القاص محمد ممدوح: القصة القصيرة سظل موجودة ما دام عند البشر حكايات (حوار)
يعد فن القصة القصيرة، لون أدبي وإبداعي حديث، ظهر خلال القرن التاسع عشر. ويقوم هذا اللون الأدبي علي تكثيف اللحظة واللغة، وهي عبارة عن سرد نثري أقصر في مساحته الزمنية والمكانية من الرواية.
حول تجربته الأدبية في القصة القصيرة، ومن من كُتّابها جذبه إليها، ولماذا القصة دون الرواية، وغيرها من الموضوعات كانت محور لقاء الــ “الدستور” مع الكاتب القاص محمد ممدوح.
ومحمد ممدوح، سبق وصدر له ثلاث محموعات قصصية هي: “سراب أزرق”، وصدرت عن دار غراب، 2015، “كاميرا تصطاد بحرًا”، عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2019، و"العجوز بائع المسافات"، والصادرة عن دار ميتا بوك، 2022. وله قيد النشر مجموعة “سيرة الموت”.
من كُتّاب القصة القصيرة الذين قرأت لهم قبل أن تكتب هذا الفن الأدبي؟
أوّل مجموعة قصصية قرأتها في حياتي، العام 2000 طالبًا في الصف الثالث الإعدادي، كانت "المُعذّبون في الأرض" لطه حسين. وجدتُها بالمصادفة في مكتبة مركز الشباب القريب من البيت، إحدي عشرة قصة قصيرة ترصد معاناة المرضي والفقراء والمعدمين في هذا العالم القاسي الذي يدهسهم بلا رحمة، تعذّبتُ مع هؤلاء كثيرًا؛ حتي بعد انتهائي من قراءتها ولفترةٍ طويلة، مما لفتَ انتباهي مُبكّرًا لقدرة الفن علي التعبير الصادق والحقيقي عن الواقع. قصص المجموعة كانت قد نُشرتْ متفرّقة في الصحافة بين عاميّ 1946، 1948، وعندما أراد طه حسين جمعها في كتاب اعترضتْ الرقابة؛ فاضطر لنشرها في بيروت عام 1949.
اكتشفتُ بعدها الحكيم، ومحفوظ، وإدريس، وفي مراحل متقدمة قرأتُ لكُتّاب علي الجانب الآخر من العالم، علي سبيل المثال، ماركيز، بورخيس، هيمنجواي.
ما الذي لفتك إلي الإهتمام بالقصة القصيرة ؟ وكيف بدأت تجاربك الأولي في كتابتها؟
قُدرة القصة علي التعبير المُكثّف والمُوجز عن العالم دون مط ٍ أوتطويل؛ لذا فإنّ كتابتها تُمثّل تحديًا لأي كاتب، ومن هنا خطأ القول الشائع بأنّ كتابة القصة تدريب علي كتابة الرواية، أو استراحة محارب بين كتابة روايتين.
بعد قراءتي لمجموعة طه حسين بثلاث سنوات، كتبتُ مجموعتين قصصيتين، لا زلتْ أحتفظ بهما، عن المُهَمّشين والمقهورين الذين كنتُ أراهم كل يوم، مُتأثّرًا فيها بما كتبه طه حسين في مجموعته، وبعدها انقطعتُ عن الكتابة تمامًا وتفرّغتُ للقراءة ثلاثة عشر عامًا، تغيّرتْ خلالها رؤيتي عن العالم والكتابة، حتي صدور مجموعتي القصصية الأولي "سراب أزرق"، عن دار غراب عام 2015.
هل قرأتَ شيئًا عن أصول هذا الفن القصصي أو طرائق كتابته؟
تعلّمتُ فن أصول القصة من القراءة ذاتها!، في البدايات كنتُ أقرأها بالورقة والقلم، فيما يشبه الورشة قبل أن أعرف معناها وقبل أن تنتشر بهذا الشكل، أكتب فكرة القصة بشكل عام، ثُم أدوّن بقية عناصرها أثناء القراءة. أرهقني هذا كثيرًا؛ لأنني كنتُ كالطالب الذي يستعد لامتحان الغد، لكنه بالمقابل درّبني علي كتابة هذا الفن الصعب. لكن التحدي في النهاية، أن يكتب الكاتب ذاته ورؤيته الخاصة للعالم، وهذا ما أحاول فعله طوال الوقت.
