«السما بتجمعنا».. الأقباط يبدأون «الصوم الكبير» بالتزامن مع أول أيام رمضان.. 11 مارس
تبدأ الكنائس المسيحية فى مصر «الصوم الكبير»، يوم الإثنين المقبل الموافق ١١ مارس الجارى، بالتزامن مع بدء المسلمين صوم شهر رمضان، وفقًا للحسابات الفلكية، ليحتفل المصريون جميعًا ويتشاركوا فى الصوم.
وبشىء من التحديد، تبدأ الكنيسة الأرثوذكسية «الصوم الكبير»، فى ١١ مارس الجارى، بينما ينطلق صوم الكنيستين الكاثوليكية والروم الأرثوذكس، فى ١٧ من نفس الشهر.
«قداسات» فى الكنائس طوال 40 يومًا.. و«عيد القيامة» 5 مايو
يعرف «عيد القيامة» بأسماء عديدة، أشهرها «عيد الفصح» و«البصخة» و«أحد القيامة»، وهو أعظم الأعياد المسيحية وأكبرها، ويستذكر فيه المسيحيون قيامة المسيح من بين الأموات، بعد ٣ أيام من صلبه وموته، كما هو مدون فى «العهد الجديد»، وفق الاعتقاد المسيحى.
وفى «عيد القيامة» ينتهى «الصوم الكبير»، الذى يستمر نحو ٤٠ يومًا، كما ينتهى «أسبوع الآلام»، ليبدأ زمن القيامة المستمر فى السنة الطقسية، على مدار ٤٠ يومًا أيضًا، حتى «عيد العنصرة».
ويختلف موعد «الصوم الكبير» من عام إلى آخر، بحسب تاريخ يوم «عيد القيامة»، الذى يُحدد وفقًا لقاعدة حسابية منضبطة، بحيث لا يأتى قبل يوم ذبح خروف الفصح أو معه، وإنما فى يوم الأحد التالى له، حسب تعاليم كنيسة الإسكندرية، والتى اتبعها العالم كله فى القرون الأولى للمسيحية.
ويترأس البابا تواضروس الثانى، بابا الإسكندرية بطريرك الكرازة المرقسية، قُداس «الصوم الكبير» لصنع «الميرون المقدس»، فى دير الأنبا بيشوى بوادى النطرون، خلال يومى الإثنين والثلاثاء المقبلين ١١ و١٢ مارس الجارى، بمشاركة أساقفة الكنيسة الأرثوذكسية فى مصر وبلاد المهجر.
ومن بداية هذا التاريخ حتى «عيد القيامة»، تقيم الكنائس المسيحية أكثر من «قداس إلهى»، بمشاركة أكبر عدد من الأقباط، وصولًا إلى قداس ليلة «عيد القيامة» المجيد، الذى يترأسه البابا تواضروس الثانى، فى الكاتدرائية المرقسية بالعباسية، يوم ٤ مايو المقبل.
ويتميز قداس ليلة عيد القيامة المجيد بأن الكنيسة لا تُصلى خلاله بـ«المزامير»، ويتخلله أداء «تمثيلية القيامة»، والتى خلالها يُغلَق باب الهيكل وتُطفأ الأنوار، ويدور داخل الهيكل حوار بين الكاهن أو كبير الشمامسة «المرتل»، ورئيس الكهنة، ثم تُضاء الأنوار وتُزَف «أيقونة القيامة» فى الكنيسة.
ويعرف اليوم الذى يسبق عيد القيامة بـ«سبت النور»، أو «السبت المقدس» أو «سبت الفرح»، ويُقام قداس إلهى فى صباحه، ثم يُستقبل النور الذى يخرج بمعجزة إلهية، من كنيسة القيامة فى القدس، إلى جميع أرجاء العالم، وفق الاعتقاد المسيحى.
مرقس ميلاد: الصوم «سلم للفوز بالسماء» والتغلب على الشهوات
قال مرقس ميلاد، الباحث الكنسى، إن «الصوم الكبير» هو رحلة مقدسة تقودها الكنيسة مع المؤمنين، للوصول إلى «القيامة المقدسة» فى نهاية فترة الصوم، مرورًا بالعديد من الأحداث الهامة خلال هذه الفترة، مضيفًا: «لم يكن الصوم هو الغرض، بل وسيلة للوصول إلى الغرض، وهو الفوز بالسماء والتغلب على الشهوات».
وأضاف «ميلاد» عن تاريخ هذا الصوم: «كان فى القرون الثلاثة الأولى مرتبطًا بعيد الغطاس، فيأتى مباشرة بعده، لمدة يومين أو ثلاثة أيام فقط، كما ذكر القديس إيريناؤس، والمؤرخ الكنسى يوسابيوس القيصرى، لكن لدينا إشارة فى منتصف القرن الثانى الميلادى، من العلامة أوريجانوس، يتحدث فيها عن الصوم الأربعينى المقدس، فيقول: (ليس معنى هذا أننا لا نصوم، ولكن لدينا الأربعون يومًا المخصصة للصوم)».
