«مغامرة» مراد منير تعيد الروح لمسرح السامر
منذ فترة قصيرة أُعيد افتتاح مسرح السامر، هذا الافتتاح الذى انتظره المسرحيون طويلًا وترقبوه، وبعد افتتاح المبنى عاد المسرحيون لانتظار المعنى، ألا وهو المسرح ذاته، وفى ٥ أكتوبر افتتح الإنتاج الأول للمسرح بعد تجديده وإعادة افتتاحه بعرض يليق ويتوافق مع هوية المسرح الشعبى القريب دومًا من نبض الجمهور والمتصل بقضاياه وهمومه، والمعبّر عنها بأكثر الصيغ شعبية وقربًا من ذائقة الشعب. وقد عاد مع عودة «السامر» للمسرح مخرج كبير له أعمال أثرت تاريخ المسرح المصرى، ويعد من أمهر المخرجين الذين استلهموا الفن الشعبى ودمجوه فى نصوص ذات عمق سياسى واجتماعى، إنه مراد منير الذى لا ننسى جميعًا رائعته «الملك هو الملك» للكاتب الكبير سعد الله ونوس، التى ناقش فيها السلطة ومنظومتها، وكيف يصبح تتويج الملك وارتداؤه صولجانه فعلًا رمزيًا، ينقل معه حال الفرد من حال إلى حال.
إنها طقسية التحول وفلسفة السلطة مستلهمًا حكاية من «ألف ليلة وليلة»، تدور حول ملك يتفقد رعيته متخفيًا ليلًا فيلتقى رجلًا فقيرًا عربيدًا يدّعى أنه يستطيع أن يسوس البلاد أفضل من الملك، فيعطيه الملك صولجانه وعباءته ويترك له الحكم لمدة ليلة، إلا أنه يدرك جسامة خطئه حين تخلى عن تاجه وعباءته «رمز الملك»، لم يعد ملكًا، وأن الرجل العربيد تحوّل كلية لملك بعدما ارتدى التاج والعباءة.
لقد عالج مراد منير وقتها نص «ونوس» معالجة شعبية، موظفًا حضور وخفة دم صلاح السعدنى وحسين الشربينى، بطلى المسرحية، وكلمات أحمد فؤاد نجم التى غناها محمد منير، وحضور وجاذبية فايزة كمال وشريف منير، ليقدم عرضًا شعبيًا غنائيًا، عُرض فى الثمانينيات مرة ثم عُرض فى عام ٢٠٠٠، وفى كل مرة عُرض فيها حقق نجاحًا جماهيريًا ونقديًا كبيرًا. واليوم يعود مراد منير بعد غياب طويل عن المسرح ليقدم نصًا جديدًا لسعدالله ونوس «مغامرة رأس المملوك جابر» بعنوان «المغامرة»، باكورة إنتاج فرقة «السامر» بعودتها، وبطولة: يوسف مراد وحامد سعيد وأشرف شكرى ومصرية بكر وليلى مراد وفاطمة ذكى ولمياء العبد ومحمد النبوى وإيهاب عزالعرب وعبدالله مهنى.
والنص كما هو معروف مستوحى من واقعة تاريخية حدثت وقت الخلاف بين الخليفة المستنصر ووزيره الذى أراد أن يستنصر بالعجم على الخليفة، لكنه عجز بسبب الحصار عن توصيل رسالته لملك العجم، حتى وجد ضالته فى رأس أحد مماليكه.
ووظف سعد الله ونوس فى النص تقنية الحكواتى أو التمسرح، وهو ما ناسب كثيرًا مراد منير الذى يبرع فى لعبة المسرح داخل المسرح، فالنص يبدأ بالحكواتى الذى يروى الحكاية للجمهور، لكن مراد منير جعل الحكاء حكاءين «امرأتين» ترويان الحكاية وتتبادلان أدوار النساء المقهورات داخلها، فماذا تحكيان؟
تدور أحداث المسرحية حول المملوك جابر الذى لا يتداخل مع السياسة، شأنه شأن عموم الناس، ويكتفى بالفرجة، وهو لا يدرك أن السياسة متداخلة فى كل شىء حوله، فهو غير معنى بصراع الخليفة مع الوزير، كل ما يعنيه كيف يستفيد من هذا الصراع.. لذا يسارع إلى الخليفة ويعرض عليه حيلة شيطانية لنقل رسالته، حيث اقترح أن ينقلها عبر رأسه، بحيث يُحلق الشعر وتُنقش الرسالة على رأسه ثم يعود الشعر للنمو فتخفى الرسالة عن عيون جنود الخليفة، ويعجب الوزير بالفكرة، وينقش رسالته على رأس المملوك جابر لكنه يختمها بجملة «وكى يظل الأمر سرًا بيننا اقتل حامل الرسالة من غير إطالة»، لقد كان موته معلقًا على مسافة سؤال لم يسأله: ماذا تحتوى الرسالة التى يحملها على رأسه؟ واستطاع مراد منير عبر مسرحيته أن يقدم رؤيته للوجع العربى، حيث الصراعات بين حكامه وبلدانه، بينما الشعوب جائعة مشغولة بهمها اليومى، تلهيها لقمة العيش أحيانًا وتلهيها ألوان الإلهاء من مخدرات وملذات وإغواءات العالم الافتراضى والفن الهابط أحيانًا أخرى، يشغلها هذا عن البحث عن السؤال الحقيقى الذى تتعلق به مصائرها، مما يجعلها عرضة لمصير جابر ذاته، دون أن تدرك أنها صارت فريسة سهلة لأشكال وصيغ جديدة من الاستعمار الثقافى، الاستعمار الذى يستخدم أسلحة الدعايا أحيانًا والأسلحة البيئية والفيروسات أحيانًا أخرى، فضلًا عن الاستعمار الذى ما زال بصورته المعتادة يقتطع جزءًا من قلب الوطن العربى «القدس- فلسطين». دمج مراد منير النص بتراث الغناء الشعبى المصرى فى تداخلاته مع لحظات التحولات الدرامية فى النص، والذى وضع تصوره وأعده الملحن الكبير محمد عزت، حيث ينتهى العرض مع اجتياح العجم بغداد، فى مشهد يذكرنا بالاجتياح الأمريكى لها، بينما يغنى محمد عزت، ومع الفرقة، أغنية «يا طالع الشجرة»، وهى الغنوة الشعبية المعروفة التى صاغها الخيال الشعبى فى مقاومته الاحتلال فى الماضى: «أبوح يا أبوح كلب العرب مدبوح.. يا طالع الشجرة.. هاتلى معاك بقرة.. تحلب وتسقينى بالمعلقة الصينى.. المعلقة انكسرت وأنا مين يغدينى».
وينتهى العرض وتظل أرواحنا مثقلة بالرسالة، فتحية لمراد منير وتحية لعودته ولمسرحه الذى أعاد الروح لمسرح السامر.