيبته مريم ليتزوجها، ولم يكن ليحدث ذلك إلا بانكسار صورة الأب، والتي تعني بالضرورة انكسار صورة القبيلة، وزحزحة سياقها المتحكم في زمام الأمور لإفساح قدر أكبر من الحرية لمريم، وللمرأة الصعيدية بشكل عام، لكن هذه المعركة الكبرى لم يكن لإسماعيل أن يخوضها إلا بانكسار صورة الأب بداخله أيضا، وهو ما أعطى مساحة أكبر لشخصية إبراهيم في الرواية، ولأنها شخصية صاحبة سياقات متعددة، أب ومعلم وجندي وإمام لمسجد القرية، كان لابد من انكساره على كل هذه المستويات كافة، ولأن الابن إسماعيل لم يكن يصاحبه إلا في سياق واحد فقط.
استطرد: كان لا بد أيضا من وجود رواه آخرين، يستطيع كل واحد منهم أن يسرد السياق الذي رآه، ومع تعدد سياقات الشخصية، وكِبَر حجمها كان من المهم إكسابها بُعدا تاريخيا وفنيا يستطيعان أن يُقنعا القارئ بقوة حضورها في الزمن الحاضر، وهو ما احتاج معه أيضا إلى وجود تاريخ موازي للقرية التي تدور بها الأحداث، كل هذه الأمور فرضتها شخصية إبراهيم رغما، لتخلق من نفسها شخصية أسطورية داخل المتن الروائي، استحوذتْ على القدر الأكبر من المساحة السردية للرواية، بل وخلقتْ الشكل العام للرواية كلها، فقد أجبرتني على أن تكون البنية الصوتية هي البناء الفني المناسب للسرد، وليس ما اخترته أنا عندما كنتُ أضع الإطار العام للكتابة.
إبراهيم العبراني يمشي بجواري
ولفت “البحر” إلى أن كل ذلك أمر، لكن الأمر الأكثر غرابة، وفرحا في روح الكاتب وضميره، هو أن هذه الشخصيات النادرة للروايات لا يقتصر تأثير استحواذها على الكاتب أثناء عملية الكتابة، أو على القارئ أثناء القراءة فقط، بل يمتد لما بعدهما بكثير، إنني أستطيع الآن بكل صدق، وبعد مرور 15 عاما كاملة على كتابتي لرواية "حقيبة الرسول" أن أُخبركم بأن كل منْ قرأها تغير فيه شيء ما، وكتب عنها بمحبة مهما بلغ حجم اختلافه الشخصي أو الفكري معي أو معها، وأن ذلك الشخص "إبراهيم العبراني"، بكل رمزيته الاجتماعية والدينية والسياسية والتاريخية، بكل أسطورته التي توازتْ مع ارتفاع الجبل العالي خلف القرية، كأنما حارس ضخم يحفظها في مرور الزمن، وبقدرته على خلق وجوده الخاص، لا يزال يقبع بداخلي بقُدرة رؤيته على استباق رؤية العصر الذي وُجِدَ فيه، من خلال تجاربه الحيَّة الثرية المتعددة، التي جعلته يعرف أن حياة أبنائنا لا يمكن أن تكون شبيهة بحياتنا، وأن ذلك لا يُنقص من محبتهم لنا أي شيء على الإطلاق، وكل ما علينا نحوهم هو أن نمهد لهم الطريق إلى أنفسهم، الرؤية التي صدقها وآمن بها، وقدم نفسه فداء من أجل تحقيقها.