«ع» الهادى
لدىّ زاوية معينة أحلل بها أداء مصر السياسى بشكل عام، وفى الأزمة الأخيرة بوجه خاص.. رغم كل محاولات تأزيم الوضع فى مصر فإن مصر ورئيسها يلعبان «ع الهادى».. لا تشنج ولا انفعال ولا عبارات كبيرة.. فقط معانٍ قوية وتصرفات على الأرض وتحركات احترافية.. هناك من ظن أنه يمكن تهميش دور مصر لمجرد الخوف منها.. سمعنا عن اتفاقات تطبيع وممر اقتصادى ومليارات كثيرة هنا وهناك.. ماذا كانت النتيجة؟ انفجر الفلسطينيون بشكل غير مسبوق وتمت إهانة العسكرية الإسرائيلية لدرجة لم تتكرر سوى منذ نصف قرن فى ٦ أكتوبر ١٩٧٣.. لو سألوا مصر لكانت تنبأت بالنتائج وأرشدتهم للطريق القويم.. يقول المثل «لا ينبئك مثل خبير»، ومصر أكبر خبير بالقضية الفلسطينية منذ عقود.. وخبرتنا ممزوجة بالتضحيات والدماء والأرواح.. لكن هناك من أراد أن يواصل الحماقة.. سمعنا عن أفكار غير مسئولة عن ترحيل أهل غزة لسيناء.. ربما مصدرها الرئيسى من أمريكا.. إذن هناك إصرار على عدم الفهم.. هناك أكثر من مسئول أمريكى يمكن وصفه بأنه جاهل بشئون المنطقة وبقرار مصر.. «رضى عن جهله ورضى عنه جهله» كما يقول العظيم طه حسين.. على خلفية من السخافات تجاه مصر جاء وزير الخارجية الأمريكى لمصر وقد سبقته مجموعة هدايا سخيفة مثله ومثل إدارة الديمقراطيين كلها.. حجب لجزء من المعونة.. تلفيق قضية لا شأن لمصر بها.. وهكذا.. أهلًا وسهلًا.. كان لا بد من درس من مصر لوزير خارجية أمريكا، وقد لقّنه الرئيس الدرس على أفضل ما يكون.. فى الصباح كان اجتماع مجلس الأمن القومى وتوصيته بعدم استقبال أهل غزة فى سيناء.. وكأن مصر تقول لبلينكن: قضى الأمر الذى فيه تستفتيان.. لكن هناك مجموعة دروس أخرى لبلينكن.. على يد الرئيس.. هكذا قالت الصحافة الأمريكية.. أول هذه الدروس أن هناك فرقًا بين اليهودية كدين وبين الصهيونية كمذهب سياسى.. وأن المصريين لم يكونوا أبدًا أعداء لليهود.. قال الرئيس إنه نشأ فى حى فيه يهود قريبًا من حارة اليهود.. نبح الإخوان على هذا التصريح لأنهم جهلة.. ودافع البعض بأن الرئيس ولد مع بداية هجرة اليهود من مصر.. وأنا أظن أن تصريح الرئيس له جانب رمزى من ناحية.. لأنه ما زال لدينا طائفة يهودية فى مصر ولا أحد يمسها بسوء.. وواقعى من ناحية أخرى لأنه رغم هجرة معظم اليهود المصريين فإنه بقى منهم من اختاروا البقاء فى مصر، وبعضهم كان ضد إسرائيل كدولة وضد الصهيونية كفكرة، ومنهم المحاميان الكبيران شحاتة هارون ويوسف درويش، وهناك المفكر اليسارى أحمد صادق سعد الذى أشهر إسلامه تضامنًا مع ديانة غالبية المصريين.. وفوق هذا كله فإن هناك طوائف من اليهود المتدينين تعادى إسرائيل وترى قيامها مخالفًا لنبوءة التوراة.. وبالتالى فإنه على لجان الإرهاب أن تتخلى عن جهلها وأن تعرف الفرق بين اليهود والصهاينة.. الدرس الثانى أن اضطهاد اليهود الذى شكا منه بلينكن قائلًا: «جئت إلى إسرائيل كحفيد لأسرة يهودية تم اضطهادها» هذا الاضطهاد حدث فى أوروبا.. فى إسبانيا بعد خروج المسلمين، فى فرنسا أثناء قضية «دريفوس»، فى ألمانيا مع صعود النازية.. أما فى مصر فقد كان لدينا وزير يهودى هو قطاوى باشا.. وكان لدينا الخواجة اليهودى الطيب «إيزاك عنبر» الذى منح نجيب الريحانى المحل الخاص به فى فيلم «لعبة الست»، وكان لدينا «حسن ومرقص وكوهين».. هذا هو المعنى الحضارى الذى عبر عنه الرئيس السيسى.. لكن الذباب الإلكترونى يزعجه تألق مصر.. من أنشطة الذباب الإلكترونى أيضًا نشر تقارير مختلقة وكاذبة عن قبول مصر لتوطين الفلسطينيين فى غزة فى موقع ذى تمويل أجنبى دون التزام بأى معايير مهنية أو أخلاقية وفيما يبدو تنفيذًا لأجندة مشبوهة بالفعل لا بالكلام.. من أنشطة الذباب الحائر أيضًا ذلك الهجوم على لاعب مصر العبقرى محمد صلاح الذى يثير غيرة الجميع، سواء الأندية التى رفض التوقيع لها.. أو بعض التافهين من رعاة هذه الأندية ومالكيها، أو أعضاء الجماعة الإرهابية الذين يزعجهم نجاح هذا اللاعب الوطنى ذى الانتماء الإنسانى الذى يمثل واجهة رائعة لمصر فى الكرة العالمية ولدى الغرب بشكل عام.. لقد تبرع صلاح بمبلغ ضخم للغاية لمساعدة أهل فلسطين فى حين لم نسمع أن منتقديه ومموليهم قد تبرعوا بشىء يذكر.. ستجىء الأيام وتروح، وسيدرك الأمريكيون والإسرائيليون أن صوت مصر هو الصوت الوحيد الذى يجب الاستماع له، وأن حل الدولتين الذى تتبناه مصر هو الحل المنطقى الوحيد، وأن مصر هى التى تستطيع أن تحسم على الأرض وأن «تحل» كما يقول أبناء البلد فى نزاعاتهم.. أما ما عدا ذلك فهو كلام فارغ.. أو «طق حنك» كما يقول الإخوة فى لبنان.. وما أكثر الكلام الفارغ هذه الأيام.