التحول الرابع
بحكم الضرورة فإن السنوات المقبلة هى سنوات الاقتصاد فى مصر، خلال العقد الماضى ضبطت الدولة المصرية إيقاع تحولاتها بالثانية، إسقاط حكم الإخوان، ثم الحرب على الإرهاب، ثم الصلح مع الدول التى حاولت معاداة مصر، ثم الحوار الوطنى وتوحيد الجبهة الداخلية.. كلها خطوات موفقة أدت لتدعيم أركان دولة ٣٠ يونيو، وفرض حالة كبيرة من الاستقرار لا شك أنها ميزة كبيرة فى محيط مضطرب وعاصف.. هذه المراحل السياسية المختلفة تزامنت مع رحلة ممتدة لزيادة المعمور المصرى، سواء من خلال بناء عشرات المدن أو استصلاح آلاف الأفدنة أو مشاريع النقل التى تربط كل هذا ببعضه البعض، وتسهم فى تحويل مصر لمركز خدمات عالمى بين الشرق والغرب.. كل هذه الإنجازات على أرض الواقع صادفتها وتزامنت معها أزمات اقتصادية عالمية ومحلية أدت لأعراض واضحة يعانى منها الجميع، منها التضخم وارتفاع الأسعار ونقص المعروض من العملة الصعبة، وتأثر بعض الصناعات، ووعى المصريين التاريخى وحاسة المصريين السادسة دفعتهم للتحمل والصبر كما يليق بشعب عريق لأنهم أدركوا أن هناك تحديات خارجية أدت لتعطل مرحلة جنى الثمار، ولكن هذا لا يمنع أن كثيرين جدًا ينتظرون أن تدخل الدولة المصرية لمرحلة جديدة تتسم بأداء اقتصادى مختلف، ينتظر الكثيرون أداءً اقتصاديًا مختلفًا من الحكومة أو حكومة ذات أداء اقتصادى مختلف.. كما قاد الرئيس مصر خلال المراحل السابقة وأدار تحولاتها باقتدار.. ينتظر الناس منه أن يقود التحول نحو أداء اقتصادى مختلف.. تاريخيًا فإن الدولة المصرية لم تصطبغ بلون عقائدى معين فى الاقتصاد أو السياسة حتى وإن مالت فى اتجاهات مختلفة عبر العصور.. اتسمت دولة يوليو باعتناق مذهب الوسط السياسى وتحركت بين يسار الوسط فى الستينيات ويمين الوسط فى السبعينيات، ثم عادت لبعض التحفظ فى الثمانينيات والتسعينيات، وعاودت التوجه نحو اليمين فى الألفية الجديدة مع عيوب قاتلة تتعلق بالمصداقية والقدرة على التواصل مع الناس وإهمال المشروعات القومية.. لكن المعنى أن الدولة المصرية تاريخيًا تتسم بالعملية والبراجماتية وبالتوجه نحو تطبيق السياسة الاقتصادية الأنسب لطبيعة المرحلة.. عقب ثورة ٣٠ يونيو كان هناك ركود اقتصادى كبير بسبب التغيرات السياسية، وكان هناك ملايين العائدين من ليبيا ودول أخرى، وكان هناك غياب للمشروعات الكبرى منذ عقود.. كان لا بد أن تدخل الدولة بكل قوتها فى مرحلة البناء.. لتحريك الاقتصاد أولًا، واستيعاب العمالة ثانيًا، واللحاق بما فاتنا ثالثًا، وقد تحقق كل هذه الأهداف بالفعل حتى ولو بثمن غالٍ، ولا ينكر ما تم إنجازه إلا مكابر أو كاذب.. المدن الجديدة حقيقة واقعة، المشاريع حقيقة واقعة.. قناة السويس الجديدة حقيقة واقعة.. لكن هناك وجهة نظر لا بد من الاستماع لها.. نحن فى حاجة لقدرات تدير كل هذه الإنجازات، فى حاجة لوزراء يستطيعون جنى الأرباح من هذه الأصول الضخمة وتسويقها فى العالم، فى حاجة لخبرة القطاع الخاص فى الاستثمار وفى خدمة الدولة ومشاريعها، أنا من الذين عارضوا النفوذ السياسى للقطاع الخاص قبل ٢٠١١، ولكن الوضع الآن مختلف، الآن أطالب بتوظيف قدرات كل مصرى لم يتورط فى الفساد أو الإرهاب.. لماذا؟ لأن الوضع الآن مختلف.. هناك دولة قادرة، ورئيس قوى له شعبية، وبالتالى لا يستطيع أى رجل أعمال إذا أصبح وزيرًا مثلًا أن يستفيد من منصبه أو يتجاوز حدود الدور المرسوم له.. هذا هو الفارق بين الماضى والحاضر.. الآن كفاءة ومهارة المستثمر الذى يرغب فى المشاركة فى السياسة ستكون لنا لا علينا، وستكون لمصلحة مصر لا لمصلحة الشركات الخاصة كما كان الحال قبل يناير ٢٠١١.. ننتظر من سيادة الرئيس أن يوجه ببرامج عمل مفصلة لتغيير الوضع الاقتصادى، وأن يستعين بدماء جديدة لتنفيذ هذه البرامج وأن تفتح الدولة الباب لكل مصرى قادر على خدمة بلده ما دام لم يتورط فى الإرهاب.. وستكون هذه بمثابة مرحلة جديدة من الحوار الوطنى أو بمثابة تحول استراتيجى جديد يقوده الرئيس بعد محطات التحول الكبرى فى ٣٠ يونيو أولًا، وهزيمة الإرهاب ثانيًا، والحوار الوطنى وتوحيد الجبهة الداخلية ثالثًا، نريد من الرئيس أن يوجه بالتحول الرابع نحو أداء اقتصادى مختلف ليدعم التحولات التاريخية الثلاثة السابقة ويتوجها.. والله من وراء القصد هو نعم المولى ونعم النصير.