ما الذي يجعلك تختار إطار القصة القصيرة للكتابة دون غيره من أطر التعبير الأدبي؟
الفكرة هي التي تختار إطارها التي تُحب أن تُوضَع داخله وتفرضه، في عملية مُعقّدة، علي الكاتب ليقبل به دون مناقشة؛ فالفكرة بطبيعتها مراوِغة، لكن الكاتب في بعض الأحيان ينجح في تطوير الفكرة من قصة إلي رواية عندما يكتشف في خطوطها الرئيسية ما يمكن أن يُشكّل رؤية أكثر اتساعًا للعالم، تقف خلفها دوافع نفسية وثقافية تُميّز كاتبًا عن آخر في التفاصيل ونوعية الموضوعات أو الطرح. أمّا بالنسبة للنشر، فالرواية أكثر رواجًا وسرعة في النشر من القصة، ولو خضعتُ لإمكانية النشر فلن أكتب القصة، وسأكتب مُضطرًا رواية لستُ مُقتنعًا بها لتُنشر، وفي النهاية أترك إمكانية النشر للعبة المصادفات، وأستمتع باللعبة!.
ما الذي تهدف القصة القصيرة عندك إلي توصيله للقارئ؟ وهل تتمثل قارئك وأنت تكتب؟.. ومن قارئك؟
لا تهدف القصة عندي لتوصيل أي رسالة مُوجّهة للقارئ، إنما هي حالة، رؤية ما للعالم أتركُ نهاياتها مفتوحة للتأويل. بعض المُقرّبين رأوا في قصصي فلسفة ما، وهذا كرمٌ كبير منهم، والبعض رآها تحتاج مجهودًا وتركيزًا كبيرين أثناء القراءة، والمتشائمون رأوها غامضة أكثر مما ينبغي؛ فمن أنا بين هذه الآراء المتضاربة!؟، حقيقة لا أعرف، ولا أكتبُ لقارئ مُعيّن ولا أتمثّله علي أي وجه أثناء الكتابة، لأن القُرّاء مستويات متفاوتة وأمزجة وخلفيات ثقافية مختلفة. وبكل تواضع؛ فإنني أكتبُ أولًا لمتعتي الذاتية مستمتعًا بإعادة تشكيل العالم ومحاولة فهمه بالكلمات، فإن صادفتْ الكتابة قارئًا واحدًا مُحترفًا وحقيقيّ فهذا يكفيني، وأفضل عندي من عشرات "القُرّاء الكسالي"، الذين يمدحون كتابتك مع أنهم لم يقرأوا منها حرفًا واحدًا، أويميلون لمستوي كتابة مختلف عمّا أكتب.
ما مدي الزمن الذي تستغرقه كتابتك لإحدي القصص القصيرة ؟ وهل تواجه أحيانًا بعض الصعوبات في أثناء الكتابة؟ مثل ماذا؟
أنا كاتبٌ كسول وبطئ وأشك في قيمة ما أكتب طوال الوقت، أكتب حسب وقتي المتاح وحالتي المزاجية، وتبعًا لذلك قد تستغرق كتابة قصة شهرًا كاملًا، أستطيع أن أعيد كتابتها سبع مرات بلا كلل ولاملل، فالقصة لاتكشف لي سرّها من الكتابة الأولي أو حتي الثانية، فإعادة الكتابة تُعطي أبعادًا أكثر عُمقًا للقصة، وأواجه من خلالها صعوبة مع الأسلوب، فالمعني الواحد يمكن التعبير عنه بأكثر من جملة، لكن أيها الأقرب للدقة في التعبير عن المعني الذي أريده، أو أريد الاقترب منه، وينطبق ذلك بالعموم علي كل ما كتبتُ تقريبًا، دون أن يحضرني مَثَلٌ بعينه.
هل استطعتَ من خلال ممارستك لكتابة القصة القصيرة أن تستخلص لنفسك بعض العناصر الحرفية التي تسعفك عند الكتابة، مثل ماذا ؟
الإيجاز والتكثيف ملمحان رئيسيان في كتابة القصة؛ لذلك فإنها تفضح مستوي الكاتب أحيانًا من أوّل جملة!، وقد تمتد القصة لعدة صفحات، لكن مهارة الكاتب تجعل القارئ لايشعر بالملل أثناء القراءة، أو أنّ هناك جملة أو تعبيرًا في غير موضعه، ففي مجموعتي الأخيرة "العجوز بائع المسافات"، توجد أطول قصة، "حنين الأيام البعيدة"، الممتدة لتسع صفحات، لن يجد فيها القارئ جملة زائدة أو تعبيرًا ما خارج سياق القصة، وبالعموم الأمر يتوقف علي مهارة الكاتب وإخلاصه لما يفعل.