وواصل: «معروف تاريخيًا، قبل مجمع نيقية ٥٢٣م، أن عيد القيامة كان يأتى مرة كل ٥٥ عامًا، وبالتالى كان موعد الصوم الكبير ثابتًا، بعد عيد الغطاس مباشرة، وكان أول ذكر لفترة الأربعون يومًا فى عهد البابا أثناسيوس الرسولى، فى رسالته الفصحية الثانية، حيث يحدد عيد القيامة وفترة الصوم التى تمتد مدة ٤٠ يومًا، فيربط بذلك الصيام بأسبوع الآلام، ويعقبه عيد القيامة بصورته الحالية».
وأكمل: «يمتد الصوم الكبير ٤٠ يومًا، مع أسبوع الآلام إلى جانب سبت لعازر، ليكون الربط بين الـ٤٠ يومًا وأسبوع الآلام، بإجمالى ٤٨ يومًا بالتمام، ويتبقى أسبوع كامل»، مشيرًا إلى وجود ٣ آراء لشرح هذا «الأسبوع الزائد». وأوضح الباحث الكنسى أن أول رأى سمى هذا الأسبوع بـ«أسبوع هرقل»، وتعود قصته إلى أن الإمبراطور هرقل كان قد أعطى اليهود عهد أمان، ثم حنث فى هذا العهد وقتل منهم الكثير، ففرض المسيحيون صومًا على أنفسهم، تكفيرًا عن هرقل، مضيفًا: «لكن تلك القصة غير منطقية وغير مقبولة فى كنيستنا الأرثوذكسية، لأنه وقت دخول هرقل أورشليم، كان البطريرك خلقدونيا مخالفًا إيمان كنيستنا، ورأيه غير ملزم لنا كأقباط، كما أن الصوم لا يغفر الخطايا، ولا توجد فى إيمان كنيستنا فكرة الصوم عن الغير تكفيرًا له، إضافة إلى أن البطريرك حرض هرقل على قتل اليهود، وهو سلوك يتنافى مع تعاليم المسيحية».
وأضاف أن الرأى الثانى سماه «أسبوع الاستعداد»، وحاول أصحابه أن يجدوا تبريرًا له، فقالوا إنه أسبوع للاستعداد للصوم، لكن هذا الرأى أيضًا غير مقبول، لأنه كيف نستعد للصوم بصوم آخر؟ ولماذا أيضًا لا نستعد لباقى الأصوام الأخرى بـ«أسبوع استعداد»؟
أما الرأى الثالث فسماه «صومًا بدلًا عن السبوت»، وقال أصحابه إنه لما كان الصيام يمتد إلى ٤٠ يومًا، كانت تتخللها ٥ أيام سبت، وهذه الأيام لا يجوز بها الصوم الانقطاعى، لذا فإنه تعويضًا عنها، أضافت الكنيسة ذلك الأسبوع فى مقدمة الصيام، حتى يكون عدد الأيام التى تصومها انقطاعيًا بطول ٤٠ يومًا بالكمال.
صوم المصريين من أيام الفراعنة وتزامنه يدعم الوحدة الوطنية
رأى القس رفعت فكرى، رئيس مجلس الحوار والعلاقات المسكونية بالكنيسة الإنجيلية، أن توافق «الصوم الكبير» مع صوم شهر رمضان يدعم الوحدة الوطنية والترابط، مشيرًا إلى أن «المصريين سيتضرعون جميعًا إلى الله، راجين صفحه وغفرانه».
وقال «فكرى» إن الصوم موجود فى كل الأديان، فاليهود والمسيحيون والمسلمون يصومون، كما أن هذا الفعل معروف من قبل الأديان، فلقد عرفه الإنسان ومارسه منذ فجر التاريخ.
وأوضح أن أقدم الوثائق التاريخية، وما نقش فى معابد الفراعنة وكُتب فى أوراق البردى، جميعه يؤكد أن المصريين القدماء كانوا يصومون، خاصة أيام الفتن، حسب شعائرهم الدينية آنذاك.
وأضاف: «كذلك فإن للهنود والبراهمة والبوذيين تقاليدهم الخاصة فى الصوم، ومن الخطأ الفادح أن يظن الصائم أن الهدف من الصوم هو فقط الامتناع عن الطعام والشراب لفترة من الزمن، دون أن يصوم قلبه عن ارتكاب المعاصى، فما أكثر الذين يصومون بأجسادهم عن الطعام، ولكنهم يعيشون بألسنة وقلوب وأيد وعيون غير صائمة».
