مصر والاتحاد الأوروبى.. التقاء المصالح المشتركة عبر بوابة أمن الطاقة
التقاء الأهداف بين مصر والاتحاد الأوروبي في مجال الطاقة يُسهم في تفكيك معضلات أزمات متكررة في مبدأ الاعتماد على مصدر واحد احتكر تصدير منتجات الطاقة وبالأخص الغاز الطبيعي، تزامنت معه أزمات سياسية، ويغذي طموحات مصر في تحقيق أهدافها لاستراتيجية تعزيز موقعها كمركز إقليمي لتداول الطاقة، وذلك لتمهيد طريق المستقبل للطاقة الخضراء التي تطمح أن تحقق فيه القاهرة الصدارة.
وعليه، فإن هذه النوعية من الشراكات يصعب فهمها بعيدًا عن التفاعلات الدولية في إطار ما يجري من ترتيبات وإجراءات في مجال النفط والغاز الطبيعي على الصعيد الدولي، وسط الاكتشافات الجديدة وإعادة رسم خريطة هذه النوعية من الموارد.
لماذا أصبحت القاهرة ضمن الحلول الجاهزة للغاز الأوروبي؟
على الصعيدين الإقليمي والعالمي تسبب إعلان اكتشافات الغاز الطبيعي في حوض البحر المتوسط في لفت الانتباه بصورة كبيرة إلى الدور الحيوي الذي يمكن أن تلعبه دول شرق المتوسط وبالأخص الدولة المصرية، لما تمتلكه من قدرات هائلة في صناعة الغاز الطبيعي في سوق الطاقة العالمية.
وإذا كانت نسبة تلك الاكتشافات تبدو محدودة، مقارنة لما تمتلكه المنطقة من احتياطيات كبيرة قياسًا مع مناطق إنتاجية أخري من العالم (حوالي ٢%)، فإن الموقع الاستراتيجي للمنطقة قد رفع من حضورها في أسواق الغاز العالمية، في ظل تمتعها بميزة الموقع الجغرافي المفصلي، ومع ما يتركه ذلك من انعكاسات إيجابية في حسابات النقل والتصدير، وبالأخص إلى دول الاتحاد الأوروبي، والذي أدت صراعاته المزمنة مع المزود الرئيس له أي موسكو- واستغلاله الطاقة كورقة ضغط سياسية مستمرة، إلى ضرورة البحث عن حلول بديلة وآمنة تتيح لدول الاتحاد الأوروبي التخلص التدريجي من الهيمنة الروسية على إمدادات الغاز الأوروبية.
ومن هنا ظهرت مصر ضمن حلول الاتحاد الأوروبي في توفير ممرات مستدامة وآمنة من الغاز.
في إطار البحث عن بدائل آمنة كانت المصالح والأهداف المشتركة بين مصر والاتحاد الأوروبي في مجال الطاقة حلًا استراتيجيًا لمفهوم أمن الطاقة الأوروبي. حيث تمتلك مصر عناصر قوة متعددة، وعليه فإن حصيلتها الجيواستراتيجية تعد كبيرة نسبيًا مقارنة بدول شرق المتوسط الرئيسية، حيث تمتلك بنية تحتية ضخمة في صناعة الغاز الطبيعي، وتتكون البنية التحتية للغاز في مصر من منشأتين للغاز الطبيعي المسال الأولي في مدينة دمياط ٦٠ كيلومترًا غرب مدينة بورسعيد بسعة إنتاجية حوالي ٧٥٠ مليون قدم مكعبة يوم، والثانية منشأة إدكو (٥٠) كيلومترًا شرق الإسكندرية وبسعة إنتاجية حوالي١،٣٥ مليار قدم مكعبة يوم، كما موضح في الشكل التالي.
ولكن القفزة الكبري في تاريخ صناعة الغاز المصرية جاءت بعد اكتشاف الغاز الطبيعي بكميات اقتصادية ضخمة في منطقة شروق (حقل ظهر على بعد حوالي ١٩٠ كيلومترًا قبالة الساحل الشمالي المصري، وباحتياطيات كبيرة مؤكدة من الغاز الطبيعي، والتي قدرت بحوالي ۳۰ تريليون قدم مكعب، ويُمثل إنتاجه حوالي ٤٠% من إجمالي إنتاج مصر الكلي من الغاز الطبيعي بعد عام واحد فقط من بداية إنتاجه أعلنت مصر اكتفاءها الذاتي من الغاز الطبيعي).
