شخصيات روائية 5
محمد الفخراني: الشخصيات في رواياتي وقصصي "حقيقية" أعيش معها أثناء الكتابة
الشخصية الروائية، قد تتمرد على خالقها وتقتنص مصائرها بنفسها، وترسم دروبها بمفردها، ومنها المذعن من يرضخ لـ“ألاعيب السرد والحبكة” فتكون حياته خيوط عرائس ماريونيت يحركها المبدع كما يشاء، وبين هذه الشخصيات ومبدعيها، نقدم لكم في الـ“الدستور”، هذه السلسلة من الشخصيات الروائية، يتحدث عنها مبدعيها، كيف خلقوها، خلفيات هذه الشخصيات الاجتماعية والتاريخية، وهل الشكل الأخير الذي وصلت لنا بهذه هذه الشخصيات، هو نفسه الذي خلقه مبدعها في المبتدا.
في هذه الحلقة ــ الخامسة ــ يحدثنا الكاتب الكبير محمد الفخراني عن إحدى شخصيات روايته "غداء في بيت الطبّاخة"، والصادرة عن دار العين للنشر، وهي الرواية التي فاز عنها بجائزة معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته المنصرمة 2024.
الأم بطلة حياة الطبَّاخ وأحسن طبَّاخة في العالم
في مستهل حديثه عن الشخصية الروائية، قال “الفخراني”: “سأفكر في شخصية أُمّ الطبَّاخ من روايتي، الشخصية بلا اسم، ولم نسمعها تتكلّم، ولم أصِفها شكلًا، رغم أني كنت أراها واضحة أثناء الكتابة، لا أقصد أني أرى وجهها وشَكْلها، فأنا تعمَّدْتُ ألّا أتخيّل ملامحها، فقط تشكيل جسدها الأمومي الممتلئ قليلًا، ولمحات خاصة من روحها، وكأني أراها من مسافة وهي في عمق مطبخها الواسع، ونافذة كبيرة زجاجية يتسلل منها ضوء الشمس لطيفًا ممتزجًا بظلال خفيفة هادئة، والأم تُحَضِّر الخبز الطازج لابنها الطبّاخ الشاب الذي قد يظهر في أيّ لحظة ليشاركها الإفطار”.
يوضح “الفخراني” عن الشخصية الروائية: "أراها هناك وهي تتحرك بهدوء وطمأنينة وثقة كأنها في كونها الخاص، هي الأم التي قال عنها ابنها الطبَّاخ أنها "بطلة حياته، وأحسن طبَّاخة في العالم"، ومنها تَعَلَّم فنون الطبخ، وربما فنون الحياة أيضًا، في الرواية تعمَّدْتُ ألا تتكلّم الأم، فكَّرْتُ أنها لو نطقَتْ بأيّ كلام فستلفِتُ نظر القارئ إليها عن الشخصيتين الرئيستين (الطبّاخ الشاب، ومَدَرِّس التاريخ)، حتى الجُمَل التي قالها ابنها الطبّاخ الشاب عن علاقته بالطبخ والطعام، هذه الجُمَل كان يمكن أن تقولها الأم، بما أنها مَنْ علَّمَتْه، لكني فضلْتُ أن تَظهر على لسان ابنها، وتبقى هي بحضورها الخاص، وأدائها الشفاف الواثق".
لفت “الفخراني” حول رؤيته لـ الشخصية الروائية، إلى: "ثم كان عنوان الرواية الذي جاء منسوبًا إليها: "غداء في بيت الطبّاخة"، في بيتها هي، وهو مشهد خيالي يَدعو فيه الطبّاخ الشاب جميع المُتحاربِين من الطرفَيْن ليتناولوا الغداء في بيت أمه، بطلة حياته، وأحسن طبّاخة في العالم، فنراهم يَظهرون تِباعًا من الغابة والتلال، ويمشون معًا إلى بيت الطبّاخة ليأكلوا مِنْ طَبْخِ يديها".
استطرد: “ظهَرَت الأم الطبّاخة في روايتي مثلما يظهر أيّ إنسان في روايةِ العالم، روايةِ الحياة، بطبيعيّة وحضور خاص، لتكون له حكايته داخل الحكاية الكبيرة، ويؤثّر فيها بطريقته، أفكر أنّ إحدى العلاقات بين الكاتب وشخصيات النصّ الأدبي، أنهما (الكاتب والشخصيات) يتقابلان داخل الرواية بطبيعيّة مثلما قد يتقابلان في الحياة، ويتعرّفان ويكتشفان بعضهما بعضًا معًا”.
وعن الشخصية الروائية، اختتم “الفخراني”: "الشخصيات في رواياتي وقصصي حياة حقيقية، أعيش معها أثناء الكتابة، ثم هي تنطلق في حياتها، وفي الوقت تظل تعيش معي وأعيش معها، بالنسبة لي هي حقيقية أكثر من أيّ شيء آخر، الأم الطبّاخة في روايتي، بيني وبينها هذه الحميمية الخاصة، وأعرف قوة حضورها وشفافيتها، وكيف أنها ستترك أثرها في روح وعقل مَنْ يقرأ الرواية، حتى وإنْ كان سيُدْرِك هذه الأثر فيما بعد، إنها الشخصيات التي تبدو في الخلفيّة أو العمق، هي فِعْلًا هناك، تُلَوِّن فضاء النصّ الأدبي، وتمنحه امتدادًا وعمقًا، (لمحة: في حياة أخرى موازية تَحْدُث الآن، أختار أن أتكلّم عن شخصية النادلة، التي حكى عنها الطبّاخ الشاب في مشهدٍ واحدِ بالرواية نفسها "غداء في بيت الطباخة"، ولهذه النادلة حكاية تستحق)".