هل تهتم في كل قصة قصيرة تكتبها بأن يكون لها مغزي بالنسبة إلي الأوضاع الاجتماعية المعاصرة؟
لا أكتبُ في قصصي عن أوضاع اجتماعية. فعلتُ ذلك، كما أشرتُ في بداية الحوار، في مجموعتين قصصيتين كتبتهما طالبًا في ثانوي، وأضحك كُلّما أعدتُ قراءتهما بعد اتساع تجربتي ونضجي الفني بالقراءة والبحث عن صوت يخصني في الكتابة، أكتبُ برؤية ذاتية عن العالم تتكئ علي الخيال في تصوّري للإنسان في كل حالاته، كتيمة الخوف في قصة "أحزان منتصف الليل"، وفي رؤية كتاب ضخم يجوب شوارع وميادين مدينةٍ ما بلا اسم، كقصة "أجمل كتاب في العالم". ( القصتان من مجموعة العجوز بائع المسافات).
كيف يكون مدخلك إلي القصة القصيرة؟.. وهل يتجه اهتمامك إلي الحدث أم إلي الشخصية؟
القصة عندي تبدأ من مشهد. أتذكّر الآن كيف بدأتْ قصة "العجوز بائع المسافات"، من مشهد لرجل كنت أراه يوميًا في شوارع المدينة يتوكأ علي قطعة خشب، وبعد كل خطوتين أراه يدق الأرض مرتين بتلك الخشبة، دوّنتُ المشهد كما رأيته، وعند الكتابة تطوّر لأبعادٍ أخري، فأصبح للعجوز مدينة، وللمدينة ذكريات هربتْ منه في ظروف غامضة، فحاول استعادتها، إلخ. فلو اعتبرنا هذا المشهد العابر حَدَثًا فهو الذي قادني إلي الشخصية وساهم في تطويرها.
هل تعين الزمان والمكان للحدث (أو الأحداث) التي تتضمنها القصة القصيرة أم تتركها بلا تعيين؟
معظم قصصي مجهولة الزمان والمكان، إلاّ في حدود ما يفرضه سياق القصة، أو تفاصيلها إذا شئنا الدقة. تركيزي الأكبر يكون علي الحدث، ومن خلاله أختبر ردود فعل الشخصية، والموضوع في نهاية الأمر نسبيّ.
هل تري فيما أنجزتَ حتي الآن من قصص قصيرة أنه يُمَثّلُ مراحل تطور متعاقبة ؟ فإن كان فكيف تري نتيجة هذا التطور؟
سؤال صعب، لكن سأجيب بسؤالٍ آخر: هل المقصود بمراحل التطور، تلك التي تحدث داخل نفس العالم الذي يعرفه الكاتب!؟. أعتقد أنني أنتمي لهذا النوع، فتقنية كتابتي تختلف من قصةٍ لأخري حسب الموضوع، لكن كل ذلك يتم تحت عنوان عريض: الرؤية السريالية، أو التخييلية للعالم، لكني في المجموعة القادمة أعتقد أنني سأنتقل إلي أرض ٍ بعيدًا عن هذا العالم وتفتصيله، وربما أعود إليه في عالم ٍ آخر إن كان لايزال عندي ما أقوله.
إذا كنتَ قد انصرفتَ عن كتابة القصة القصيرة إلي غيرها من الأجناس الأدبية فمتي حدث هذا، ولماذا؟
أكتبُ بجوار القصة، المقال، كما أحب النصوص النثرية الخارجة عن التصنيف، ومن وقت ٍ لآخر أجدُ متعة في كتابة أدب المكان، وما أكثر الأماكن التي ارتبطتْ عندي بلحظات ٍ من الفرح أو التعاسة.
كيف تري مستقبل هذا النوع الأدبي؟
ببساطة لا أشغل بالي بمستقبل هذا النوع الأدبي، قد تختلف الوسائل أو الوسائط التي ننقل من خلالها هذا النوع، لكنه سيظل موجودًا، ما دام عند البشر حكايات.