زيارة «الباز» لـ«نصر حامد أبو زيد»
قرأت باهتمام كتاب محمد الباز «إمام التفكير.. زيارة جديدة لــ نصر حامد أبو زيد» فاستدعت الذاكرة مشهد تسعينيات القرن الماضى كاملًا، صحيح أن الكتاب يستعرض سيرة أحد أئمة التنوير وإعمال العقل فى تاريخ مصر المعاصر، وخاصة كواليس معركة حياته الكبرى فى مواجهة دعاة الإظلام وإخماد العقل، والتى جرت وقائعها فيما بين عامى 1992 – 1995، إلا أن قراءة الكتاب لا يمكن أن تأتى بمعزل عن مشهد التسعينيات فى مجموعه، أو هكذا قرأته على الأقل.
تزامنت التسعينيات مع العشرينات من عمر جيلى، والعشرينات فى عمر الإنسان غالبًا ما تكون سنوات الوقوف على عتبة حسم مكونات العقل والوجدان، وفى المقدمة منها ما يتصل بالوعى، ليس بمفهوم الإدراك العام، ولكن بمعنى شرارة الله فيمن يصطفى من خلقه، شرارة الدافع والقدرة والاجتهاد نحو الوصول لحقائق الأمور، أو الاقتراب منها على أحسن الفروض، وإن قال القدر كلمته أو لعبت الصدفة دورها فى هذا بشكلٍ أو آخر، فإن عوامل النشأة والتربية والبيئة الحاضنة للإنسان فى طفولته وصباه وشبابه، تلعب هى الأخرى دورها دون أدنى شك، والحمد لله أن كنا من الناجين.
أما زيارة «الباز» فقد أتت ثلاثًا فى واقع الأمر، الأولى استعرض من خلالها حياة نصر حامد أبو زيد، وملامحها الدرامية القاسية فى معظم الأحوال، حتى أنك تجزم أن «أبو زيد» عاش ومات دون أن يذق طعم الفرح إلا قليلًا، والثانية استحضر فيها «الباز» تفاصيل وكواليس معركة «نصر» الفكرية الكبرى، والتى كان ظاهرها رفض ترقيته إلى درجة أستاذ بكلية الآداب جامعة القاهرة، بينما باطنها مصالح شخصية تاجرت بالدين طوال الوقت، ورغم تعدد الأسباب جاء الموت واحدًا شاخصًا فى حكمٍ قضائى بالتفريق بينه وبين زوجته د. ابتهال يونس، باعتباره مرتدًا عن دينه قياسًا على ما جاءت به أبحاثه، وفى الزيارة الثالثة أفرد «الباز» مساحة منتقاة بعناية لبعض أطروحات د. نصر حامد أبو زيد، تعطيك فى مجموعها مدخلًا واضح المعالم لشخص وفكر «أبو زيد»، خاصة وأنها مثلت قناعة الرجل قبل المعركة وفى ذروتها وأيضًا بعدها، لتدرك فى النهاية أنه بالفعل رجل صدق ما عاهد الله عليه، وإن لم يأتِ بجديد فيما طرحه باعتبار سبق آخرين فى ذات الطرح، إلا أن قوة «نصر» جاءت فى ثباته على موقفه بكل تحدٍ وإصرارٍ وجلد حتى آخر العمر، وأيًا كانت العواقب، وبدون أى تردد، وهو ما أبقى سيرته حاضرة وأثره فعال بكل هذه القوة بعد سنوات طويلة من غيابه، تُوفى 5 يوليو 2010.
فإذا ما استعادت الذاكرة مشهد التسعينيات كاملًا، أراه يبدأ بالمناظرة التاريخية الشهيرة "مصر بين الدولة الدينية والدولة المدنية" يوم 7 يناير عام 1992 ضمن فعاليات معرض القاهرة الدولى للكتاب، والتى مثل فيها الدولة الدينية كل من الداعية الإسلامى الشيخ محمد الغزالى، ومرشد جماعة الإخوان المسلمين آنذاك مأمون الهضيبى، والكاتب الإسلامى الدكتور محمد عمارة، بينما مثل جانب الدولة المدنية المفكر الشهيد فرج فودة، ومعه المفكر الدكتور محمد أحمد خلف الله، وأدار المناظرة باقتدار الدكتور سمير سرحان، رحمة الله عليهم أجمعين، ولم تكن نتيجة المناظرة سوى اغتيال فرج فودة بعدها بخمسة أشهر، حيث أرداه المتطرفون الجناة قتيلًا مساء الإثنين 8 يونيو 1992، وهو يغادر مكتبه بمصر الجديدة فى صحبة ابنه أحمد وصديق له.
