بيّاع «الوظائف»
هو أقدم بائع للوظائف فى مصر، وفوق ذلك كان يبتاع مواهب الغير وينسبها إلى نفسه. قد يسرح ذهنك فى أسماء عرفها تاريخنا القريب أو الوسيط، وتستدعى اسمًا أو اثنين أو أكثر اشتهروا بذلك، لكننى أنبهك إلى أننا نتحدث عن تاريخنا البعيد، وتحديدًا عن العصر الفاطمى، الذى ظهرت خلاله هذه الشخصية التى استغلت موقعها ونفوذها لبيع وظائف الدولة المهمة وقبض ثمنها، ولم تكتف بذلك، بل اتجهت إلى السطو على مواهب الغير وشرائها ونسبها إلى نفسها. إنه «طلائع بن رزيك» وزير الخليفة الفائز، الذى سبق الخليفة العاضد- آخر خلفاء الدولة الفاطمية- على منصة الحكم.
«طلائع بن رزيك» كان واليًا على كل من «الأشمونين» و«البهنسا» أيام الخليفة «الظافر»، وقد حكيت لك أنه كان يراقب ما فعله الوزير عباس بن أبى الفتوح وولده نصر حين قتلا الخليفة «الظافر»، ثم الأمر الذى أصدره «عباس» بقتل شقيقىّ الخليفة: الأميرين يوسف وجبريل، ثم نقل الحكم إلى «الفائز» وكان حينها طفلًا لم يتجاوز السنوات الخمس على أقصى تقدير. وبمجرد انتشار الخبر فى القاهرة، هاج الناس وماجوا، وأرسلوا إلى «ابن رزيك» يستنجدون به، ليتحرك بعدها سريعًا من البهنسا إلى القاهرة، ويدخلها دون مقاومة، ما دفع عباس ونجله إلى الهرب إلى ناحية الشام، حيث قُتل «عباس» على أبوابها على يد الفرنج، وقبض على ولده نصر، وسيق إلى القاهرة، ليُصلب على باب زويلة.
سيطر «طلائع بن رزيك» على الدولة بعد اعتلاء «الفائز» سدة الخلافة، فقد كان الأخير طفلًا صغيرًا مريضًا، يعانى من داء الصرع، نتيجة المشهد الدامى الذى فتح عينيه عليه، حين حمله «عباس»، ووقف به أمام جثتى عَمّيه المضرجتين بالدماء، ليبايعه الأمراء بالخلافة. استفرد «ابن رزيك» بالحكم وامتلك وحده سلطة صناعة القرار، وقد استغلها أسوأ استغلال، وحاول استثمار موقعه فى جنى أكبر قدر من المكاسب، وحصد أكبر حصيلة من المغانم. يقول «ابن تغرى بردى» فى كتابه «النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة»: «باع طلائع بن رزيك الولايات للأمراء، وجعل لها أسعارًا، ومدتها ستة أشهر، فتضرر الناس من تردد الولاة عليهم كل ستة أشهر».
الواضح أن «ابن رزيك» وضع تسعيرة محددة ومناسبة لكل ولاية. فدمياط لها سعر، وقوص بسعر، والبهنسا بسعر، وهكذا، ومن يُرد فعليه أن يدفع الثمن. وكان هناك الكثير من المريدين والراغبين، وقد استغلهم «ابن رزيك»، وحصد منهم الكثير. ولم يكن المال الذى يدفعه الحالم بموقع ولاية يروح هباءً، بل كان من يدفعه يجمع أضعافه، عن طريق إرهاق الأهالى بالضرائب، ونهب أموالهم وممتلكاتهم. الكل يتاجر فى الرعية، والرعية مغلوبة على أمرها، وكل ما كانت تفعله هو التعبير عن ضجرها، من حين إلى آخر، من التغيير المستمر فى ولاة الأقاليم، لأن كل والٍ جديد بمدفوعات جديدة يعلمون أنه سيفرضها عليهم. والملفت أن العثمانيين تأثروا بهذه السنة الفاطمية حين حكموا عددًا من البلاد العربية، ومن بينها مصر. فقد كان الوالى يتولى الحكم بعد أن يقدم الهدايا والرشاوى للباب العالى، لمدة ثلاث سنوات، وبعد أن يتم اختياره، يقوم بتحصيل المقابل أضعافًا مضاعفة من الأهالى. وتشير العديد من الكتابات التاريخية إلى أن هذا النهج تواصل، حتى بعد تأسيس مصر الحديثة فى عصر محمد على، فما أكثر ما دفع الخديو «إسماعيل» من هدايا ورشاوى للباب العالى حتى يستصدر فرمانات تنص على أن تكون وراثة الحكم من بعده فى أولاده. وفى عصر «إسماعيل» ظهرت شخصية وزير ماليته «إسماعيل المفتش» الذى كان يبيع الوظائف الميرى، مقابل مبالغ مالية وهدايا سخية، وكوّن ثروة هائلة استغل فيها نفوذه. وقد رصدت رواية «القاهرة الجديدة»، لأديب نوبل «نجيب محفوظ»، استمرار هذه الظاهرة خلال النصف الأول من القرن الماضى. فمع تصاعد الأزمة المالية العالمية أواخر العشرينيات شحّت الوظائف، ووصلت إلى حد الندرة، وأصبح الحصول على الوظيفة مدفوع الثمن.
العجيب أن من يترخص فى البيع يترخص أيضًا فى الشراء، حتى ولو كان الأمر يتصل بموهبة ينعم بها شاعر فقير مسكين لم تُتح له الشهرة، واضطرته الظروف لبيع شعره وإبداعه من أجل الحصول على ما يقتات به هو وأولاده. وقد كان طلائع بن رزيك يهوى «الشراء» مثلما يحب «البيع». ففجأة أدركته حرفة الأدب، وباغته شيطان الشعر، فانطلقت موهبته، وأصبح شاعرًا صنديدًا، وجعل لنفسه مجلسًا أكثر الليالى يدعو إليه أهل الأدب ليسمعوا إبداعه فى الكَلِم. كان من مصلحة الكثيرين حضور مجالسه هذه نفاقًا له وزلفى إليه، حتى ينالوا مغنمًا، أو مصلحة غير مدفوعة الثمن. ولم يكن المستمعون يكتفون بذلك من أجل إرضاء «ابن رزيك»، بل كانوا يعملون على نشر شعره وتسميعه فى كل اتجاه، حتى يرضى عنهم. والملفت أن «ابن تغرى بردى» يذكر فى كتابه «النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة» أن الغالب أن شعر «ابن رزيك» مبتاع من شاعر اسمه «ابن الزبير»، أو فى أقل تقدير كان الأخير يصلح له شعره. والشاعر «ابن الزبير» هو: الحسن بن على بن إبراهيم بن الزبير الملقب بالقاضى المهذب، كان كاتبًا مليح الخط، حسن العبارة، جيد الألفاظ، واختص بالصالح «ابن رزيك»، ويقال إن أكثر الشعر الذى فى ديوان الصالح إنما هو من شعر المهذب، وحصل له من مال الصالح شىء جم.
كأن مقولة «كل شىء يُشترى فى عصرنا حتى الأصابع» تصلح لكل زمن أو عصر.