مخاض تحت أصداء القصف.. نقص أكياس الدم يدفع نساء غزة لاستئصال أرحامهن
داخل غرفة عمليات مُظلمة في مستشفى العودة شمال قطاع غزة، كانت نور الفلسطينية، تتجرع آلامًا مبرحة تحت أصداء القصف، بعدما جاءها المخاض في الثانية فجرًا. حولها كان الطبيب يعمل على ضوء كشافات الهواتف بسبب انقطاع الكهرباء، ويخبرها أنها ستُجري عملية ولادة قيصرية دون تخدير.
أعطتها الطبيبة المساعدة الدكتورة آية عفشة، بدلًا من المخدر قماش مُعقم كي تعضّ عليه لتخفيف الألم الذي تشعر به. كانت لحظات مُرعبة ترى فيها نور بطنها مفتوحة وتشعر بالألم في كل جسدها وصراخها يملأ أرجاء المكان. خرج الطفل من أحشائها لكنها أصيبت بنزيف حاد.
قرر الطبيب استئصال الرحم حفاظًا على حياتها، ولعدم وجود أكياس دم كافية لوقف النزيف وفقًا حديث الدكتور آية لـ«الدستور». استأصل الرحم وخِيط الجرح وقطع الحبل السري دون مطهرات، لتظل نور طوال الليل تصرخ من الألم لعدم وجود مسكنات بالمستشفى، وفي الصباح قضى النزيف على حياة نور وأصبح ابنها يتيمًا.
ليست نور وحدها من فقدت رحمها وحياتها، فالنساء في غزة منذ بدء الحرب يُسْتَأْصَل أرحامهن نتيجة تعرضهن لنزيف في أثناء عمليات ولادة قيصرية قسرية مبكرة في مستشفيات لا تتوافر بها أكياس دم، وتغلق الندبات وتُقطع الأحبال السرية دون محاليل مطهرة أو مسكنات.
6% نسبة استئصال أرحام النساء في غزة
تعد مستشفى العودة هي الوحيدة الآن التي تقدم خدمات الولادة للنساء في محافظات شمال غزة وغزة والوسطى، بعدما خرج باقي المستشفيات عن الخدمة نتيجة العدوان الإسرائيلي على القطاع، بحسب الدكتور آية عفشة طبيبة النساء بالمستشفى.
لاقت مستشفى كمال عدوان نفس المصير، فكان الأطباء يجمعون حالات الولادة القيصرية بها في غرفة واحدة لتوفير الكهرباء قبل أن تخرج المستشفى عن الخدمة لنقص الإمدادات الطبية، وفق الدكتور أحمد الكحلوت مدير المستشفى لـ«الدستور» بعدما نفذت 16 عملية ولادة قيصرية.
تكشف عفشة لـ«الدستور» أنه منذ السابع من أكتوبر/ تشرين وحتى الآن أجرت المستشفى 1352 عملية ولادة طبيعية و511 ولادة قيصرية 150 منهن أصيبت بنزيف حاد، وبلغت نسبة من استأصلن الرحم منذ بدء العدوان إلى الآن 6% من إجمالي عمليات الولادة.
عفشة هي الطبيبة التي شاركت في عملية الولادة القيصرية لـ«نور» تقول إن وفاة النساء في أثناء عمليات الولادة القيصرية بسبب النزيف الحاد بات متكررًا، وهي أمور كان يمكن التصدي لها قبل الحرب لكن الآن أصبحت مستحيلة لنقص الإمدادات.
«هناك 50 ألف امرأة حامل في غزة 5 آلاف و500 منهن على وشك الولادة، محاصرون في القطاع منذ شهر وهو ما يشكل خطرًا على حياتهن، بينما قصف الاحتلال أكثر من 130 موقعًا طبيًا وصحيًا على نحو مباشر منذ بدء الحرب».
صندوق الأمم المتحدة للسكان
توضح: «يتم جدولة العمليات القيصرية خلال ساعتين يوميًا بسبب محدودية السولار والكهرباء وأكياس الدم، وفي الحالات الطارئة نشغل المولد الكهربائي لإنجاز عمليات الولادة التي تجرى في بعض الأحيان على كشافات الهواتف، فالنساء الحوامل أوضاعهن صعبة للغاية».
11 مستشفى نسائية تخرج عن الخدمة في غزة
يؤكد ذلك الدكتور رأفت علي المجدلاوي، مدير عام جمعية العودة الصحية والمجتمعية لـ«الدستور» بأن هناك 50 ألف امرأة حامل في غزة تأثرت بهذا الصراع، إذ يبلغ عدد المستشفيات الحكومية التي تقدم خدمات الولادة للنساء في محافظتي غزة وشمال غزة 11 مستشفى، خرجت كلها عن الخدمة وذلك بعد 10 أيام من بدء معركة طوفان الأقصى.
ومن لم يخرج عن الخدمة قُصِف، مثلما حدث مع مستشفى الشفاء التي قُصِف قسم الولادة بها في الطابق الخامس في 11 نوفمبر/ تشرين الثاني، بحسب الدكتور محمد سليمة مدير المستشفى لـ«الدستور» .
