«النقطة العمياء».. ترفع الغطاء عن الخطايا الخفية للنفس البشرية
«النقطة العمياء» هى مسرحية من إعداد وإخراج المخرج والدراماتورج أحمد فؤاد، مأخوذة عن مسرحية «العطل» لفردريش دورينمات، ومن إنتاج فرقة مسرح الغد بقيادة الفنان سامح مجاهد.
و«العطل» مسرحية إذاعية لفردريش دورينمات، الكاتب والرسام والمؤلف المسرحى السويسرى، هذا الكاتب الذى طالما انشغل بالنفس البشرية وجرائمها، وطرح عبر نصوصه «هبط الملاك فى بابل وعلماء الطبيعة وزيارة السيدة العجوز»، تساؤله عن الجرائم البشرية التى لا تسقط بالتقادم، وتصوره عن الشرور بوصفها مكونًا أصيلًا فى النفس البشرية، حيث الجريمة كامنة دومًا فى سلوكه، وحيث لا يوجد إنسان برىء، حتى من يعتقد من الناس بأنهم أبرياء، هم يعيشون محض وهم لم يتكشف بعد، وربما اكتشفوا ذات يوم، وبمحض الصدفة، أنهم قتلة.
ومسرحية «العطل» التى أعدها ومصّرها أحمد فؤاد فى «النقطة العمياء» تدور أحداثها فى ذات الإطار الفكرى الذى انشغل به دورينمات، فتدور الأحداث حول آدم السمرى، مدير تسويق بشركة كبرى الذى يضطر لقضاء ليلته فى قرية نائية بعد أن يصيب سيارته عطل أو عطب، وينصحه من فى القرية بالتوجه إلى فيلا الدكتور حكيم، دكتور فى القانون وقاض سابق، الذى يرحب دومًا باستضافة الوافدين والغرباء عن القرية، وحين يتوجه لفيلا الدكتور حكيم يلتقى عادل، المحامى السابق، وكمال، وكيل النيابة السابق، وداليا، مساعدة الدكتور حكيم، ويتورط معهم فى لعبة تتضمن قواعدها محاكمته بوصفه متهمًا.
ويوافق «آدم» الذى يدعى البراءة فى البداية ويجاريهم فى رحلة البحث عن الخطأ أو الجريمة، وهو لا يدرك ما سيؤول إليه الأمر لكن تنتهى اللعبة، وقد اقتنع آدم بأنه قاتل ويستحق أقصى العقوبة وهى الإعدام شنقًا، فكيف تتصل خيوط اللعبة وتتشابك لتصل بنا إلى تلك النهاية.
بينما يسائل وكيل النيابة، ممثل الادعاء، آدم السمرى، يتكشف أن له اسمًا حركيًا هو كازانوفا، وأن عربته المرسيدس الحديثة التى تعطلت هى عربته منذ عام فقط، وقبل ذلك كانت لديه سيارة متواضعة، وهى ذات المسافة بين آدم الذى كان مندوب مبيعات متجولًا منذ عام قبل أن يصبح مديرًا للتسويق، ثم يتبين أن تلك الترقية حدثت بعد وفاة «السيوفى» الذى كان يشغل ذات المنصب وكان يسحق كل من يعمل تحت إمرته ومنهم «آدم»، يحاول «كمال» (المحامى) تحجيم رغبة آدم فى الثرثرة، وينبهه ألا يورط نفسه، لكن امتلاء آدم بذاته وفخره بنفسه وبأفعاله التى لا يدرك مدى سوئها هو الفخ أو النقطة العمياء التى تؤدى به إلى الهلاك.
وهنا يتبادر السؤال: كيف مات السيوفى؟
مات بأزمة قلبية، فهو مريض قلب وكان يخفى تلك الحقيقة حتى لا يستضعف فى الشركة، و.. كيف عرف آدم تلك المعلومة؟
عرف آدم ذلك من زوجة السيوفى الجميلة.. التى أهملها السيوفى فوجدت فى آدم «كازانوفا» ضالتها بعد أن ألقى عليها حبائله، لكنه قطع علاقته بها عقب وفاة السيوفى.
لماذ قطع العلاقة: هل انتهى الغرض منها وهل عرف السيوفى بخيانة زوجته؟
نعم لقد حكى آدم لأحد زملائه فى العمل.. وقد أخبر هذا الزميل السيوفى قبل إصابته بالأزمة القلبية، هل رتب آدم كل ذلك لعلمه بمرض السيوفى، وبأن إصابته بأزمة قلبية تودى بحياته هو أمر حتمى إذا ما عرف بخيانة زوجته الجميلة، وهو الرجل القوى المغرور الذى لا يتوقع أن يغرر به على أى نحو.
