معادلات خفية
«من أراد هجرك وجد في ثقب الباب مخرجًا، ومن أراد ودّك ثقب في الصخر مدخلًا».. مشكلتنا كبشر هو التعود، الألفة والتآلف كأن العالم ثابت ويدور كل يوم بنفس عدد الدورات.
نحن بسطاء أو الأغلب منا، نبحث عن نفس التفاصيل، التعابير، نخاف التغيير أو نهابه، نألف الأصدقاء، ونعتاد الأعمال ذاتها، نبحث عن مناطق دافئة لا نود أن نغادرها، تلك مأساة في الرتابة، التعود، الألفة لذات التفاصيل، تذكر عمل كل يوم، سنوات طويلة من شيء واحد نعتاده، لا نعرف إن كنا نحبه أو نكرهه، نبغضه أو نخاف أن نفشل في عمل غيره، ما ينطبق على التفاصيل ينطبق على العلاقات.
ليتهم يعلمون بقدر محبتنا لهم، بأنه لم يكن مطلوبًا منهم سوى شيء واحد فقط، وهو «الأمان»، وتحديدًا وقت الشدة، وأن يُهونوا عليك الدنيا ولا تَهون عليهم أبدًا، ولكن إن كان يأتي التجاوز من لطف الله فإن الخذلان يأتي من مكامن وسوسة الشياطين، هناك خذلان غير مقصود، وهناك خذلان مباشر يكمن في أيدي بعض البشر وأعينهم، وأفعالهم.
"عاشر الذي تَنهاهُّ مكانتك عن خَدشِ خاطرك، ومن يضع قيمتك دائمًا حيث تُحِب".. مقولة مُعبرة تصف معنى الحاجة، وكلمة حاجة هنا أنها لا تقتصر على حاجة مادية أو حاجة يمكن قياسها، المشاعر لا يمكن قياسها، الإحساس لا يمكن قياسه، المودة والمحبة والألفة غير قابلة للقياس، اللطف والتآلف لا يمكن قياسهما، التقدير لا يمكن قياسه.
هناك ما يسمى بالرواسب، وهي التي تغطي المشاعر بعد كل عتاب بلا فائدة، وكل يوم انتهى بزعل دون مصالحة، وكل دقيقة تعب دون «طبطبة».. قد يستغرق التعافي بعض الوقت، خاصة لو «الصدمة» جاءت من الشخص الذي أطلقت عليه «الأقرب» لتشعر بصعوبة إحساس أنك «هونت»، تزيد الحياة عتمة، تجعلها مظلمة، في الأيام الأولى لنا كل الحق في اللوم والغضب، في الحزن.
وحينها تنقلب الآية لتصبح أنت «الظالم» لمجرد لومك وعتابك على أفعالهم أو عشمك في مكانتك عندهم.. ولكن «أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى».
سيأتي يوم نستيقظ فيه بلطف الله، نسافر، ونكتب ونقرأ، سنعرف أننا محطات في حياة بعضنا البعض، إلا من رحم ربي ويُقدر وجودنا، متعلقًا في الآية 48 من سورة الطور «وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا»، وما تحويه من معانِ ورسائل ربانية.
في معركة الحياة التي نعيشها نجد التناقض والتضارب، وتتحقق السنَّة الربانية من وجود الثنائيات المتضادة: الحياة والموت، الصحة والمرض، الأمل والألم، العدل والظلم، الغنى والفقر، إلخ، وفي خضم هذه «المعادلات الخفية» تظهر قوة الإنسان وضعفه، ويظهر مدى إيمانه ويقينه، ولا ينجح في هذه المعارك الطاحنة إلا أصحاب النفوس القوية، المتصالحة مع ربها.
الشخص الطيب حين تضربه الحياة بصفعات، يتحول تدريجيًا إلى شخص لا تعرفه، فبعدما كان أول من يغفر ويسامح يصبح شخصا لا يقبل الأعذار أو يعطي فرصا جديدة، بعدما كان أول من يضغط على نفسه في سبيل إرضاء من حوله تصبح أول أولوياته هو كسب راحته النفسية، بعدما كان يدافع باستماتة عن أحبائه يصبح شخصا متقبلا لـ«الخذلان».
تتغير نظرته في البقاء الأبدي، فيصبح إيمانه بأن الناس فترات تنتهي مع الوقت، وبعدما كان يثق في الجميع، وخاصة «أحدهم» يصبح شخصا يجيد حفظ أسراره وتفاصيله لنفسه، وبعدما عاتب عشرات المرات وطلب الإبقاء عليهم دون حساب لصعوبة الطلب، حينها تأتي المفاجأة بأن الكلام أصبح لا يفيد وكأن رصيده الحالي لا يسمح لـ«العشم»، وقتها فقط لا يعاتب أحدا، فـ«كلٌ أدرى بأفعاله»، ويحاول أن يصبح أقوى؛ حفاظًا على قيمته وكرامته، فكسر الخاطر وصده ليس بالأمر الهيّن.
الطيب في هذا الزمن ليس مغفلا أو «ساذجا» كونه تنازل عن قصد تصرفات وكلمات كانت بمثابة "الرصاصة" في القلب، من سامح وتقبل تبريرك في صراع بين تصرفاتك وبين إحساسه "وفي النهاية رجّح كفتك"، ما هو إلا إنسان صادق في حبك، وأراد أن يتلاشى تقصيرك في حقه حتى يصل إلى أقصى درجات مراعاة الله فيك بكل إخلاص، ولكن لكل فرد قدرة على التحمل والصبر، ومهما كان ودودًا و"متسامحا"، هناك خط للنهاية ويبدأ بتأكيد "قسوتك" عليه في أكثر الأوقات احتياجًا، وهنا يكون "رد فعل" وليس بفاعل، ومهما حدث لن يتحوّل أبدًا، بل يفوّض أمره إلى الله في الدنيا والآخرة، ثم "يمضي".. يمضي في صمت.