يبين أن مستشفاه كانت تقدم خدمة الولادة على ضوء المشاعل ودون مخدر أو مطهر أو مضادات حيوية، إلا أنه منذ قصف طابق الولادة توقفت وخرجت المستشفى عن الخدمة بعدما قدمت 19 عملية ولادة منذ بدء الحرب.
المجدلاوي يكشف لـ«الدستور» أن محافظات خان يونس ورفح والوسطى كان بها 5 مستشفيات تقدم خدمات الولادة للنساء قبل أن تخرج عن الخدمة أيضًا، وتصبح العودة هي الوحيدة التي تقدم تلك الخدمة الآن، إلّا أنها تبعد مسافات طويلة عن أماكن نزوح النساء الحوامل ما يزيد معاناتهم.
تؤيده طبيبة النسا آية عفشة، بأن الحصار كان سببًا في سير الحوامل مسافات طويلة كي يجدن مؤسسة صحية تقدم خدمة النسا والولادة، في وقت خرجت فيه سيارات الإسعاف عن الخدمة، ما يؤدي إلى إصابتهن بالنزيف في أثناء العمليات فلا يجد الأطباء حلًا سوى استئصال الأرحام.
«هل يمكن تخيل وضع امرأة حامل في تلك الظروف؟ حياتها مهددة تحت الضربات، وعندما تصل إلى المستشفى تجري العملية بدون تخدير، لا يمكن أن أتخيل أن أكون محل هذه المرأة، كيف يمكن لها أن تتخيل البقاء على قيد الحياة».
ليلى بكر المديرة الإقليمية لصندوق الأمم المتحدة للسكان في منطقة الدول العربية لـ«الدستور»
«امتياز» تلد بلاد مسكنات وتفقد رحمها
تلك المسافة الطويلة قطعتها امتياز حمدان، فلسطينية، سيرًا على الأقدام لخروج عربات الإسعاف عن الخدمة بالقرب من مخيم النصيرات الذي كانت تقطن به، بعدما جاءها المخاض منتصف ليل الثاني عشر من نوفمبر/ تشرين الثاني.
وصلت امتياز إلى مستشفى العودة النصيرات في حالة يرثى لها حسبما تحكي لـ«الدستور»: «أغرقتني الدماء حتى سقطت أمام باب المستشفى بعدما قطعت كل تلك المسافة سيرًا، فلم أجد سيارة إسعاف تقلني للمستشفى الوحيد ووقتها أمر الأطباء بإجراء عملية ولادة قيصرية مبكرة».
لم يتوقف نزيف حمدان بعد إتمام عملية الولادة في ظروف غير صحية بلا تخدير أو مسكن أو مضاد حيوي، فاضطر الأطباء إلى استئصال الرحم لوقف النزيف، فلم يعد بالمستشفى بنك دم: «أجريتها في الظلام على سرير في ممر وليس غرفة عمليات معقمة فكان المستشفى يعج بحالات ولادة».
«تشير التقديرات إلى أن 15% من الولادات على الأقل تنطوي على مضاعفات تتطلب رعاية توليدية وهو أمر غير متوفر في غزة بسبب الحرب»
دومينيك ألين ممثل صندوق الأمم المتحدة للسكان في الأراضي الفلسطينية لـ«الدستور»
50 حالة ولادة يوميًا بطرق بدائية
تدلل على ذلك الدكتورة آية عفشة، طبيبة النساء بالمستشفى، بأن العودة كانت قبل العدوان تقدم الخدمة لـ7 حالات يوميًا 5 ولادات طبيعية و2 قيصري، ولكن بعد العدوان ارتفع عدد الولادات إلى 50 ولادة يوميًا 35 طبيعية و15 قيصرية.
تعيد سبب الارتفاع إلى نزوح سكان محافظتي شمال غزة وغزة إلى الوسط والجنوب بسبب القصف، مبينة أن مستشفى العودة في تل الزعتر أيضًا تواجه تحديًا كبيرًا في المستلزمات الطبية والعقاقير مثل «أكسيتوسين وميسوبروستول» وأكياس الدم، فالأطباء يُقدمون خدمة الولادة بطرق بدائية.
أثر صحي آخر توضحه طبيبة النسا يصيب الحوامل وهو حمى النفاس بسبب لجوء المستشفى اضطرارًا لتقليل فترة مكوث النساء تحت الملاحظة بعد العملية، ففي الولادة الطبيعية كانت 12 ساعة أصبحت ساعتين، والقيصرية كانت 48 ساعة أصبحت ثلاث ساعات، ما يؤدي إلى مضاعفات ما بعد الولادة أهمها حمى النفاس.
صفاء تخرج بعد الولادة وتصاب بحمى النفاس
ذلك ما أصيبت به صفاء نعيم، فلسطينية، أجرت عملية ولادة قيصرية في مستشفى العودة لعدم وجود غيرها في القطاع، دون أن تأخذ أي تخدير أو مسكن بسبب نقص المستلزمات الطبية، وتدهورت حالتها حين أصيبت بنزيف واُستُؤصِل الرحم.
