وما علينا إن لم يفهم «البقر»!
كان البحترى شاعرًا كبيرًا يقول كلامًا واضحًا ناصعًا مفهومًا.. لكن البعض كان يتغابى ويتظاهر أنه لم يفهم ما يقوله البحترى رغم أنه واضح وضوح الشمس، ولا يحتمل اللبس أو التأويل.. ولأن البحترى كان يعرف جيدًا سوء نية من تظاهروا بعدم فهمه أو فهم أشعاره أحب أن يضع نهاية للموضوع فقال لمن سأله: «علىّ نحت القوافى من مقاطعها.. وما على إن لم تفهم البقر».. أرى أن الرئيس السيسى يقول كلامًا واضحًا، مفهومًا، صريحًا، لا يحمل معنيين تمامًا كما كان البحترى يفعل، لكن كتائب الذباب الإلكترونى تتبادل نصًا موحدًا لا يحمل سوى التشكيك أو المزايدة.. منذ بداية الأزمة ومع ظهور أول اقتراح بتهجير أهل غزة لسيناء.. يخرج الرئيس يوميًا تقريبًا ليقولها بلغة واضحة، قاطعة، جازمة.. لا لتصفية القضية الفلسطينية، لا تهجير لأهل غزة إلى مصر، لا تفريط فى شبر واحد من أرض مصر.. قالها الرئيس فى كل مناسبة دارت على أرض مصر خلال العشرة أيام الماضية.. قالها فى حفل تخرج طلاب الكلية الحربية مرة، وقالها عقب لقائه وزير الخارجية الأمريكى مرة، وقالها عقب لقائه المستشار الألمانى مرة، وقالها مؤخرًا فى مؤتمر القاهرة للسلام الذى جاء كرد دبلوماسى مهنى على أعلى مستوى ضد ممارسات إسرائيل، والأكيد والمنطقى أنه قالها مرات فى محادثات تليفونية مع رؤساء وفى رسائل مشفرة لدول، وفى محادثات خاصة مع مبعوثين جاءوا يحملون الفكرة.. وفوق هذا وذاك قالتها الدولة المصرية بتحركات مادية وتصرفات على الأرض، بعضها معلن مثل حفل تخرج طلاب الكلية الحربية، ومثل مناورات القوات المسلحة بالذخيرة الحية، وبعضها غير معلن كما هو شأن معظم تحركات الدول وأجهزتها المختصة.. ولأن الأعداء وطابورهم الخامس فى مصر يعرفون أن كل هذه الرسائل جادة، وأن كل هذه التحذيرات صادقة، وأن كل هذه التهديدات ستتحول لنيران تلهب العدو إذا تم المساس بمتر مربع واحد من سيناء.. لذلك.. ولذلك فقط أطلقوا لجانهم.. وبدأوا رحلة التشكيك.. وقلب المعنى من النقيض إلى النقيض.. فالبعض يقول إنه متشكك والبعض يقول إنه قلق، والبعض يقول إنه خائف! والبعض يقول إن التفويض بالحرب يعنى عدم الحرب! وإن التفويض بالقتال يعنى عدم القتال! وإن التفويض بالدفاع يعنى عدم الدفاع! وهو مستوى ذكاء يليق بـ«البقر» فعلًا.. لكن القصة ليست قصة ذكاء أو غباء.. ولكنها قصة خيانة.. وقصة تخديم على موقف إسرائيل، وقصة شق للصف الوطنى فى مواجهة الأعداء، وقصة إضعاف لموقف مصر فى نصرة فلسطين التى طالما تاجر الإخوان بقضيتها فى حين أنهم دون غيرهم سبب نكستها.. لقد عقدت مصر مؤتمرًا عالميًا واستضافت مسئولى العالم كله لتعلن أمامهم موقفها فى رفض تهجير الفلسطينيين من أرضهم، وفى رفض تصفية القضية، ولكى تعلن أيضًا أن الحل الوحيد والمنطقى للصراع هو وقف إطلاق النار أولًا والبدء فى مفاوضات لإقرار حل الدولتين ثانيًا.. وهو الحل الوحيد والمنطقى الذى يمنع تكرر الصدامات والحروب التى تتكرر بشكل دورى منذ ٢٠٠٨، فضلًا عن عقود سابقة من الصدامات والعمليات والعمليات المضادة.. إن تكرار الأحداث فى غزة صار يشبه أحداث الفيلم الكوميدى «ألف مبروك» للفنان أحمد حلمى، والذى تتكرر فيه أحداث حياته أمام عينيه كل يوم ويطمع هو فى نهاية مختلفة لها.. لكن النهاية تكون دائمًا واحدة.. لأنها هى النهاية التى كتبها القدر.. وإسرائيل تكرر أحداث حياتها فى الحرب على غزة فى ٢٠٠٨ و٢٠١٢ و٢٠١٤ وبينهما حروب أخرى أصغر وأكبر.. وفى كل مرة تتكرر نفس النهاية.. لا المقاومة تنتهى ولا تنتصر ولا إسرائيل تنتهى ولا تنتصر.. لذلك لا بد من بذل الجهد لجعل حل الدولتين حلًا واقعيًا.. خاصة أنه الحل الوحيد الذى يمكن بعده حصار حماس وتقليم أظافرها وهدم شرعيتها المرتبطة بمقاومة الاحتلال.. فإذا انتهى الاحتلال انتهى جزء كبير من مبررات وجود حماس بالصورة التى هى عليها الآن وانتهت شرعيتها.. أما استمرار الاحتلال العنصرى والاستيطان المغتصب واستمرار قصف الأطفال وذبح المدنيين وحصار غزة طوال الوقت فهو يمنح حماس مزيدًا من الشرعية والتعاطف، ليس فقط فى غزة ولكن فى العالم العربى كله.. وبالتالى فإن ما تدعو إليه مصر هو الحل السياسى والإنسانى المنطقى الذى يحمى حياة الفلسطينيين ويضمن صعود قيادات جديدة معتدلة من جيل جديد.. يحتاجها المشهد الفلسطينى.. وربما كان هذا هو سر توحد أذناب الإخوان فى مصر مع إسرائيل وسعيهم للتشكيك فى جهود مصر لحماية أرضها وللتعامل مع إسرائيل بالقوة اللازمة لكى تفيق من سكرتها ونشوة الانتقام التى سيطرت عليها.. فمصلحة الإخوان فى مصر هى نفس مصلحة المتطرفين فى قيادة إسرائيل وعدوهما واحد وهو جيش مصر الوطنى وقيادتها السياسية، لذلك ينبح الذباب الإلكترونى للطرفين بنفس المعانى تقريبًا.. أليس كذلك؟