دم درامى جديد
أنتمى لمدرسة صحفية تعتبر الفن سلاحًا لا يقل أهمية عن السياسة، فهو فى مجتمع نام مثل مصر أداة تنوير وتوعية وصياغة لوجدان الناس، وهو فى إقليم مثل إقليمنا ذراع قوة، وركن تميز، ودليل ريادة، ومصدر ثروة إذا أحسنا إدارته.. لكل هذه العوامل أترقب الإنتاج الدرامى الجديد بعقل الصحفى قبل أن أراه بعين المشاهد، ولا أرى غضاضة فى الاعتراف بأننى خلال العام الأخير أصبحت مشاهدًا منتظمًا للمسلسلات التى تعرضها منصة «واتش إت»، لا لسبب إلا لأننى رصدت دمًا دراميًا جديدًا يتدفق فى صناعة الدراما المصرية، وتغيرًا فى أساليب الطرح وموضوعات المسلسلات وأسماء الأبطال، وقد فتح كل ذلك شهيتى لمشاهدة عدة مسلسلات متتالية أبطالها من الجيل الجديد من الفنانين الذين أظنهم جميعًا من مواليد التسعينيات، وهى براعة من الشركة المنتجة ومن إدارة المنصة أن يتم الدفع بهذا الدم الجديد فى غير الموسم الرمضانى الذى يلعب البطولة فيه كبار النجوم من مواليد السبعينيات وممن أصبحوا اليوم مثلى كهولًا وآباء.. أحد أوجه البراعة أننا مجتمع شاب.. نسبة الشباب فيه تتجاوز ٦٥٪ أو ما يزيد على ٦٥ مليون شاب، إذا لم يجدوا من يعبر عنهم فى الدراما المصرية سينصرفون لمتابعة منصات أخرى تعبر عن ثقافات مختلفة وأولويات مختلفة كثير منها ضار وقليل منها نافع.. من أوجه البراعة أيضًا أن كل بطل جديد لعمل يتم تقديمه وراءه منتج جيد صاحب عين لاقطة، هذه العين تراهن على البطل الموهوب وتغامر بتقديمه، فإذا أصاب الرهان ربح المنتج ماديًا ومعنويًا وكسب الجمهور صانعًا جديدًا للمتعة وكسبت السوق مخرجين ومؤلفين وفرق عمل جديدة من نفس جيل البطل الشاب.. ما يستحق التحية أيضًا فى كل المسلسلات التى قدمتها منصة «واتش إت» أنها سارت فى مسار عكسى للصورة المبتذلة التى أراد البعض وضع الدراما المصرية فيها خلال سنوات ماضية، حيث تختصر مصر فى البطل البلطجى، والحارة الشعبية المبتذلة والمصطنعة وليس الحقيقية، وجمل الحوار المشتقة من حكم التكاتك.. إلخ.. اختلف الوضع تمامًا فى المسلسلات التى شاهدتها خلال الفترة الماضية، حيث البطل هو الإنسان المصرى العادى الذى بكل تأكيد ليس مجرمًا ولا يشترط أيضًا أن يكون بطلًا خارقًا.. إنه المصرى العادى بمزاياه وعيوبه.. البطل الذى يشبهنى ويشبهك ويشبه من نعرفهم من الطبقة الوسطى المقاومة.. فى مسلسل «بالطو» المأخوذ عن رواية للكاتب الموهوب أحمد عاطف فياض كان البطل طبيبًا يعمل فى قرية يواجه فيها مظاهر التخلف والفساد، ولكن المسلسل يحمل روحًا متفائلة وإنسانية وينتصر للبراءة فى مواجهة الشر، وللأخلاق فى مواجهة العدمية والخبث البشرى.. فى مسلسل «صوت وصورة» تكررت فكرة الدفع بفنانين جيدين لأدوار البطولة الأولى مع طرح إنسانى عميق ينتصر للإنسان فى مواجهة القهر والتسلط والجبروت.. والأهم أن الانتصار لا يتم بطريق الانتقام الفردى والجريمة الذى استهلكه الفن المصرى منذ بداية الثمانينيات حتى لفظه الجمهور، ولكن يتم بتأكيد الاختيار الإنسانى للأبطال.. تكرر نفس الأمر مع مسلسل كوميدى رائع حمل اسم «على باب العمارة»، راهن فيه المنتج على بطل للمرة الأولى ونقل مجموعة قيم رفيعة بأسلوب كوميدى مسلٍّ دون مباشرة أو ادعاء، وهذه أولى سمات الفن الجيد، وأخيرًا توقفت أمس الأول عند أول حلقتين من مسلسل «حالة خاصة» للنجم الموهوب «طه دسوقى»، والذى يناقش دون أى مباشرة قضية ذوى الهمم أو المختلفين فى مجتمعنا، ويلفت النظر لأهمية الاعتراف بمواهبهم والتعامل معهم بحس إنسانى، وهى قضية تقترب من قضايا مشابهة قدمتها السينما العالمية ونال صناعها أرفع الجوائز لأن الفن يصبح أرقى وأرفع عندما يعالج ما هو إنسانى وما هو مشترك بين البشر جميعًا ويساعد مشاهديه على أن يكونوا بشرًا أفضل.. تحية للشركة المتحدة على هذه الروح الجديدة والفكر الواعى وتحية لصناع الأعمال على القدرة على تقديم الرسالة بأسلوب ممتع وبعيد عن المباشرة والوعظ، ولا عزاء للخاسرين والمتاجرين باسم الفن المصرى.. الفن المصرى يُصنع فى مصر على يد أجيال جديدة من أروع ما يكون.. لأن مصر ولادة وستظل كذلك دائمًا.