وهكذا وعبر تكشف تلك الحقائق وإعادة ترتيبها على هذا النحو يعاين آدم جرمه، ويدرك أنه قاتل، التهمة التى طالما أنكرها ولم يع قصديته لها، حيث ظن أن كل شىء حدث على نحو قدرى، سرقته زبائن السيوفى، منافسة فى العمل لا أكثر، وعلاقته بزوجة السيوفى، لأنها امرأة جميلة ووحيدة، وحكيه لزميله بالعمل، لأنه لا يحب الأشياء المخفية- يخفى فقط عن زوجته حتى لا يدمر بيته، والآن بعد أن تكشف لآدم أن ما حدث ما كان ليحدث على نحو تلقائى دون اتصال ودون قصدية.. وبعد أن أقر بذنبه وأصر عليه وعارض محاميه، ماذا سيفعل آدم بعد أن صدر عليه الحكم بالإعدام؟ هل ينفذ الحكم أم ينسى ويعدها محض لعبة؟.. وكيف عالج أحمد فؤاد النهاية؟ سأترك هذا الجزء معلقًا للمتفرجين الذين سيشاهدون العرض.
ولنرصد كيف عالج أحمد فؤاد فكرة العرض الذى أطلق عليه اسم «النقطة العمياء» وما النقطة العمياء؟
النقطة العمياء «وفقًا لويكيبيديا» هى حجب فى مجال الرؤية، وهى نقطة تخلو من مستقبلات الضوء، وتقع هذه النقطة على الشبكية حيث يمر العصب البصرى، نظرًا لعدم وجود مستقبلات للضوء فى هذه النقطة، فإن الجزء المقابل لها فى مجال الرؤية يكون غير مرئى، إلا أن أدمغتنا تقوم ببعض العمليات لاستكمال التفاصيل التى حجبتها النقطة العمياء على أساس التفاصيل المحيطة بها، والمعلومات القادمة من العين الأخرى، لذلك فنحن لا ندرك «حسيًا» وجود النقطة العمياء.
إذا طبقنا هذا المفهوم على الشعور الإنسانى والضمير.. فوفقًا للدلالة التى تبناها «فؤاد» فقد ارتكب «آدم» كل أفعاله المشينة من نقطة عمياء فى ضميره الإنسانى، نقطة عدم إدراك وتمييز لبشاعة الفعل وانعكاساته التى ربما تصل إلى القتل العمد.. هذا العمد غير ظاهر لكنه كامن فى «النقطة العمياء».
أما عن مفردات العرض، فقد بدت مفردات الصورة على واقعيتها مغرقة فى الدلالات النفسية عبر هيئة الديكور «الذى صممه أحمد أمين» واللوحات المعلقة واللوحات التى كانت ترسمها داليا فى الطابق العلوى.. وحبل المشنقة المتدلى فى الطابق العلوى أثناء العرض وكأن الحكم مشرع أمامنا مسبقًا، وقد عزز هذا الطابع النفسى فى الصورة إضاءة «أبوبكر الشريف» وموسيقى «محمود أبوزيد».
على مستوى الأداء التمثيلى، فقد دقق المخرج فى اختيار ممثليه، ليكونوا متوافقين تمامًا مع باترون الشخصيات.. وربما يعد هذا العرض مباراة فى التمثيل حقيقة.. فنحن أمام ممثلين مكتملى الأدوات حاضرين ذهنيًا وشعوريًا ومتأهبين للنقلات الدرامية وقادرين على توجيهنا مباشرة نحو معانى ودلالات العرض النفسية، فقد تفاجأنا بالقدرات المسرحية للممثل نور محمود فى دور «آدم السيوفى»، كان أداءً واثقًا وعميقًا وقادرًا على الصمود فى مواجهة ممثلين مسرحيين كبار ومتحكمين فى أدواتهم مثل أحمد السلكاوى فى دور المحامى الذى طوع أدواته الجسدية والصوتية على نحو مبهر، وانتقل من الكوميدى للتراجيدى ومن الأداء الواقعى للكابوسى، وناظره فى هذا التمكن الفنان أحمد عثمان فى دور المدعى العام.. حيث استدرجنا بأدائه وتحديه.. وكذلك تميز أداء الفنان حسام فياض فى دور القاضى والفنانة هايدى فى دور داليا «الجلاد».
فى النهاية، أقدم دعوة مفتوحة لمشاهدة عرض «النقطة العمياء» على مسرح الغد، فهو عرض يستحق المشاهدة، ويستحث الإنسان على أن ينتبه لذاته ورغباته الدفينة والنقاط المظلمة التى تكمن داخله، والتى لا يعيها، وكما تقول كلاريسا بنكولا فى كتابها «نساء يركضن مع الذئاب»: «المناطق الأكثر ظلمة فى النفس هى الأكثر احتياجًا لأن نفجر ينابيع النور فيها».