وواصل: «الصوم لا يتوقف عند حد الامتناع عن الأكل والشرب، ولكن للصوم معنى أعمق من ذلك، إن جوهر الصوم هو أن نجوع ليس إلى الطعام ولكن إلى الله، نشعر بأننا فقراء إليه، ونؤمن بأن الحاجة إلى هذا الإله الواحد الذى يغذينا بنعمته، فنفهم أننا به نلنا كل شىء».
وأكمل: «الصوم ليس سوى ترويض النفس والقلب والعقل على أن الله هو المهيمن على الدنيا والتاريخ، وهو كل الحياة، فالله سبحانه وتعالى إله قدوس يكره الخطيئة، يبغض الإثم، لذا فهو يريد القلب النقى أكثر مما يريد الجسد الجائع والمعدة الخاوية».
وخلص إلى أن «الصوم الذى يقبله الله هو صوم القلب عن النيات الشريرة والدوافع غير النقية، وهو صوم الشفاه عن التكلم بالكذب والتفوه بالأباطيل والخداع والغش والنفاق، وهو صوم العين عن النظرات الشريرة الشهوانية، وهو صوم الأرجل عن الجريان إلى السوء وإيذاء الآخرين، وهو صوم الأيدى عن العنف وسفك الدماء البريئة، وكذلك صومها عن أخذ الرشوة والسرقة ونهب المال العام».
وأضاف: «منع الجسد عن الطعام لا بد من أن يمتد؛ ليكون منعًا عامًا عن كل ما يغضب الله سبحانه وتعالى، فجوهر الصيام هو تقوى الله، وانطلاق الروح من مطالب الجسد؛ لكى يسمو الجسد معها، متجهين معًا فى اتجاه واحد، هو محبة الله والتمتع بعشرته، لذا فإن يوم الصوم الذى لا يفكر فيه المرء فى الله سبحانه وتعالى وفى تقواه ينبغى أن يشطب من أيام الصوم».
وأتم بالدعاء «يا رب ونحن صائمون، هبنا أن نتوب عن خطايانا وآثامنا، وارزقنا أن نصوم بالقلب مع المعدة؛ فتصفو دوافعنا، واجعل هدفنا الرئيسى والأوحد هو مخافتك وتقواك وأعطنا أن نتخلى عن أنانيتنا فنمتنع بحريتنا عن الطعام، وأعطنا يا ربنا فى صومنا أن نطعم الجائع، ونؤوى المسكين، ونكسو العريان، ونحرر الأسير، ونهدى الضال، ونساند الضعيف، ونقف بجوار المظلوم والمهزوم، وساعدنا لكى ننزع من قلوبنا الكراهية والضغينة، ونزرع محلهما بذور الحب والتسامح، وبهذا نحن نثق أنك ستقبل صومنا».
المسلمون والمسيحيون يتشاركون فى طقس واحد رغم اختلاف الدين
قال كريم كمال، كاتب وباحث فى الشأن القبطى، إن «الصوم الكبير» لعام ٢٠٢٤ يتزامن مع صوم شهر رمضان، وبذلك يتشارك المصريون باختلاف الأديان فى طقس واحد، وهو أمر لا يحدث كثيرًا، أن يعيش المصريون نفس الطقس معًا، لذا «نتضرع جميعًا لله، كى يحفظ مصر من كيد الأعداء، ويعبر بشعبها إلى بر الأمان».
وأضاف «كمال»: «مصر مذكورة فى كل الكتب المقدسة، ومحفوظة من كل شر بوعد إلهى، إذ نجد فى القرآن الكريم قول الله تعالى (ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين)، وفى الإنجيل المقدس يبارك الله شعب مصر قائلًا (مبارك شعبى مصر)».
وواصل الباحث القبطى: «الشعب المصرى باختلاف طوائفه له عادات وتقاليد خلال الصوم، ولا نجد فرقًا بين مسلم ومسيحى فى شراء الكنافة والقطايف، وغيرها من الأكلات والحلويات التى يشتهر بها الشهر الكريم، مع إقامة موائد الإفطار التى يشارك فيها الجميع مسلمون ومسيحيون.
وأكمل: «نتذكر هنا موائد الوحدة الوطنية، التى كان يقيمها كل عام الراحل البابا شنودة الثالث، فى تعبير عن وحدة هذا الشعب، وفى المقابل نجد مشاركة المسلمين المسيحيين فى إعداد الوجبات الصيامى، من الفول والفلافل والعدس، إذ تتبادل العائلات تلك الوجبات».
