نصيحة أب لولده
أما الأب فهو نجم الدين أيوب، وأما الابن فهو الناصر صلاح الدين الأيوبى. تعلم أن الأخير دخل مصر فى معيّة عمه أسد الدين شيركوه، حين أرسل بهما نورالدين محمود، أمير الشام، الملقب بـ«الشهيد»، لنجدة الخليفة العاضد، آخر خلفاء الدولة الأموية، بعد أن استغاث به لإنقاذه من الفرنج الذين كانوا يطرقون أبواب مصر، وزحفوا إلى داخلها. وقد تمكن الاثنان من صد غزواتهم، واستطاع صلاح الدين بعد ذلك القضاء على الدولة الفاطمية، وألغى المذهب الشيعى من مصر، وأعادها سُنية كما كانت، ثم جلس على سرير ملكها وأصبح سلطانًا لها.
كان صلاح الدين من ذلك النوع من الحكام الذين يستعينون بأقاربهم فى السيطرة على مفاصل الدولة، وقد استدعى كل أفراد عائلته، بمن فيهم والده نجم الدين أيوب، وخاله شهاب الدين الحارمى، وإخوته، ليكونوا معينين له على السيطرة على البلاد. وكان أكثر من يخشاه صلاح الدين على ملكه، هو ولى نعمته نورالدين الشهيد، وكان الأخير شديد الإصرار على القضاء على أى وجود للفرنجة فى مصر أو فى الشام. وقد حذر بعضهم صلاح الدين من أن فراغ نورالدين من تلك المهمة سيجعله يرمى بنظره إلى مصر، ليحرم السلطان الناصر من حكمها، ويتولى هو أمرها، ففكر صلاح الدين فى الأمر، وقرر، فى لحظة كانت مواتية، ألا يستجيب لأمر «نورالدين الشهيد» بالإطباق معه على قوات الفرنج الكامنين بالكرك وما حولها. انسحب صلاح الدين من المعركة فجأة وعاد إلى مصر، وأرسل إلى نورالدين يعتذر له بأنه عاد خوفًا من وقوع انقلاب علوى ضده، يعيد مصر من جديد إلى التشيع. لم يقبل نورالدين هذا الاعتذار وتغير على صلاح الدين، وقرر الزحف إليه وإخراجه منها وعزله من مُلك مصر.
أمام ذلك جمع صلاح الدين أهله وأفراد عائلته، وعقد معهم اجتماعًا عاصفًا للاتفاق على وسيلة لمواجهة الموقف. حكى السلطان لهم ما وصل إليه من أخبار عن عزم نورالدين الزحف إلى مصر، وإخراج الأيوبيين منها، وعزل صلاح الدين. ران على الجميع صمت القبور، وعقد الخوف ألسنتهم. فجأة قام «تقى الدين عمر»، ابن شقيق السلطان، وصرخ قائلًا: لو جاء نورالدين إلى مصر سنقاتله بكل ما نملك ونمنعه من دخولها وعزل سلطاننا صلاح الدين. تحمس العديد من شباب البيت الأيوبى لهذا الطرح، وصرخوا بمثل ما صرخ به «تقى الدين». هنالك وقف الأب «نجم الدين أيوب»، وعبّر عن رفضه الكامل لهذا الكلام، وشتم قائليه. وقال لصلاح الدين: أنا أبوك وهذا خالك شهاب الدين الحارمى، لا نملك إذا رأينا السلطان نورالدين إلا أن نركع له، ونقبّل الأرض بين يديه، ولو أمرنا بقتلك لقتلناك، فإذا كنا نحن نفعل ذلك فما ظنك بغيرنا! وكل من ترى من الأمراء لن يستطيعوا أن يثبتوا على سروج خيولهم، لو رأوا نورالدين، ثم قال: وهذى البلاد له، ونحن مماليكه ونوابه عليها. ونصح نجم الدين ولده بأن يرسل لنورالدين قائلًا له إنه سمع أنه يريد الحركة إليه من الشام، وإنه ليس بحاجة إلى ذلك، بل يأتيه صلاح الدين مقيدًا، ويضع رقبته تحت سيفه، ويؤكد له أنه لا أحد يمتنع عليه فى مصر. امتثل «صلاح الدين» للأمر وأرسل برسالة بهذا المعنى لنورالدين الشهيد.
بعدها اختلى الأب نجم الدين أيوب بولده «صلاح الدين»، وعاتبه قائلًا: بأى عقل أيدت ما يقوله الأمراء؟ أما علمت أن السلطان نورالدين بمجرد أن يعلم عن تمردنا عليه فى مصر يجعلنا مبلغ همه واهتمامه، فيقصدنا دون غيرنا، ولن نقوى على مواجهته؟ أما إذا بلغه طاعتنا وامتثالنا لأوامره انشغل عنا بغيرنا، والأقدار تعمل عملها. ثم أكد له أنه يكره «نورالدين»، وأقسم له أن «نورالدين» لو أراد قصبة من قصب السكر فى مصر لقاتله عليها حتى يمنعه منها أو يهلك دونها. ودعاه إلى التحرك مباشرة إلى الكرك ومحاصرة الفرنج من ناحية، على أن يحاصرهم نورالدين من الناحية الأخرى، كما أمر الأخير. استراح صلاح الدين للرأى، وألقى بكلام الشباب المتحمسين وراء ظهره، وتحرك إلى هناك، حتى يقطع الطريق على أى طرف يريد الزحف نحو مصر. نصيحة الأب كانت فى محلها تمامًا، وقد نفعت صلاح الدين كل النفع، فبمجرد وصول رسالته إلى نورالدين هدأ الأخير من ناحيته، وانشغل عنه، لما علم أنه أطاعه، وتحرك للإطباق على الفرنج معه، رغم أن تصرف صلاح الدين لم يخلُ حينها من اصطناع، أو فى أقل تقدير محاولة لتأمين حدود مصر من ناحية الشمال ضد أى زحف، حتى ولو كان من جانب نورالدين الشهيد نفسه.
والواضح أن الأقدار عملت عملها فعلًا. فقد فوجئ صلاح الدين بعد عودته إلى مصر بوفاة والده نجم الدين أيوب عام ٥٦٨ هجرية، فى حادثة عجيبة، فقد امتطى «نجم الدين» ظهر فرسه ذات يوم، وخرج من باب النصر يريد الذهاب إلى ميدان العيد، فإذا بفرسه يقفز إلى أعلى بصورة مباغتة، فسقط العجوز من فوق ظهره على رأسه، وظل راقدًا بلا حراك لمدة أسبوع، ومات فى اليوم الثامن. وبعد هذه الحادثة بعام، أى سنة ٥٦٩ هجرية، شاءت الأقدار أن يموت السلطان نورالدين الشهيد صاحب دمشق، وخلص حكم مصر للسلطان صلاح الدين، وكان رأى نجم الدين أيوب، كما يصف ابن الأثير، «من أصوب الآراء وأحسنها».
وهكذا تعمل الأقدار دائمًا عملها.