الفانوس الكوز ومفتاح البُمب
ماذا يفعل العقل الغنى فى بيئة تعانى الفقر؟ من حسن حظ الطفل الذى ينعم بعقل ذكى شغوف بالبحث عن حلول مبتكرة للمشكلات أن يوجد فى بيئة فقيرة. ففقر البيئة يؤدى إلى خلق العديد من المشكلات والتحديات التى تحرض العقل الصغير النشط على البحث عن حلول مبدعة.. وكذلك كان أطفال الستينيات والسبعينيات فى الأحياء الشعبية العريقة فى بر المحروسة، وخصوصًا داخل الأسر الفقيرة، خلال أيام رمضان السخية بكرمها.
أول التحديات التى كانت تواجه أطفال الأحياء الفقيرة هى "الفانوس"، فلم يكن يتيسر لكل الأسر أن تشترى لأبنائها فوانيس. وأنى لهم وداخل كل أسرة يمرح ثلاثة أو أربعة أطفال وأحيانًا أكثر؟ وأنا أحدثك هنا عن أحياء شعبية داخل مدينة القاهرة، مثل السيدة زينب والقلعة والحسين والجمالية وغيرها، فما بالك بالقرى والنجوع؟. فى تلك الفترة كان الفانوس الشمع هو السائد والمسيطر على الساحة.. ومن عجب أن ملك الفوانيس الشمع حينذاك كان يسمى "فاروق" نسبة إلى الملك فاروق، الذى كانت ثورة يوليو قد قامت ضده وأخرجته من البلاد عام ١٩٥٢.. رحل الملك وبقى فانوسه المزين بتاج يشبه تاج الملك. وإلى جوار الفانوس الشمعة، كان "الفانوس الكهربا" قد ظهر على استحياء، لكنه لم يحظ بنسب الانتشار التى حظى بها الفانوس الشمعة، على الأقل داخل الأحياء الشعبية. كان همّ أطفال هذه الأحياء هو الفانوس الشمعة، بعض الأسر كانت تيسره لأطفالها، أو تيسر واحدًا يتشارك فى اللعب به كل أطفال الأسرة، وبعض الأسر لم يكن فى مقدورها ذلك، أو غير مقتنعة بتوفير هذا الترف فى أيدى أطفالها.
تساءل أحدهم ذات مرة: ما هو الفانوس؟ وأجاب: إنه صفيح وزجاج وشمعة.. أو بعبارة أخرى شمعة ينطلق نورها من داخل صندوق صفيحى، أركانه من زجاج ييسر نفاذ الضوء إلى الخارج لينير المكان. الصفيح موجود وما أكثره فى كل اتجاه.. فلا يخلو منزل من منازل البسطاء من كوز صفيح أو أكثر، ومن لا يجد فى البيت فليبحث فى الحوارى والشوارع، وسوف يجد علبة سمن أو مربى أو جبنة أو أى شىء آخر، هكذا حل صاحبنا مشكلة الصفيح، أما الشمعة فمقضية.. علبة الشمع بتعريفة أو بصاغ فى أقصى تقديره، تبقى المشكلة فى الزجاج، ولكن ما الحاجة إليه؟ إنه مجرد أداة حماية للاحتفاظ بضوء الشمعة وحمايته من الانطفاء عن طريق الهواء، وهى مسألة يمكن علاجها من خلال زرع الشمعة فى مكان وسط داخل "الكوز" ينطلق منه ضوء الشمعة، ويجعلها بعيدة فى الوقت نفسه عن هجمات الهواء.. بقيت مشكلة وحيدة تتمثل فى السخونة التى تصيب الصفيح من نار الشمعة، ولا تتحملها أيدى الصغار، وهى مشكلة مشتركة بين الفانوس الكوز والفانوس الشمعة العادى، لكن حلها سهل فى الفانوس الكوز، عن طريق تركيب يد خشبية له تمسك بها يد الطفل.. عبارة عن قطعة خشب تسكن فى خرم داخل الكوز.
انتشر هذا الاختراع بين الصغار، الذين لا يجدون فانوسًا حقيقيًا، انتشار النار فى الهشيم، وتحركوا به فيما يشبه التظاهرات التى كانت تغرى أطفال الحوارى الأخرى بالتقليد. وما أكثر ما كان بعض الأطفال المشاغبين يستعينون بالشمعة سهلة المنال داخل الكوز كأداة لإشعال الحرائق داخل أقفاص فاكهة مجهزة تتكدس بها الأوراق، وكانت لهم هواية عجيبة فى إشعال هذه الحرائق كطقس رمضانى.. وما أكثر ما كانت هذه الحرائق تثير غضب الكبار وخشيتهم فى أن تتسبب فى كوارث تؤذى الصغير والكبير، خصوصًا حين تشتعل بالقرب من مناشر الغسيل فى الأدوار الأرضية.. هكذا تم حل مشكلة الفانوس الذى كان يتم شراؤه لمرة واحدة ليستمتع به الطفل شهرًا كاملًا، بقيت المشكلة الأهم والمتمثلة فى "البمب".
لم يكن البمب سلعة معمرة لمدة شهر مثل الفانوس، بل سلعة مستهلكة فى لحظات، فبمجرد فرقعتها ينتهى أثرها، ورمضان يحب الفرقعة، والفرقعة تتطلب أن يكون الجيب مليئًا بالبمب، ولن يتحقق ذلك إلا إذا كان بالجيب ما يكفى من ثمن لشراء العدد المطلوب من البمبات.. لم يكن هذا الأمر يسيرًا أو ميسرًا بالنسبة لأطفال الأحياء الشعبية، حتى من كان يحصل منهم على مصروف، لم يكن يتيسر له إلا شراء ٥ بمبات، ما أسرع ما تتم فرقعتها وينتهى الأمر.. هنالك كان لا بد من التفكير فى حل.. لحظتها تساءل أحدهم من جديد: ما هو البمب؟ إنه مادة قابلة للفرقعة، مع "شوية زلط صغير"، ملفوفة فى ورقة محكومة بقطعة سلك، تفرقع حينما تحتك بالأرض أو بأى حائط صلب.. تلك هى النظرية.. وفهم النظرية أولى خطوات الطريق إلى الحل.. فكر صاحبنا وقال: المادة القابلة للفرقعة سهلة: رأس كبريت.. والمكان المحكم الذى توضع فيه هو باطن مفتاح من المفاتيح المجوفة.. والاحتكاك يحدث بمسمار صغير يربط بحبل فى رأس المفتاح، ليستقر قبل الفرقعة فى باطن المفتاح فوق رأس الكبريت المفرغ.. وحين يحين وقت الفرقعة ما على الصغير إلا أن يصفع المفتاح فى الحائط، فتحدث فرقعة أشد من فرقعة البمبة.
جمال هذا الاختراع تمثل فى توافر كل أدواته داخل البيوت.. الكبريت موجود إلى جوار كل باجور.. والمفاتيح فى الدواليب أو أبواب الغرف.. وإن لم يوجد ففى الشارع أو عند الكوالنجى.. أما المسامير فمتاحة فى كل اتجاه.. وهكذا تحل مشكلة البمب.. ويستطيع الصغير الفقير الذكى أن يعبث كما يريد فى ليالى رمضان.. ألا تتفق معى أن للفقر جماليات أعلى وأغنى من جماليات الثراء؟