وأشار إلى أنه «فى الماضى، حضرت فترة تلاقت فيها المناسبات مثل ذلك الوقت، وكنت أجد العديد من العائلات المسلمة حريصة على إعداد وجبة الإفطار فى شهر رمضان الكريم، من مكونات الأكل الصيامى، حتى يستطيع أصدقاؤهم المسيحيون المشاركة معهم فى الأكل، وهو أمر لن تجد له مثيلًا فى أى دولة أخرى».
وشدد على ضرورة أن ننتهز هذه الفرصة، ونتضرع إلى الله أن يحفظ مصر العزيزة، ورئيسها المحبوب الرئيس عبدالفتاح السيسى، وجيشها وشرطتها وشعبها، وأن يعم السلام والأمان كل أرجاء العالم، وأن تنتهى الحروب فى كل مكان.
أمين مفتاح «كنيسة القيامة»: «مراسم الحج مستمرة دون تغيير»
أكد أديب جودة الحسينى، أمين مفتاح «كنيسة القيامة» فى القدس، أن مراسم الأعياد لا تُلغى نهائيًا، مهما كانت الظروف، مشددًا على أن «مراسم الحج ستُنفذ كما هو مخطط لها». لكن «الحسينى» أشار، فى الوقت ذاته، إلى أن السياحة فى الأراضى المقدسة معدومة تمامًا، حتى هذه اللحظة، بسبب الحرب الأخيرة فى قطاع غزة، رغم أن موسم الحج يشهد قدوم عشرات الآلاف من الوافدين والحجيج من خارج البلاد، متابعًا: «ندعو الله أن تنتهى الحرب لتسنح الفرصة للحجاج بالقدوم إلى الديار المقدسة، والاشتراك فى صلوات عيد الفصح المجيد».
واختتم أمين مفتاح «كنيسة القيامة» بقوله: «إن استمرت الحرب واستمر تعليق الطيران إلى الأراضى المقدسة، سيتم إحياء عيد الفصح المجيد من مسيحيى الأراضى المقدسة فقط، وكلى أمل أن تنتهى الحرب، وتُفتح المطارات ويُستقبل السياح، كما هى العادة كل عام».
درس لتمييز الخير والصلاح من الشر
اعتبر الأب فيلبس عيسى، راعى الكنيسة السريانية فى مصر، أن تزامن «الصوم الكبير» مع صوم رمضان لعام ٢٠٢٤، يعود بنا إلى آلاف السنين عندما طلب الرب الإله من آدم أن يمتنع عن الأكل من الشجرة، ويلتزم بالوصية المهمة، هو وحواء، وهى أن يتعلم كيف يميز الخير والصلاح عن الشر.
وأضاف «عيسى»: «فى هذا العام، تتحد النفوس والقلوب فى مصر والعالم، لتعيد التفكير فى الله صانع الخير، وفى الشيطان الذى يزرع الشر، والخير الذى بدأ يتقلص رويدًا رويدًا وينحسر فى مجتمعاتنا، بسبب الشرور التى ازدادت واتسعت»، مشددًا على أن «هذا النوع من الشرور، بكل ما يخلفه من حروب ودمار واستغلال وعبودية وقتل ونجاسة وانقسام وخراب، لا يزول إلا بالصلاة والصوم».
وواصل: «نحن الساكنون هنا فى العالم المضطرب، نستطيع أن نقاوم بأسلحة الصلاة والصوم حتى الرمق الأخير، لأن الله منحنا سلطانًا وقوة لا يمكن لأى قوات شريرة حاضرة أو مستقبلية أن تهزمنا وتهلكنا».
وأكمل: «نعم لقد كسر آدم الوصية الإلهية وخسر ونفى من الأرض الطيبة إلى أرض الشقاء، بسبب رفضه أن يصوم عن أكل ما، ونحن ننظر إلى الوراء لآدم؛ فنرى آدم الجديد الذى جاء وصام وعلمنا كيف نصوم لنستفيد من خبرته ونزداد قوة فى مواجهة التجارب الصعبة، فلنصم فى هذه الأوقات الحرجة، كل فى مكانه، الأخ مع أخيه والجار مع الجار».
وتابع: «الله أعطانا النعمة، فنستعيد الحب والخير والجمال والصلاح والحرية، فالله عندما يرى توبة الناس الصادقة المقترنة بصلوات مكثفة وأصوام دائمة وأعمال مثمرة يتغاضى عن أزمنة الضيق، ويمر بنا إلى الميناء الآمن، فهو قائد السفينة فى وسط الأمواج العاتية، ويشاهد ما يحدث وليس بغافل عما يجرى، لأنه حافظ كل الأشياء ولا ينام، نطلب من الله تبارك اسمه أن يقبل منا طلباتنا وأدعيتنا وأصوامنا، وأن يستجيب بحسب مشيئته لما فيه خير بلادنا والعالم أجمع».