حقول الغاز المصرية في شرق المتوسط تعد الأكبر في أحواض الغاز في المنطقة، التي اكتشفت على عتبة أوروبا القريبة، وهذا يجعل دول الاتحاد الأوروبي السوق الفضلية والأكثر تناغمًا وقربًا بصفتها السوق الرئيسية.
واستكمالًا لما سبق، تمتلك مصر احتياطيات كبيرة من الغاز الطبيعي، مما يجعلها تحتل مكانة مرموقة بين أعلى الدول الإفريقية من حيث الاحتياطيات (الترتيب الثالث)، حيث تقدر احتياطيات مصر من الغاز الطبيعي بنحو ۲٫۱ تريليون متر مكعب. وعليه يمكن القول إن تلك الاحتياطيات المؤكدة من الغاز الطبيعي تجعل لمصر دورًا محوريًا في سوق الطاقة العالمية، مما يجذب الاستثمارات المحلية والدولية في قطاع الغاز الطبيعي، هذا بجانب الإصلاحات القانونية والتنظيمية الأخيرة في مصر التي عكست مدى التفاني لجذب وتأمين الاستثمارات في الغاز الطبيعي.
ووفقًا لما سبق، حققت مصر معدلات وأرقامًا قياسية على مدار السنوات الماضية في قطاع الغاز الطبيعي، وذلك بداية من البحث والاستكشاف والإنتاج والتصدير، حيث يُشكل التطور الذي تحقق في نشاط استقبال ونقل وتوزيع الغاز الطبيعي قيمة مضافة، ويأتي مواكبًا لما يتم تحقيقه في قطاع الغاز الطبيعي من اكتشافات وتنمية وإنتاج. ويأتي حفاظ مصر على أحجام الغاز المصدرة مقارنة بالمدة نفسها من العام الماضي بفضل العديد من العوامل ومنها:
- زيادة حجم الاستثمارات الأجنبية في قطاع البحث والاستكشاف عن الغاز الطبيعي، وطرح العديد من المزايدات العالمية، وذلك لأن ترسيم الحدود خلق حالة من الاستقرار في المنطقة ومزيدًا من التعاون الإقليمي بين دول المنطقة.
- مستويات الإنتاج المحلي المرتفعة، وذلك بعد تطوير وتنمية العديد من حقول الغاز الطبيعي المصرية في منطقة شرق المتوسط. إعادة تشغيل محطة الإسالة في دمياط، والتى باتت تؤدي دورًا مهمًا في تصدير عدة شحنات من الغاز الطبيعي المسال إلى الأسواق الأوروبية، وقد شكلت تلك المحطات في دمياط والبحيرة نقطة تحول رئيس في تحول قطاع الغاز الطبيعي المصري إلى قوة إقليمية وعالمية في المنطقة، وبمثابة نقطتي ارتكاز وسبق قويتين في مشروع تحويل مصر لمركز إقليمى لتجارة وتداول الطاقة، ما فتح آفاقًا جديدة نحو تعظيم دور مصر في تجارة وتخزين وتداول الغاز الطبيعى، وتحقيق عائدات لصالح الاقتصاد المصرى. وتأمين إمدادات الطاقة للسوق المحلية ومشروعات التنمية. بشكل عام، عززت مصر من دورها كمركز إقليمى لتجارة وتداول الغاز الطبيعي، وذلك باعتبارها حلًا جاهزًا لتلبية جزء مهم من الطلب على الغاز الطبيعى لدول الاتحاد الأوروبي. وذلك إثر التحديات الناجمة عن أزمة الطاقة العالمية، فقد سعت القاهرة على استغلال المقومات التنافسية التي تتمتع بها لتطويع أزمة الطاقة ومواجهتها وتعزيز التعاون الإقليمي، وهو ما أسفر عن تتويج تلك الجهود بزيادة صادرات الغاز من مصر إلى الأسواق الأوروبية، وذلك عبر محطات الإسالة وتصدير الغاز بما يقارب مرة ونصف خلال عام ۲۰۲۳، في مؤشر قوى على تعزيز مصر مكانتها الإقليمية في مجال الطاقة كمركز محوري لاستقبال الغاز الطبيعي من شرق المتوسط وإعادة تصديره إلى الأسواق الخارجية وعلى الأخص الأسواق الأوروبية.