بعد ثلاث ساعات فوجئت صفاء وفق حديثها لـ«الدستور» بضرورة خروجها من المستشفى، بسبب أن الطاقة الاستيعابية لا تتحمل بقاءها أكثر من ذلك الوقت تحت الملاحظة، لم تأخذ معها أي مضادات حيوية أو مسكنات وكان الألم يبلغ مداه ولم تجد أي عقاقير في الصيدليات والمستشفيات الأخرى.
تقول إنها خرجت وعادت لمخيم جباليا في سيارة مدنية، إلا أنها أصيبت بعد مرور 24 ساعة بحمى النفاس (التهاب في بطانة الرحم)، وارتفعت درجة حرارتها إلى 38 درجة مئوية لمدة يومين متتاليين، وعالجتها أمها بطرق بدائية داخل الخيمة.
حمى نفاس ونزيف ما بعد الولادة
يُرجع الدكتور فيصل القاق، استشاري أمراض النسا بالجامعة الأمريكية ومنسق اللجنة الوطنية للأمومة الآمنة في اليونيسف لـ«الدستور» ما حدث مع صفاء إلى عدم تناولها مضادات التهابات بعد الولادة القيصرية مباشرة والتي تمنع التهاب الرحم وارتفاع درجة الحرارة وهو ما يعرف باسم «حمى النفاس».
رصدت اللجنة 25 سيدة حاملًا في غزة أصبن بحمى النفاس، والتي تحتاج بحسب القاق إلى تدخلات طارئة بالأمصال الإضافية والعلاجات الموضعية والعامة إلى جانب 10 حالات أخرى أصبن بما يسمى «نزيف ما بعد الولادة» والذي تحتاج فيه الحالة إلى أكياس دم لوقف النزيف.
يوضح القاق أن الولادة القيصرية مثل أي عمل جراحي يتطلب إشرافًا مهنيًا وغرفة عمليات معقمة وإجراءات للتخدير وعقاقير منع الألم ومضادات حيوية لمنع حدوث أي التهابات، ولكن كل تلك الأمور ليست متوفرة في مستشفيات غزة ما يؤدي إلى حدوث جلطات ونزيف والتهابات للنساء الحوامل في أثناء عمليات الولادة.
إلى جانب ضرورة وجود بنك دم للتدخلات الطارئة، ففي حال حدوث نزيف دون أكياس دم ليس هناك حل سوى استئصال الرحم: «ما يحدث في غزة خارج إطار أدنى درجات الإنسانية ومقومات إجراء الأعمال الجراحية التي يكون فيها ضمان لحياة النساء».
«آلاف النساء في غزة يخاطرن بحياتهن من أجل الولادة، ويخضعن لعمليات قيصرية وعمليات طارئة دون تعقيم أو تخدير أو مسكنات، ولا بُد من أن تتمتع النساء برعاية صحية جيدة والحق في الولادة في مكان آمن»
ريهام جعفري - مسؤولة التواصل والمناصرة في منظمة «أكشن إيد» فلسطين (منظمة دولية غير حكومية) لـ«الدستور»
3 من كل 5 عمليات ولادة يُستَأْصَل الرحم
لم يكن النزيف وحده الذي دفع أطباء مستشفيات غزة لاستئصال أرحام النساء الحوامل في أثناء عمليات الولادة القيصرية، ولكن هناك حالات أيضًا لانفصال المشيمة أدت إلى استئصال الرحم، وفق الدكتور أمية الخماش، مدير مؤسسة جذور المتخصصة في قضايا الصحة العامة وكذلك أمراض النساء في غزة (غير حكومية).
رصدت مؤسسة جذور حالات استئصال الأرحام لحوامل شمال غزة بمعدل 3 حالات لكل 5 عمليات ولادة قيصرية يتم فيها استئصال الرحم، نتيجة حدوث نزيف أو انفصال المشيمة، وهو الأمر الذي يحذر منه الخماش بأن من تداعياته الوفاة.
ويوضح لـ«الدستور» أنه بعد العدوان تزايدت حالات انفصال المشيمة نتيجة تعرض الحوامل لضغوط القصف والخوف والحياة غير الصحية: «المشيمة في العادة تخرج بعد الولادة ولكن انفصالها وقت الحمل يعد خطرًا، ونظرًا لعدم توافر الدم وجاهزية المشافي والطلب الشديد عليه، فإن الحل الوحيد أمام الجراحيين هو استئصال الرحم لوقف النزيف».
ما زالت الطبيبة أية تتذكر محاولاتها في إنقاذ نور قبل استئصال رحمها وموتها بسبب النزيف، بينما ضاع حلم «امتياز وصفاء» في الإنجاب بعدما فقدنا الرحم في أثناء الولادة، لكن الاحتلال ما زال يحاصر قطاع غزة ويقصف أقسام الولادة بالمستشفيات.