ثم تأتى معركة نصر حامد أبو زيد وحيدًا فى مواجهة عبد الصبور شاهين ورفاقه الممتدة لأكثر من ثلاث سنوات فيما بين عامى 1992 – 1995، ولم تكن نتيجة المعركة سوى حكمٍ قضائى بتفريق نصر وزوجته باعتباره مرتدًا عن دينه، وهو ما دفعهما إلى مغادرة مصر إلى منفى اختيارى بهولندا، فلا كرامة لنبى فى وطنه.
وبعدها جريمة 14 أكتوبر 1995، حين تعرض سيد الرواية العربية أديب نوبل «نجيب محفوظ» لمحاولة اغتيال بالطعن بسكين فى عنقه على يد «فنى كهربائى» لاتهامه بالكفر والخروج عن الملة بسبب روايته «أولاد حارتنا» تنفيذًا لأوامر أمير الجماعة الإسلامية وتطبيقًا لفتوى الشيخ عمر عبد الرحمن أحد أشهر دعاة الإرهاب وسفك الدماء، ورغم نجاة «محفوظ» من محاولة اغتياله إلا أنها أتت عليه كاتبًا، بعدما ترك الطعن أثره وقتها على حركة يده.
لعل تلك المشاهد هى الأبرز فى عقد التسعينيات، والتى يشغلنى أنها تزامنت مع موجة إرهاب عاتية جابت طول مصر وعرضها، وتمثلت ذروتها فى حادث مذبحة الدير البحرى «حتشبسوت» بالأقصر فى 17 نوفمبر 1997، والذى راح ضحيته 58 قتيلًا من السواح الأجانب، سقطوا قتلى بأيدى جناة الجماعة الإسلامية فى أقل من 45 دقيقة.
أستعيد المشهد كاملًا، فأرى إلى أى مدى استطاع الإرهاب أن يؤكد انتصاره فى عقد التسعينيات، ليس فقط أمنيًا على الأرض، وإنما أيضًا فكريًا على أيدى جناة ارتدوا أثواب الشيوخ والعلماء، واعتلوا منابر الفتوى والمحاضرات، وخططوا مؤامراتهم فى ساحات المساجد والجامعات، والنتيجة أن مواجهة الإرهاب حتى يومنا هذا لا تزال أمنية بالأساس، ولو أن نجيب محفوظ ونصر حامد أبو زيد وفرج فودة وأمثالهم أخذوا فرصتهم كاملة فى الوصول إلى بنى المحروسة على اتساعها، لكنا حتمًا اليوم فى وضع أفضل كثيرًا فى مواجهة الإرهاب فكريًا، ولعل وعى العقل الجمعى المصرى كان ارتفع إلى حد وأد فكرة الإرهاب تمامًا ومن جذورها.
ولكن أن تأتى متأخرًا أفضل من ألا تأتى أبدًا، خاصة وأن المناخ العام الآن يسمح بقطع أشواط طويلة على أرض التنوير، بعدما فرض الأمن سطوته فى مواجهة أعتى موجات الإرهاب فى السنوات الأخيرة، ولكن نظلم قوانا الأمنية كثيرًا حين نتركها تخوض معركة الحياة أو الموت وحيدة طوال الوقت، فالكل مُدان طالما ظلت الحلول أمنية، وعلى كلٍ منا دور واجب القيام به حتى نستحق لقب النخبة.
بقيت كلمة أخيرة فى محبة محمد الباز ومشروعه المهنى والفكرى، وأزعم أنى من متابعيه من وقت أن خطى أولى خطواته فى بلاط صاحبة الجلالة مطلع التسعينيات، ولم أره يومًا إلا مختلفًا فى منهجه ولغته وإيقاعه، محترفًا فى الذهاب إلى مناطق مختلفة، قادرًا دائمًا على الاشتباك بسلاسة واحتواء مهاجميه قبل مخالفيه بكل ود، قارئًا متعمقًا ومثقفًا موسوعيًا وكاتبًا فذًا، يستطيع الوصول بأفكاره بسهولة تمتنع على أقرانه، ولعل كتابه «إمام التفكير.. زيارة جديدة لــ نصر حامد أبو زيد» مثلًا يؤكد مدى احتياجنا لمن يأخذ بطرفى نقيض إلى منطقة وسط يمكن البناء عليها، والحقيقة أن «الباز» فاعل فى هذا، والدليل الأجواء الإيجابية لندوته فى معرض القاهرة الدولى للكتاب الأخير، والخاصة بكتابه فى إحياء سيرة د. نصر حامد أبو زيد، أما مشروعه المهنى كصانع صحف من الطراز الأول، فلعل «حرف» الجريدة الثقافية الإلكترونية السباقة التى تقرأنى من خلالها الآن، هى أحدث نفحاته فى مشوار مهنى طويل عامر بمحطات تركت أثرها بلا أدنى شك، دمت فاعلًا يا دكتور.