أهمية تحول مصر لقاعدة إمداد للقارة الأوروبية
يمثل تحول مصر تحديدًا إلى قاعدة لإمداد القارة الأوروبية باحتياجاتها من الغاز الطبيعي أمرًا مهمًا وحيويًا للطرفين، حيث إن هذا الأمر يعطي للدول الأوروبية قدرًا كبيرًا من الاستقلالية في مواجهة موردي الطاقة الرئيسيين لهم وعلى رأسهم بالتأكيد روسيا، كما يمنح للدولة المصرية والدول المنتجة المحيطة بها فرص تعظيم صادراتها من الغاز الطبيعي لدول الاتحاد الأوروبي. في هذا الإطار، تبذل مصر جهودًا ومساعي كبيرة لتعظيم قدرات البنية التحتية للطاقة على مستوى الدولة المصرية بأكملها، وذلك بهدف تداول ونقل وتصديرالربط مع الدول الأخرى ودول الجوار، وهو ما يأتي في إطار تصور مصر في أن تكون مصدرًا رئيسيًا للطاقة الكهربائية من موارد جديدة ومتجددة للعديد من دول الجوار.
وعليه اتخذت الشراكة المصرية الأوروبية صورًا عديدة، والتي كان من ضمنها اتفاق زيادة صادرات الغاز بين مصر وإسرائيل والاتحاد الأوروبي، حيث وقعت كل من مصر والاتحاد الأوروبي وإسرائيل في يونيو من عام ۲۰۲۲ مذكرة تفاهم لزيادة صادرات الغاز إلى الاتحاد الأوروبي، وذلك بهدف إمداد أوروبا بالغاز الإسرائيلي عبر محطات الإسالة المصرية في إدكو ودمياط. حيث تسعى القارة الأوروبية لسد جزء من احتياجاتها من الطاقة عبر إمدادات الغاز القادمة من إفريقيا ومنطقة شرق البحر المتوسط لتعويض واردات الغاز الروسي.
طفرة مصرية في صادرات الغاز المسال إلى الاتحاد الأوروبي
ولذلك، تفوقت الصادرات المصرية من الغاز المسال في عام ۲۰۲۲ على قطر والجزائر وسلطنة عمان، وذلك من حيث نسبة النمو في إجمالي الصادرات مقارنة بعام ٢٠٢١، حيث سجلت في الربع الأخير من العام الماضي نسبة نمو حوالي ١٣% على أساس سنوي (تقرير أوابك لعام ۲۰۲۳، حيث سجلت صادرات مصر من الغاز المسال في إجمالي عام ۲۰۲۲ النسبة الأعلى على مستوى الدول العربية، إذ تفوقت على سلطنة عمان التي ارتفعت صادراتها بنسبة حوالي ٦،٦% وقطر حوالي ۲% فقط. حيث سجلت صادرات مصر من الغاز المسال خلال ۲۰۲۲ حوالي ٧،٤ مليون طن مقابل حوالي ٦،٦ مليون طن في عام.۲۰۲۱. حيث حققت مصر رقمًا قياسيًا في صادرات الغاز لتصل إلى حوالي ٨ ملايين طن- تشمل صادرات الغاز عبر الأنابيب- في عام ۲۰۲۲ مقارنة بنحو حوالي ٧ ملايين طن في عام ۲۰۲۱. وعليه حققت مصر المركز الثاني عربيًا والخامس عالميًا في التصدير للدول الأوروبية.
كما هو موضح في الشكل التالي.
ووفقًا للبيانات المعلنة تصدرت تركيا قائمة الوجهات المستقبلة الصادرات وشحنات الغاز المسال المصري من محطة دمياط بحصة حوالي ۲۷، ثم جاءت إسبانيا بحصة حوالي %۲۱ وهولندا بحوالي 9 وكوريا الجنوبية بحوالي 1% وفرنسا بحوالي 5%، وتوزعت الحصة المتبقية على عدة أسواق أخرى. واستحوذت الأسواق الأوروبية مجتمعة بما فيها المملكة المتحدة وتركيا على نحو حوالي أكثر من ۸۲% من إجمالي صادرات محطة دمياط للإسالة خلال العام الماضي، كما موضح في الشكل التالي.
مع زيادة إمدادات الغاز الطبيعي المسال بشكل أكبر وتعميق أسواق الغاز الطبيعي المسال الأوروبية المتوسطية، فإن الاتحاد الأوروبي يدرك دور مصر المتنامي لتصبح مركزًا إقليميًا للغاز الطبيعي. وعليه فإن الاتحاد الأوروبي يمكنه الاعتماد على هذه الشراكة التي تعد محورية في جهود الاتحاد لتنويع واستقرار الإمدادات لمواطنيه. ولذلك فإن بناء شراكات جديدة مع مصر يُعد أمرًا أساسيًا في الوقت، الذي يبتعد فيه الاتحاد الأوروبي عن إمدادات الغاز من موسكو، بالإضافة إلى تعزيز الشراكة الحالية مع مصر.
النظرة الأوروبية لمنتدى غاز شرق المتوسط كبديل استراتيجي
يعزز منتدى غاز شرق المتوسط دور الدول المنتجة للغاز الطبيعي في شرق المتوسط، لتكون موردًا رئيسيًا لدول الاتحاد الأوروبي في مجال الغاز، حيث يسمح المنتدى بوجود تنسيق وتعاون بين مصر إحدى دول المنتدى والدول الكبرى المنتجة للغاز الطبيعي في المنطقة لزيادة معدلات إنتاج الغاز، وإعادة تسييله وتصديره لأوروبا ضمن بدائل الغاز الروسي للقارة الأوروبية، لاسيما مع وجود وحدتي إسالة الغاز الطبيعي في مدينتي دمياط وإدكو. وعليه يشكل منتدى غاز شرق المتوسط إحدى أدوات تحول مصر لمصدر إقليمي للطاقة في المنطقة، حيث تمتلك الدولة المصرية جميع القدرات لتنفيذ هذا المشروع الحيوي، فمصر لديها إمكانات هائلة تؤهلها لهذا الأمر، ويساعد المنتدى الذي دعت مصر إلى تشكيله على تعزيز ثقلها السياسي الإقليمي والدولي، خاصةً في ظل الترحيب الأوروبي، حيث استطاعت القاهرة تقديم نفسها بشكل سياسي واقتصادي، وذلك من خلال التنسيق الذي تم بين مصر والدول الأخرى في منطقة شرق المتوسط.
من المتوقع أن تسارع دول خارج المنتدى إلى الانضمام إليه في المستقبل القريب، ومع الأخذ في الحسبان أن هذا التكتل لن يسمح لأي دولة بالتنقيب عن الغاز الطبيعي دون التوقيع على اتفاقيات ترسيم الحدود البحرية مع باقي الدول المطلة على البحر المتوسط.
ولذلك في فبراير ٢٠٢٤، أبدت بلغاريا اهتمامًا للتعاون مع مصر في قطاع الطاقة، لا سيما فيما يتعلق بمشاريع الغاز الطبيعي، كما جددت رغبتها في المشاركة في منتدى غاز شرق المتوسط.
مجمل القول، مرت مصر برحلة طويلة في التحول من دولة مستهلكة للغاز الطبيعي ولديها عجز في هذا العنصر المهم للطاقة لتصبح دولة مصدرة له، حيث غيرت اكتشافات الغاز الطبيعي التي شهدتها الدولة في الفترة الممتدة من ٢٠١٤ إلى ٢٠٢٤ المشهد المصري للطاقة بشكل كامل، مما انعكس على وضع مصر في صناعة الغاز الطبيعي، مما أدى إلى تغيير مكانتها على خريطة الطاقة العالمية، فبرزت كقوة كبرى في إنتاج الغاز، ولتؤكد بذلك أهميتها ودورها الرئيس في السوق العالمية للغاز الطبيعي المسال، وذلك ما تدل عليه الأرقام الحالية في تلك الصناعة والصادرات الأعلى منذ عام ۲۰۱٤.
وفي الأخير، أصبح الغاز الطبيعي المصري ثروة قومية للمصريين، وملاذًا آمنًا للقارة الأوروبية. وذلك بعدما ازدادت حدة التوترات الجيوسياسية وتحديدًا الحرب الروسية الأوكرانية والحرب على غزة، بات أمن الطاقة يحتم ضرورة البحث عن مصادر جديدة، ولذلك فإن تعزيز الشراكة مع مصر يمكن أن يدعم أوروبا في مساعيها لتأمين موارد آمنة ومستقرة للطاقة.